مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر الدكتور مصطفي رجب يكتب:حديث الجُرُون.. ذو شجون !!

2025-12-09 02:41 AM - 
الشاعر الدكتور مصطفي رجب يكتب:حديث الجُرُون.. ذو شجون !!
الشاعر الدكتور مصطفي رجب
منبر

حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين ، كانت حياة الناس في الصعيد رتيبة الوتيرة ، بطيئة الإيقاع ، شديدة الشُّحّ ، فلم يكن أهل الصعيد يرون أوراق العُملة إلا مرتين اثنتين في السنة : وقت جني القطن وتوريده إلى الحكومة أو لكبار التجار ، ووقت حصاد القمح ، ففي هذين الموسمين تتحدد مواعيد الزواج عادةً في أعقاب فرحة " قبْض" أثمان المحاصيل وإمكانية دفع المهور وتأثيث بيوت الزوجية المتواضعة .
وكان لأيام حصاد القمح ، ودَرْسِه ، طقوس ذات بهجة متجددة ، بعد انتظار نصف العام تقريبا لحلول هذه الفرحة [ حيث يزرَع القمح عادة في النصف الثاني من نوفمبر ، ويتم الحصاد في أواخر أبريل في الدلتا وأوائل مايو في الصعيد ] فكانت السهرات الليلية – خصوصا في الليالي المقمرة - حول " جُرُون = جمع جُرْن " القمح مناسبات مفتوحة لحفلات سمر متجددة الإبداع ، ولجلسات  وسهرات العشاق  البريئة ، تحت غطاء اجتماعي مقبول ،  وأيضا كانت سهرات الجرون فرصة للإبداع الفني ، حيث  يتبارى خلالها الشعراء الشعبيون في المساجلات  القائمة على الارتجال في الإبداع مع التزام الوزن والقافية ، وأحيانا يتبارى الحكَّاؤون الذين يمرون على حراس الجرون الساهرين ، فيمطرون حلقات السهرة بالحكايات الشعبية الغريبة الممتعة ، لا سيما تلك الحكايات المعروفة باسم ( أولها كِدْب وآخرها كِدْب ) أو بالتباري بالموال ( المربَّع ) بين شاعريْن ، ويتكون من بيتين وهو مزدوج القافية ، بمعنى أن نهاية الشطرين الأولين متقاربة من الناحية الصوتية ، وكذلك نهاية الشطرتين الأخيرتين ، ويطلق الفنانون الشعبيون على هذا النوع من الموال اسم "المربع" ومن أمثلته :
                      الصاحب اللّي تِدَاديه  وتْبَان منّه الوجيعة 
                      كيف العَمَلْ يابَطَلْ فِيهْ تِشْرِيه ولاّ تِبِيعِهْ؟ 
 ويشيع استخدامه للألغاز والتحدي بين شاعرين ، والمثال السابق من هذا النوع ويكون جوابه :
الصاحب اللي أَدَادِيهْ......  وتْبَان منّه الوجيعة
إِنْ مَال في المال اَدَادِيهْ ....  وان مال في العِرْض ابيعِه!!
[إذا كان انحراف الصاحب فيما يتعلق بالمال فمن الممكن التسامح معه ، أما إذا كانت اساءته تتعلق بالعرض فلا بد من الاستغناء عنه .] 
أو :
أنا برضه افْضَلْ اداديه ....وفي القول يعرف خَلاَصُه
وأسيّب السُّرعَ لِيه...... لَمَا يلطم السدّ راسُه !!

[تعبير يعرف خلاصه يعني : فليستمر وليتحمل نتيجة استمراره ، وكلمة أسيّب (بتشديد الياء) بمعنى اترك والشطرة تعني : اترك له الحرية ، السُّرْع ( بضم السين المشددة) : كاللجام ، أما تعبير "يلطم السدّ  راسه" فهو مصطلح دارج يعني حتى يتأكد بنفسه بالخبرة المباشرة . ] 
 
 وقد يستخدم هذا النوع من الموال في "المحاجة" أو "التحاجي" أو "الالغاز" بين شاعرين في ميدان المنافسة ، وفي هذه الحالة تكون بنيته اللغوية أكثر تعقيدا مثل :  
فيه مَدْنه طُولْها برَجْلين..... ما حَدّش قِدِر يخْتَطَاها
جاها راجل اعرج بَرَجْلِين.... كَسَرْ قفْلِهَا واخْتَطَاهَا

 فالسؤال هنا عن مئذنة يقدر طولها بطول رجلين يقف أحدهما فوق الآخر وهذه المئذنة لم يستطع أحد تجاوزها ، حتى جاءها رجل عجوز عاش عمر جيلين (براجيلين) فتخطاها . وتكون طريقة الحل بهذا الشكل الحواري ، وليست شعرا كما هو الحال في المثال الأول .
 وقد يستخدم هذا النوع للتسلية والتفكه عن طريق المحاورة مثال ذلك :

إنْ كنت راجلْ وفنَّانْ .....  وتبان عليك الشطارة
قلْ لي السما  كام فدان ؟..... وادِّيك عنها أمارة !!
 
