مساحة إعلانية
توم وجيري في مصر القديمة
تميّز الفن المصري القديم بالاعتناء بالتفاصيل والنسب الفنية في الرسم أو النحت، والدقة التشريحية للجسد وإظهار مكامن القوة والجمال فيه، لكن هناك وجهًا آخر للفن المصري القديم، تميز بروح الفكاهة والدعابة، وتصوير الأشياء على غير صورتها الطبيعية بما يدعوا إلى الضحك في ظاهرها، ولكن بإمعان النظر في المعنى، تجد سخرية وإنتقاد لأوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما تمت تسميته في العصر الحديث بفن (الكاريكاتير)، وهو اسم مشتق من الكلمة الإيطالية (كاريكير) بمعنى يبالغ، أو يحمل ما لا يطيق، وبالفرنسية هو صورة ساخرة تبالغ في تحريف الملامح الطبيعية لشخص أو جسم بهدف السخرية والنقد. وظهور ذلك الفن في مصر القديمة ليس بالشيء الغريب، فالشعب المصري مسكون بالمرح، والقدرة على السخرية من أوجاعه بكلمات بسيطة ومُعبّرة، وكما قال (هيردوت) منذ 2500 عام (شعب يحب المرح والدعابة)، وقد عَبّر الفنان المصري القديم عن ذلك بالرسم على جدران المعابد وأوراق البردي، وبقايا الأواني الفخارية المسماه (الأوستراكا) وهي قطع مسطحة من الفخار مُعدّة للكتابة عليها، ففي مقبرة (أوخ حتب) من عهد الدولة القديمة، نجد رسمة لخادم يشوي أوزة ضخمة جدًا، وتعليق على لسان الخادم يقول: "من قديم الأزل وأنا أقوم بالشواء، أتوجد أوزة بهذا الحجم في الدنيا"، وفي عهد الملكة حتشبسوت (1508- 1458 ق.م) تصور رحلتها إلى بلاد بونت (الصومال حاليا) الحمار المسكين الذي كانت تمتطيه (آتي) زوجة حاكم بونت، والتي رُسِمَتْ في جانب آخر في ضخامة ملحوظة لساقيها، وربما كان ذلك دلالة على إصابتها بداء الفيل. وفي رسومات آخرى تعود لسنة 1250 ق.م تُظهرُ فرس النهر بجسده الضخم جالسًا على قمة شجرة، والنسر يحاول الصعود إليه بواسطة سلم، وأخرى فيها ثعلب يرعى قطيع من الماعز وذئب يقود جماعة من الأوز. وفي نهاية الدولة الحديثة 1100 ق.م انتقد الفنان المصري الأوضاع الرديئة المحيطة به، فيرسم قطًا ثمينًا يرعى قطيعًا من الأوز، ويرسم ثعلب يرعى قطيع آخر من الأوز وهو يعزف على الناي، وفي لوحة أخرى يصور فرقة موسيقية جميع أعضائها من الحيوانات والمطرب هو الحمار. وقد تجلّت عبقرية الفنان المصري الساخرة في رسم كاريكاتيري على تابوت الملكة (كاويت)، وهي إحدى زوجات الملك منتوحتب الثاني (حكم في 2061- 2010 ق.م)، وهو رسم لرجل يحلب بقرة، لكن البقرة حزينة وتسيل دموعها على الخد، وولدها مربوط بقدمها الأمامية وهو هزيل جدًا وضعيف. ويقول الدكتور عبد العزيز صالح (عميد كلية الأثار بجامعة القاهرة الأسبق) في كتابة (الفكاهة والكاريكاتير في الفن المصري القديم)، إن ازدهار فن الكاريكاتير في مصر القديمة في نهايات عهد الدولة الحديثة، حتى نهاية عصر الأسرات يعود إلى كثرة نزوح القبائل والعشائر الأجنبية إلى مصر، وتزاوج ملوك مصر من بناتهم مما أكسبهم نفوذًا كبيرًا، وامتيازات تفوق امتيازات أبناء الوطن، وكان ذلك سببًا في غضب أهل مصر، وقد عبر عنه الفنان المصري القديم في رسومات ساخرة غاية في الروعة، فنجد في إحدى البرديات رسمة لأسد جالسًا يلعب الشطرنج مع تيس.
ومن أشهر تيمات فن الكاريكاتير الساخر، والرسوم الكارتونية المتحركة في العصر الحديث، هي تيمة (القط والفأر) أو (توم وجيري)، لكن الفنان المصري القديم هو أول من استخدم تلك التيمة الساخرة، فنجد في بردية في المتحف المصري يعود تاريخها إلى عهد الدولة الحديثة (1580 ق.م)، تصور فأرة جالسة على كرسي العرش بكامل زينتها، وتخدمها أربع قطط مصرية، واحدة في المقدمة لتسليتها والترفيه عناها، وثلاث في الخلف طوع أمرها، اثنتان تمسكان بالمراوح للتهوية، والثالثة تحمل ابن الفأرة وتقوم بتدليله، وفي جانب آخر من البردية نجد القطط يعملون في حقول الفأرة، فنجد قطًا يحمل الماء وقط آخر يُطعم الأبقار.
وفي رسومات أخرى منذ أكثر من (3300) سنة، نجد القط والفأر مع تعليق ساخر يقول: "تصبح القطّة عبدة لدى مدام فأرة"، وفي رسومات أخرى مع تعليق أشد سخرية وغضب يقول: "ويهاجم جيش الفئران فرقة القطط المسكينة المحبوسة وينتصر عليها"، حيث تبين الرسومات على قطعة (الأوستراكا) فأر يقود عجلة حربية يجرها كلبان، يتبعه جيش من الفئران ويقتحمون حصنًا لجيش القطط ويهزمونهم، وفي لوحة أخرى ساخرة من انقلاب الأوضاع في البلاد، فنجد لوحة حجرية يكون فيها الفأر قاضيًا متصنعًا القوة والوقار ومستندًا على عصاه، وقد أصدر أمره للقط الذي يرفع السوط ليعذّب به فتى مصري، والفتى جالس بينهم في خوف وهو يطلب العفو والسماح من الفأر، وفي رسومات أخرى نجد فأر عجوز يرتدي ملابس فاخرة ويجلس على مقعد، وخلفه قطة تصفف له شعره، ويحتسي الخمر في قدر يقدمه له قط آخر. ومن أشهر البرديات التي تجسّدتْ وتكاملتْ فيها أساسيات فن الكاريكاتير، بردية (تورينو) والتي يصفها البعض بالبردية الشهوانية، وهي تعود إلى عصر الرعامسة (القرن 12 ق.م)، وهي تصور في ثلثها الأول حيوانات تقوم بأعمال البشر بطريقة ساخرة ومضحكة.
وإلى اللقاء في هامش جديد من هوامش المحروسة
