مساحة إعلانية
تحتفل كازاخستان اليوم العاشر من أغسطس بالذكرى 180 لمولد الشاعر والمفكر والمربي الكبير آباي كونانباي، حيث تأتي تلك الاحتفالات هذا العام في العام المخصص للكتاب في كازاخستان، والذي أعلن عنه الرئيس قاسم جومارت توقايف في شهر أبريل الماضي.
ولد آباي كونانبايف في 10 أغسطس عام 1845، في جبال جنكيز في أوبليس سيميبالاتينسك، وكان والده، قونانباي أوسكنباي، حاكمًا وشيخًا لقبيلة توبيقطي، وكانت عائلته من العائلات البارزة في كازاخستان. تلقي منذ نعومة أظافره تعليمًا أدبيًا وإنسانيًا عميقًا، فأحب الكتب والشعر متأثرًا بوالدته أولجان وجدته زهرة التين، اللتين كان حبهما له منارة في مشوار حياته، فوالدته هي التي منحته إسم آباي، كتدليل لإسم إبراهيم، خاصة أن كلمة آباي تعني بالكازاخية "المأمل الحذر"، ومن ثم اتخذ هذا الاسم كاسم أدبي عرف واشتهر به. توفي آباي قونانباي عام 1904، وتقديرًا لدوره الأدبي، فقد تم إقامة تمثال له في حديقة الصداقة بالقاهرة في 13 أكتوبر 2016، تخليدًا لذكراه، ورمزًا للصداقة التاريخية التي تربط بين شعبي مصر وكازاخستان.
بدأ في سن مبكرة الاطلاع علي الأدب الشعبي، ودرس في البيت علي يد أحد الشيوخ، ثم واصل الدراسة في مدرسة الإمام أحمد رضا، بمدينة سيميبالاتينسك، فاطلع علي الأدب العربي والفارسي، وقرأ ما كتبه الفردوسي، ونظامي وسعدي وحافظ الشيرازي وغيرهم، فتركت آراؤهم الإنسانية أثرًا عميقًا في نفسه. وكان يصرف الليل والنهار مع زملائه في حفظ نصوص القرآن وأداء فرائض الإسلام كالصلاة والصيام، كما درس الفقه الاسلامي، وعمل علي توسيع دائرة اهتماماته ومعارفه، حيث سيطر عليه في وقت مبكر الولع بالشعر، وقد تولد لديه حبه عندما كان يستمع إلى حكايات وذكريات الجدة زيرا، راوية الحكايات القديمة، وعن هذه الجدة كان يحفظ عن ظهر قلب الحكايات والأساطير وقصص الأبطال والأغاني التاريخية التي كان قد سمعها في القرية، أي الابداع الفني المتنوع للشعراء الشعبيين والمغنين في سهوب كازاخستان الشاسعة.
خلال دراسته بمدرسة الإمام أحمد زاد ولعه بشعراء الشرق، فقد كان يلجأ إلى الأدب الشعبي الكلاسيكي، وتميز منذ الصغر بالفصاحة وحبه للخطابة، واستطاع أن يصبح من أساطين فن الخطابة الرائعة، وتعلم تقدير الكلمة الشعرية تقديرًا عاليًا، وكان خلافًا لإرادة أبيه اهتم بالمنشدين الشعبيين وأتقن نتاج كافة الشعراء والزجالين والنظامين السابقين الذين كانوا يتبارون في ما يشبه "سوق عكاظ" ، من أجل الفوز بإمارة الشعر. ومن ثم كانت حياته رمزًا لتحول ثقافى فى المجتمع القازاقى. فقد أتاحت له اللغة الروسية التى تعلمها منذ صغره أن يقرأ الأعمال الأدبية لبوشكين وليرمنتوف وكرولوف وتولستوى فى أصولها، وقام بعد ذلك بترجمتها إلى اللغة القازاقية. وقد عزز قدراته الابداعية وموهبته بالتحلي بالعلم وتوسيع دائرة الوعي والثقافة، فدراس فلسفة سبنسر وسبينوزا ونظرية دارون وأغاني الشعوب وملاحمها وقرأ "مجنون ليلى، فرحات وشيرين، الاسكندر المقدوني"، وأعاد كتابة الملاحم بطريقة متطورة متسلحًا بملكته المتميزة بحرًا لموسيقى الشعر.