 يطلب من صاحبه أن يحدد له مساحة السماء وسيصدِّق على كلامه إذا كانت إجابته صادقة وصحيحة ، وهنا يكون على المسؤول أن يتهرب من الاجابة بتعجيز محاوره بأن يطلب منه أن يبدأ هو بقياس طول السماء وعرضها ، فيقول :

صلاة النبي تِمْنع ابليسْ ... هيَّ الفايدة والتجارة
اسحبْ قَصَبْتَكْ و قِيسْ...  وانا وَرَاك انكِّت حجارة !!
 ان عملية " تنكيت الحجارة" أو دق الحجارة الصغيرة أو العصيّ الخشبية يمارسها الفلاحون خلال "الطَّرْد" وهو تحديد الفواصل بين الحقول ، ويتم ذلك بالتعاون بين شخصين أو أكثر ، أحدهما يقيس الأرض باستخدام القَصَبة (وهي وحدة قياس الأرض الزراعية في القرى وطولها 24 قبضة يد أي ما يساوي حوالي ثلاثة أمتار وربع المتر) ويقوم الآخر بدق العصيّ أو غرس أحجار طويلة ظاهرة ، ثم تنشأ على الحد قناة أو فاصل من الطين . فالشاعر هنا يطلب من سائله أن يمسك بالقصبة ويقيس وسيتولى هو دق الحجارة وراءه لتحديد مساحة السماء .

المكانة النفسية للقمح في الصعيد :

كان الخبز السائد في الصعيد حتى خمسين عاما مضت هو الخبز المصنوع من دقيق الذرة الرفيعة ( العويجة) حيث تُطحن حبوبها مع قليل من حبوب الحِلبة ، ويؤكل ساخنا بعد خبزه مباشرة فيكون مقبولا ، وكان اسمه السائد ( عيش القِيضي) وبه بعض مرارة الحِلبة ، وسريع الجفاف والتصلب ، بحيث يمكنك في اليوم الثاني أن تفتح به دماغ أي شخص تقذفه به !!  
أما ( عيش القمح ) فلم نكن نراه إلا يوم السوق الأسبوعي للقرية ، أو في  الأفراح ومناسبات الزواج  ، وقد تكتفي الأسرة كثيرة العدد بخبز  ( رَصَّة) واحدة ( = أربعة أو خمسة أرغفة) ثم يقوم الأب بتقسيم الرغيف لثلاثة أو أربعة من الأبناء ليأتدموا به مع ( عيش القِيضي) !! فيحلّ رغيف القمح محل المِشّ أو الجبن أو الويكة (= البامية ) كإدام !!
وكان الشعير  هو المنافس الثاني للقمح بعد القيضي ( الذرة الرفيعة) غير أن تخصيص الشعير كغذاء للخيل والماشية [ قبل التوسع في صناعة الأعلاف ] جعله غير مقبول نفسيا كغذاء للإنسان ، وقد انعكس هذا التحيز النفسي للقمح ضد الشعير على الثقافة الشعبية فيقول الفلاحون  في تعبيراتهم الموروثة  :
-      صاع قمح ولا أردبّ شعير
-      قمح ولا شعير ؟ [ للاستفسار عن النجاح في مهمة ، مثل : سبع ولا ضبع ؟ ] 
  كما ارتبطت بالقمح أمثال شعبية أخرى تختلف دلالاتها من حيث أصل الوضع أو من حيث مناسبات الاستعمال  ، فكما قلنا منذ قليل يكون موسم الحصاد في النصف الثاني من أبريل في الدلتا ، وفي أوائل مايو في الصعيد ، ويكون هذا التوقيت في شهر هاتور القبطي وهو من مقدمات فصل الصيف ، ويربطون بينه وبين موسم حصاد القمح فيقولون (هاتور أبو الدهب المنتور) ،   فليس غريبا أن  يحتفظ الفولكلور الشعبي بهذا المثل الذي يضربونه للدلالة على حتمية القضاء والقدر:
-  " تروح فين الشمس عن قفا الحصَّادين ؟  "

كما نجد في الفولكلور مثلا آخر ذا صلة بموسم الحصاد ، يعكس خُبْث الفلاحين وما كان يشيع بينهم من انتقام بحرق " جرون" خصومهم وتسميم مواشيهم ، فيقولون  في تعبيراتهم الموروثة  تحريضا واستعدادا لإيقاع الأذى بالخصوم  :
- " اللي ناوي على حرق الجرون يولع قبل الحصاد " 
ويقولون للرجل دائم العبوس والتقطيب :
- فلان (ما يضحكش للرغيف السُّخْن )
ويقولون للرجل عديم الضمير والخلق وناقص الدين  إذا طلبوا منه الحلف لتبرئة ذمته من تهمة سرقة الدقيق ، فيسرع لزوجته من قبل أن يحلف ويأمرها بأن تشرع في تحليل (= نَخْل ، غربلة ) الدقيق استعدادا للعجين والخبيز :
- " قالوا لحرامي الدقيق احلف ..  قال لزوجته : يا مَرَة انْخُلي " 

 وتتمثل ترتيبات موسم الحصاد في خطوات تراتبية ثابتة هي :
1- حصد القمح وربطه حزما صغيرة وتحميله على ظهور الجِمال إلى منطقة واسعة على أطراف القرى مخصصة للجرون 
2-  رص تلك الحزم بشكل دائري يسمى الجرن
3-  التعاقد مع صاحب " نورج " لاستئجارها لدَرْس الجرن حيث لم يكن بوسع كل فلاح بسيط تملك نورج غالية الثمن 
4- تدبير بقرتين لجرِّ النورج فوق الجرن يوما أو يومين لتنعيم القمح 
5- استئجار " دَرَّاية " [ = ألة تعمل بموتور جاز تذرو القمح لفصل الغلال عن التبن] 
6-  وأخيرا نقل الغلال إلى " صوامع " مصنوعة من روث المواشي المجفف في البيوت لتخزين القمح بقية العام .

مساحة إعلانية