مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

شحاتة زكريا يكتب : المجاعة كسلاح.. غزة تُعرّي الضمير العالمي

2025-08-24 12:13:23 - 
شحاتة زكريا يكتب : المجاعة كسلاح.. غزة تُعرّي الضمير العالمي
شحاتة زكريا
منبر

لم يعد مشهد الأطفال الهزلى في شوارع غزة مجرد صور مؤلمة على شاشات الأخبار بل صار شهادة إدانة معلقة في وجه العالم بأسره. الأمم المتحدة أعلنت رسميا أن نصف مليون إنسان في شمال القطاع يعيشون حالة مجاعة، وأن أكثر من مائة ألف طفل دون الخامسة يواجهون خطر الموت جوعا أو مرضا. ليست تلك مجرد أرقام في تقرير أممي ، بل هي صرخة مدوية تقول: إن الجوع قد صار سلاحا يُستخدم بوعي وبدم بارد ضمن أدوات الحرب الحديثة.

إننا أمام لحظة فارقة في التاريخ حيث تتحول "المعدة الخاوية" إلى أداة عقاب جماعي ويُستبدل القصف الجوي بالحصار الغذائي ويُترك الإنسان عاريا أمام موت بطيء. وإذا كانت الحروب في الماضي تُحسم بالمدافع والدبابات فإننا الآن نشهد جيلا جديدا من الحروب عنوانه "التجويع"، وهدفه كسر الإرادة الإنسانية قبل تحطيم الحجر.

المفارقة المؤلمة أن هذا يحدث في قلب القرن الحادي والعشرين بينما العالم يتحدث عن الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي والابتكار الأخضر. كيف يمكن لعصر يفتخر بأنه بلغ ذروة التقدم أن يعجز عن تمرير شاحنات الغذاء إلى نصف مليون جائع؟ كيف يمكن لحضارة ترفع شعار "حقوق الإنسان" أن تصمت أمام جريمة تُرتكب أمام الكاميرات؟

إن التاريخ يعيد نفسه لكن بملامح أشد قسوة. فالمجاعة كانت دائما قرينة الحصار ، منذ حصار مكة في صدر الإسلام حين كُتبت الصحيفة الجائرة التي منعت الطعام والشراب عن بني هاشم حتى أكلوا ورق الشجر وصولا إلى حصار سراييفو في تسعينيات القرن الماضي حين تحولت المدينة الأوروبية إلى مسرح للجوع والبرد. واليوم ها هي غزة تُحاصر لا لأنها ارتكبت جريمة بل لأنها تريد أن تحيا بحرية وكرامة.

الجوع في غزة ليس كارثة طبيعية ولا نتيجة لفشل اقتصادي بل هو فعل مقصود مخطط له تُمارسه قوة احتلال مدججة بالسلاح مدعومة بصمت دولي مريب. وهذا ما يجعل الجريمة أكبر من كونها مأساة إنسانية؛ إنها إعلان صارخ عن سقوط المنظومة الدولية ، وانكشاف هشاشة ما يُسمى بالقانون الدولي.

لقد وصف المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة ما يحدث بأنه "جريمة حرب واضحة"، وأكدت منظمات الإغاثة أن منع دخول الغذاء والدواء "لا يمكن تبريره عسكريًا". لكن كل هذه التصريحات تبدو كأنها أصوات في فراغ إذ لم تُترجم إلى أفعال توقف الجريمة. بل إن العالم بما فيه القوى الكبرى.يكتفي بالتصريحات ثم يمضي إلى أولوياته السياسية والاقتصادية وكأن أطفال غزة خارج حساب الإنسانية.

هنا تطرح المأساة سؤالًا أكبر من حدود غزة: ما الذي تبقى من الضمير العالمي؟ إذا كان العالم يقبل أن يموت مئات الآلاف جوعا أمام الكاميرات فما الذي يمنعه غدا من تكرار المشهد في أماكن أخرى؟ إن صمت العالم اليوم ليس مجرد حياد، بل هو تواطؤ يُعطي الضوء الأخضر لتحويل "التجويع" إلى سابقة يمكن استنساخها في أي صراع قادم.

لا شك أن المجاعة تكشف عجز الأمم المتحدة ومؤسساتها لكنها تكشف أيضا عجز المجتمعات المدنية والرأي العام العالمي وحتى النخب المثقفة التي لطالما تغنّت بحقوق الإنسان. أين اختفى الصوت الحر حين أصبح الجوع نفسه أداة قمع؟ وكيف يظل العالم يتجادل في التفاصيل بينما يموت الأطفال كل ساعة؟

إن ما يحدث في غزة يعيد تعريف الصراع من جديد. فالقضية لم تعد فقط قضية أرض محتلة أو مقاومة مشروعة بل أصبحت قضية وجود إنساني. لم تعد فلسطين وحدها هي المعنية، بل الضمير البشري كله. لأن الجوع حين يُستخدم كسلاح لا يعرف الحدود. وما يحدث اليوم في غزة قد يصبح غدا قاعدة تُطبق في أفريقيا أو آسيا أو حتى أوروبا.

إننا نعيش لحظة فاصلة بين أن يبقى العالم عالما للإنسان، أو أن يتحول إلى غابة تُدار بمنطق الوحوش. وإذا كان التاريخ سيكتب فصول هذه المرحلة، فإنه لن يسجل فقط عدد الضحايا بل سيسجل أيضا أسماء الدول التي صمتت والمنظمات التي اكتفت بالبيانات، والمجتمعات التي أدارت وجهها عن صور الأطفال الجائعين.

إن غزة اليوم تُعرّي العالم. تكشف زيف الشعارات وتفضح تناقضات الحضارة التي تتحدث عن الإنسانية بينما تترك شعبًا يموت ببطء. لكنها في الوقت نفسه تمنحنا فرصة لإعادة اكتشاف معنى الإنسانية. فإما أن نتعامل مع المأساة كجرس إنذار ونستعيد قدرتنا على الفعل ، أو نترك التاريخ يُسجل أن الجوع كان أقوى من الضمير.

في النهاية لا يمكن للمجاعة أن تُهزم شعبا مؤمنا بحقه لكن يمكنها أن تهزم عالما كاملا إذا قبل أن يصمت. ولهذا فإن معركة غزة ليست فقط معركة بقاء لشعب محاصر، بل معركة مصير للإنسانية جمعاء.

مساحة إعلانية