مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب: من تلك الأيام "السيرة الذاتية للبندقية الألماني "

2024-04-18 11:52 PM - 
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب: من تلك الأيام "السيرة الذاتية للبندقية الألماني "
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي
منبر

    لم يكن جدي عبد الغني من أعيان البلد كعمي (حسن درويش ) مثلا، أو(على حبوب) وهو ابن خال جدي ،أو غيرهما من الرجال الذين كنت أراهم في الملابس النظيفة، ينتعلون الأحذية، ويلفون العمائم البيضاء، ويترددون على المركز والري والمحكمة، رغم أن جدي عبد الغني كان يمتلك من الأفدنة أكثر مما قد تمتلكه بعض العائلات في القرية. إلا أنه كان ملتصقا بالأرض بالمعنى العضوي. ولم أكن أتعجب حين أسمعه يتكلم إلى الأرض، أو مع حيواناته. لم يكن يتردد على (المنضرة الكبيرة) الخاصة بعائلته؛ إلا في المناسبات .. مثل سهرات رمضان ..أو الأفراح .. أو المياتم  ... وغير ذلك . لذلك كنت لا أراه إلا في ملابس (الغيط )، وكنت أشم عرقه حين يردفني خلفه ذاهبا إلى الغيطان، أو عائدا منها. ولم أره يمسك في يده  (عصا) أو (دبرك) أو (شومة) ، فهو لا يحتاج إليها.. فليس بينه وبين أحد عداوات.. ولا يحب الدخول في المنازعات .. كان هذا حتى وقعت الواقعة. 
 والواقعة كانت في عام 1956، ففي الوقت الذي كانت فيه مصر تخوض حربها ضد العدوان الثلاثي ، نشأت حربا من نوع آخر بين عائلتين في قريتنا . نواة لدوامة القتل الثأري بين عائلة جدي عبد الغني وعائلة أخرى . 
      وكانت حربا حرجة، فكثير من شباب العائلتين أمهاتهم من العائلة الأخرى.، أي على الشاب أن يقتل خاله أو ابن خاله ثأرأ لأخيه أو ابن عمه. هكذا تقضي الأعراف ..
      في العركة الأولى .. قتل من عائلة أخوالي ستة رجال منهم خالي الأثير لدي.. ( حلمي ) أو (عبد الحليم). وكنا نعد لزواجه ..  وكان على جدي وأولاده أن يثأروا لخالي حلمي .. ولما كانت العركة قد جرت على مساحات واسعة من القرية .. واستخدمت فيها الأسلحة النارية .. فلا أظن أن أحدا من العائلتين كان على يقين من القتلة.. أو من قتل من .. كان من يحملون الأسلحة قلة .. ومن السهل توزيع القتلى عليهم بالظن أو بالقرآئن الواهية .. وحددت الظنون قاتل خالي . 
 وكان على جدي أن يشتري سلاحا .. رغم أنه ليس لديه من الأولاد من يحملها .. لكن ( التار بيوت .. والعركه عيلات ) أي أن المعركة تشارك فيها كل العائلة، لكن عند الثأر هناك أولويات لأخذ الثأر لا تتعدى البيت من العائلة أي أخوة القتيل وأولاد عمه المباشرين. وهنا ظهرت (البندقية الألماني ) في التاريخ الذي أعرفه.. جاء بها جدي ليلا ملتفة في عباءته كأنها العروس البكر, وكان قد أعد لها مرقدها في الغرفة المظلمة من بيته الذي بني على بيارة أثرية  كمعظم بيوت القرية المتاخمة للجبل، لفها وحفنة من (الأظرف) المرافقة لها. كان خالي الأكبر مجندا بسلاح الإشارة، وكان الأصغر طالبا يكبرني ببضع سنوات ،.ولم أكن قد بلغت العاشرة بعد . كنت أعرف مدى عشق جدي للأرض ، أظنه كان يحبها أكثر من جدتي التي لا يخالف لها قولا ، وأكثر ممن بقي على قيد الحياة من أولاده.  ولم أكن أتصور أنه يمكن أن يتخلى عن شبر واحد من أرضه حتى علمت أنه رهن غيط ( التمانية ) ليشتري (البندقية الألماني ). وما زلت أذكر كيف هبط جدي من على حمارته مقبلا الأرض بعد أن خلصها من الراهن بعدا الواقعة بسنوات. 