يري آباي أن الاقطاعيين والرجعيين ما هم إلا طبّالون من الدرجة الأولى، إذ كانوا يواجهون هذا الميل نحو العالمية باعتبارها استيرادًا غير شرعي وانتهاكًا للأصالة وشخصية الأمة، فالرجعيون يعبرون عن تفاعلهم مع الحداثة باسلوب متخلف يرتد عليهم بالخسران، وذلك من خلال بعض الأساليب، منها:
أولا: أنهم يمنعون انتشار الثقافة، مما يؤدي إلى الحفاظ على الفكر الواحد، وهذا يشبه رغبتهم بضرورة تلاقح الدم في عائلة واحدة فقط، ومن الناحية الطبية فقد أثبت ذلك سلبيته ازاء حيوية الأجساد. وهو في الفكر يعزل الأمة ويدمرها، فلا علم ولا تقنية حديثة ولابحوث، وبالتالي لا ريادة في أي شيء، وهم وفرحون بذلك، والاختصاص الوحيد البارعون به هو العقاب والقصاص والمنع والقتل. فهم يرون أن الإبداع في ضبط قواعد النحو واستهلاك واستعباد المرأة واهانة الطفولة.
ثانيًا: برمجة الذهن على مقاس فكر واحد يمنع التقييم الموضوعي لما عند الآخرين، وذلك بسبب التلقين الضاغط والتحبيذ المفرط لما هو محلي أو اقليمي أو قومي، مما يؤدي إلى تخريب الذات ومنعها من العالمية مشهدًا للثراء البشري اللامتناهي في تعدده وابتكاره.
تميز شعر أباي بالسهولة والبساطة إلى جانب الروعة فى الأسلوب الفنى الذى يجسد المهارة والتفنن والقدرة اللغوية والصياغة الفنية التى تدل على موهبته الشعرية الأصيلة، حيث تأثر الوعى القازاقى الاجتماعى بمؤلفاته الأدبية وأفكاره المستنيرة؛ إذ لم يقتصر أباى على المجال الأدبى، وإنما كان فيلسوفًا إلى جانب كونه أكبر المفكرين القازاق.
يُعد أدب آباي أهم مصدر من مصادر الثقافة الكازاخية الذي يمكن من خلاله التعرف عن كثب علي جميع جوانب حياة الكازاخ، وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وموروثهم الشعبي المتنوع، فقد تميز شعره بالبساطة والروعة في الأسلوب والصياغة الفنية، والقدرة اللغوية. فقد قدم موضوعات وأفكار جديدة في أشعاره، والكثير من قصائده عبارة عن أشعار غنائية ، كما تمتزج في شعره موضوعات عن الطبيعة والحب بالإضافة إلى تأملات فلسفية وأفكار تنويرية وإنسانية. كما أدخل أشكالاً لم تكن معروفة سابقًا في الشعر الكازاخي، فقد ظل مقيدًا بأسس نظم القصائد الكازاخية، إلا أنه تمكن أن يكتشف سبلاً جديدة للاستفادة الواسعة من امكانيات اللغة الكازاخية الأم، وقد جعلت تلك السبل قصائد آباي والشعر الكازاخي فيما بعد أكثر غني من ناحية التنوع في الصياغة والموضوع. فقد تميز شعره بالبساطة التي تقربه من السهل الممتنع، إلي جانب روعة الأسلوب الفني التي تجسد المهارة والموهبة الشعرية الأصيلة، فقد كان آباي ملحنًا لأشعاره وأشعار غيره، حيث كان يتحلي بذوق موسيقي رفيع وإطلاع واسع علي التراث الموسيقي الشعبي.
ترك آباي موروثًا أدبيًا وشعريًا كبيرًا، أهمها ملحمة "مسعود" عام 1887، وملحمة "العظيم" التي تجسد موقفًا مميزًا من الثقافة الشرقية العريقة، حيث تجسد محاولة أصيلة لمعالجة حبكات التراث الأدبي الكلاسيكي الشرقي، وملحمة "الإسكندر المقدوني" والتي يستنكر فيها آباي جشع الغازي المحتل، أما ملحمة "مقصود" فيؤكد فيها علي ضرورة امتلاك ناصية المعارف. ولذلك يمثل تراثه قمة عظيمة في الشعر الكازاخي، ويحتل مكانة مميزة ومرموقة في هذا التراث كتابه النثري "الأقوال"، الذي عرض فيه أفكاره وآراؤه في الأخلاق والفلسفة، فكان ذلك الكتاب ثمرة التأملات العميقة والإرهاصات والطموحات النبيلة، وقد تم صياغة الكتاب من الناحية اللغوية بأسلوب رائع دقيق وعبارات بليغة ومصداقية عميقة، وقد وبرزت فيه نزعته الإنسانية وحكمته المؤثرة، لذلك يُصنف كتاب "الأقوال" ضمن أعظم نتاج الفكر الأدبي للبشرية.
