مساحة إعلانية
حسن رجب الفخرانى
أطبق علي بطاقة شحن عداد الانارة بشدة، كأنه يخشي أن تفر من بين أنامله الباهتة،اخرج حافظة نقوده التي لم تكن تحوي إلا سبعين جنيها وكأنها تحصي ما مضي من عمره، انتزع منها ورقة من فئة الخمسين جنيها ثم اغلقها والحسرة تكاد تقضي علي ما تبقي له من حياة، اقترب ببطء من قمرة النافذة التي خلفها فوق مقعد خشبي يعلوه جهاز حاسوب عتيق يجالسه الموظف والموكل إليه مهمة إعادة شحن بطاقات الانارة الخاوية. مد الرجل يده المرتعشة إلي الموظف وهو ينظر اليه بضراعة ودفع إليه بالنقود والبطاقة، بدأ الأخير يداعب مفاتيح لوحة الحاسوب السوداء في رتابة مملة ثم رفع رأسه اخيرا وقال : سوف يتم خصم مبلغ ثلاثين جنيها والباقي لن يكفي لإتمام عملية الشحن . ما أن صكت تلك الكلمات اذان الكهل السبعيني حتي كاد يغشي عليه ويسقط من جلبابه البالي، خرجت الكلمات من فيه مبعثرة وبعضها رفض الخروج: ماذا تقول يا ولدي، هذه الورقة هي آخر ما أملكها، ولم هذا الخصم، كل ما لدي تلفاز صغير ومصباح يتيم لا أكثر ولا اقل. بتجهم رد الموظف: اذهب إلي المهندس المختص، ثم نظر الي باقي الصف وصرخ بعنترية بلهاء: من خلف هذا الرجل ليتقدم، أنا لن ابقي اليوم بطوله لأجلكم. لملم الكهل ما تبقي له من بقايا انفاس لا تزال تتشبث بالحياة وتحامل علي نفسه وعلي الجدران الداكنة القاتمة وما بين سؤال هذا وذاك حتي وصل إلي مكتب المهندس، برفق طرق الباب ليأتيه صوتا من الداخل يسمح له بالدخول، فدفع الرجل الباب وتقدم بخطي مهتزة نحو مكتب المهندس الأنيق.
رمق المهندس الكهل باستعلاء بطرف عينيه من أسفل نظارته الفارهة وهو يريح ظهره علي مقعده المبطن ثم قال بلامبالاة : نعم، ماذا تريد؟
- خصموا نقود شحن البطاقة، فلما؟
ضغط المهندس علي زر احمر امامه ليوقظ صوتا كئيبا تردد في الردهة وانتزع العامل من جلسته فوق دكة خشبية صغيرة والقي به في برهة امام المهندس الذي بادره قائلا : خذ هذا الرجل الي مكتب المحاسب.
برغم الجهد الذي تجلي فوق قسمات الكهل جراء ارتقائه درج الدور الاول لم يشفع له ذلك وبدأ يرتقي درج الدور الثاني متحاملا علي (درابزينه) وتكاد روحه توشك ان تفارقه وهو يترجل درجة ويتسلم اخري حتي وصل امام مكتب المحاسب فجلس علي الارض ملتقطا بعض انفاسه التي تحاول الفرار منه. وما ان استطاع الوقوف حتي بدأ السير صوب باب المحاسب وما ان هم بطرقه حتي القي به ارضا جسدا مكتنزا يرتدي بذلة فارهة وبيده سيجارة مشتعلة من ماركة عالمية ليس لها مثيل حتي في ارقي اماكن بائعي التبغ، مثل رابطة عنقه التي تتباهي بدبوسها الذهبي البراق وبحذائه الثمين دفع الباب واندفع كالسيل للداخل وامام المقعد المواجه لمكتب المحاسب جلس وبعنجهية مقيتة استلقت احدي ساقيه فوق الأخرى، قفز المحاسب من فوق مقعده كالملسوع جراء ما راءه وما ان هم بالصراخ في وجه هذا الرجل ذو الكرش الممتلئ والتجاعيد المحتقنة فوق وجنتيه المحمرتين كاللهيب، وقذفه بسيل من السباب واللعان لهجومه الهمجي علي مكتبه وكشف ستر مكانته المهابة حتي خرست كل الحروف مع اندفاع مدير الادارة الي الرجل وهو يمد يده اليه في انكسار، محاولا الا يغير وضع ظهره المنحني وابتسامة بلهاء ارتسمت علي الشفاه الجافة : تشرفت الادارة كلها بقدومك الكريم سيدي، لعل الله اراد ان يكرمنا بطلعتكم البهية، كلنا طوع البنان.....
صمت من اشارة من أصابع اربع ليد الرجل اليمني اما الخامس فقد انحني في حضنهم كاتما ضحكته الهازئة.
بهدوء مقيت اخرج الرجل المهاب كلماته وكأنه يلقي بحجارة فوق تلك الرأس المنكسرة قائلا: هل لي ان اعرف كيف يتوقف عداد انارتكم البائسة عن اضاءة حظيرة بهائمي ؟ وجم المحاسب، اما المدير فأسرع في استرساله متصنعا الدهشة
: كيف هذا؟ ومتي؟
- حالا
: الآن سيدي تضاء حظيرة معاليكم وبطاقة الشحن هدية منا لمجيئكم الكريم
دلف العامل يحمل صينية براقة يعلوها فنجان قهوة من البن البرازيلي الأصيل وكوب كرستالي براق وزجاجة مياه معدنية و امام الرجل الضيف انحني واضعا اياهم ثم تقهقر للخلف وهو لا زال منحنيا ثم لاذا بالفرار وكانه يهرب من حسام مسلط علي رقبته.نظر الضيف إلي فنجان القهوة ثم قال هازئا : هل اصبتم جميعا بالعته، هل هذا الفنجان الحقير لي؟، ثم هب واقفا وكما جاء كالعاصفة رحل مثلها، ولم ينس قبل ان يغادر الغرفة ان يقول للمدير وبتعالي نرجسي
: قبل ان أصل، لا بد ان تكون البهائم مغمورة بالضوء.
رد المدير محاولا قدر طاقته الا ينهار وبشجاعة مفتعلة شاحبة كوجهه قائلا
: عفوا سيدنا عن تلك السقطة الغبية منا . والسماح شيمكم.
حين هم المدير في الخروج من الغرفة استرعي انتباهه الكهل الواقف في ذل فدنا منه وبعجرفة نظر اليه ثم قال: ماذا تريد ايها الشيخ؟
رد الرجل وهو يحاول قدر طاقته منع بعد القطرات الحزينة التي توشك التي تقفز من المقل الحائرة: لقد خصموا مني مبلغا، ولا أعرف لما ؟
صمت لحظة ثم قال والكلمات تخرج في حشرجة من صدره : لم يعد لدي ما يكفي انارة العداد، المصباح الوحيد سوف يغرب عني.
نظر المدير الي المحاسب وفي شدة خاطبه قائلا : تولي هذه المشكلة، هل تدني بي الحال بعد هذا العمر وبعد خدمة هذا المكان ان أتصدي لتلك التوافه من الامور. لم يشعر الكهل الا وساقيه لم تعد تستطيع التحمل أكثر من هذا، هوت به أرضا، ومن بعيد كان نفير سيارة البك الحانق يملأ الأفق.