     كانت التوترات بين العائلتين  تفرغ بإطلاقات تظاهرية مفاجئة للنار من فوق الأسطح دون أن تؤدي إلى قتلى أو جرحى ، ولم تشارك (البندقية الألماني) في تلك التظاهرات العشوائية.  لم تخرج (البندقية الألماني ) من مرقدها إلا حين قررت العائلة أن تشن هجوما على (العدوين) لأخذ الثأر. حينها تقلد     (عبد الرحمن ) أحد أولاد أخ جدي ( الشقيق ) بالبندقية الألماني وشارك في الهجوم الثأري الذي لم يسفر عن مقتل من يظنون أنه قاتل خالي. وبعد الهجوم ظلت البندقية الألماني في حيازة خالي (عبد الرحمن ) حتى ظنت خالتي  الصغرى التي رفضت أن تتزوجه أن (عبد الرحمن)  طمع في (البندقية الألماني)، فما كان من جدي إلا أن استدعى خالي (عبد الرحمن). وقال له في حسم ( هات البندقيه ) فسلمها له دون أن ينطق بحرف وانصرف، وأعادها جدي إلى مرقدها الحصين. 
     كان (القوة) كثيرا ما تهاجم القرية، وبتم تفتش البيوت بحثا عن الأسلحة، وقد دلها مخبروها ومرشدوها على أصحاب البنادق غير المرخصة ـ ومع ذلك التفنيش الجاد تخرج القوى  صفراء الأيدي بلا قطعة واحدة . فقد كان للقرويين أساليبهم المعجزة في الإخفاء والتمويه . 
     مرة دهمت القوة بيت جدي ، ولم يكن بالبيت رجلا ، وكانت (البندقية الألماني) معلقة بعد التنظيف على الحائط في مدخل البيت، وكان خالتي الحامل في البيت فما أن سمعت بالقوة تقترب حتى وضعت البندقية تحت الحصير، ورقت فوقها وهي تتوجع وألقت فوقها أمي باللحاف ، ومثلت جدتي دور الداية التي تقوم بمساعدة خالتي على الولادة، ولم يسع قائد قوة الشرطة إلا أن يأمر جنوده بالانسحاب، وهكذا نجت (البندقية الألماني) من الضبط . 
   ظلت (البندقية الألماني) في مرقدها حتى خرج خالي الأكبر من الجيش، وعين بالشرطة، وتخرج خالي الأصغر وصار موظفا هاما بإحدى الشركات .. بل كبرنا نحن الصغار وصار أصغرنا رجلا .. إلى أن بلغ أحد المرشدين عن البندقية الألماني وأن وارثها ( خالي أحمد ) ينقلها من بيته إلى بيت أخته ( أمي ) وحين داهمت القوة في عهد السادات بيت خالي وقبضت عليه، وجاءت إلى بيتنا وفتشته ، القت القبض على أخي الأصغر. في مركز الشرطة لم يشفع لدى الحكومة أن خالي من أفراد الشرطة، ورغم الضرب والإهانات لم يقرا لا أخي ولا خالي  بوجود (البندقية الألماني) ، وبعد ليلتين اطلق سراحهما .. 
 ظلت البندقية الألماني في مخبئها الحصين حتى توفي خالي الأكبر، ومات من يظنون أنه قاتل خالي (حلمي )، وقد تساوى قتلى العائلتين عددا ، واستأنف أخوالي مع العائلة الأخرى علاقات النسب والتزاوج .. ولم يعد (للبندقية الألماني ) مبررا للوجود، فباعها خالي الأصغر،وقسم ثمنها بينه وبين أولاد أخيه.

مساحة إعلانية