كان أباي طليعي، ليس من موقفه التراثي فحسب بل باعتباره شاعرًا واقفًا على رأس الصراعات الاجتماعية دافعًا لها بجرأة فاضحًا لكل مايشين كرامة الانسان، ولذلك فإنه كان يري أن على الشاعر أن يبرق بنار الأفكار. كما يتميز شعره بالتشكيل التصويري واللغوي أيضًا، وعلى الرغم من أن أغلب قصائده مؤرخة في سنوات 1890، فان ذلك يعود إلى قوته الشمولية واتساع أفقه واطلاعه. وتضمن شعر أباي العديد من الموضوعات كالأسطورة كما في قصيدة "الإسكندر المقدوني"، وكما روي في قصيدة "مسعود" قصة عن هارون الرشيد، إضافة إلى قصص ونكبات قد ألمت به وعبر عنها بشكل دامع ومؤثر، كما وصف الطبيعة والبيئة والفصول، مع تأكيده لموقفه الأخلاقي النبيل من المرأة واحترامه لها مع انتباهته الشاعرية لها، فقد كان يهوى الجمال ولكن في صيغة البحث عن اللانهاية، اللامرسى، عن التيه في العيون تلك التي يخايلنا أنها رمز لصورة الحياة الرائعة الجمال. والغزل عند أباي لا تضير أخلاقياته، بقدر ما يعبر عن رقة مشاعره المعبرة عن إيمانه بالمحبة الإنسانية التي تشتمل العالم أجمع، وأن العلم ليس وصفة معلبة، ولكن الكلمة السامية والخالدة هي تلك البوصلة الرائعة التي حفزتنا على أن نأخذ العلم، ذلك العلم الذي يصب في الوعي الإنساني الذي لايزال يخشاه المذعورون من العلم.
دعا أباي في أشعاره إلى الاغتراف من مناهل العلم القادر وحده على أن يدلها إلى طريق الحياة الجديدة، ولذلك تعرض إلى صدامات ثورية هزته من مواقع الرؤية الضيقة لثقافة القرية بحكاياتها وأساطيرها ودفعت به إلى التعرف على ما لدى شعوب العالم من ثقافات انسانية الطابع، وقد أعجب بمؤلفات بوشكين وليرمنتوف وكريلوف وسالتيكوف وشيدرين وليف تولستوي. فمنذ عام 1866 أخذ يترجم إلى اللغة الكازاخية مؤلفاتهم وجعلها لأول مرة في متناول الشعب الكازاخي وبلغة يفهمها هذا الشعب العريق. فقد كانت الإدارة السياسية القيصرية قلقة أشد القلق من الصداقة المتينة والطويلة الأمد التي تربط بين أباي والثوار المنفيين، ووصلت التقارير والأنباء عن أباي باعتباره شخصًا يشكل خطرًا على القيصر وكان هو يشق طريقه بشجاعة وايمان بأسلوب نضاله الجديد.
يتضمن كتاب "الأقوال" تأملات عن مغزي الحياة ورسالة الإنسان، وعن الشعب المعذب، فقد كان آباي يشعر بما يعانيه الكازاخ، لذلك جاءت كلماته تئن بآلام الأمة، فقد كان يدعو للتخلص من الذنوب والعيوب والموبقات التي تحط من كرامة الإنسان، ويدعو إلي التسامح والطموح في ارتقاء الكمال الروحي، وسلوك طريق المعرفة وامتلاك ناصية الفنون، والأخذ عن الشعوب الأخري ما لديها من انجازات في مجالات المعرفة والحياة، فلا يمكن الوصول إلي المكانة اللائقة بين الأمم العظيمة إلا بالمعرفة والطموح وتهذيب النفس.
