مساحة إعلانية
كتب- سيد طنطاوي
قبل نهاية القرن الماضي بعامين، كان المصريون على موعد مع كتاب "ماذا حدث للمصريين؟"، للعبقري الدكتور جلال أمين، والذي رصد التغيرات التي طرأت على المصريين من جميع النواحي، ومن بينها "الغنا والمزيكا"، وفي فصل الموسيقى ركز "أمين" على تجربة عبدالحليم حافظ، خلال الفترة من الخمسينيات إلى السبعينيات، ورأى أن الأخيرة شهدت خبو نجم "العندليب"، واستشهد على نجاح البدايات لحليم بأغنية "صافيني مرة"، والتي بدأت معها الشعبية الكاسحة لصاحبها.
وقال "أمين"، إن فترة الخمسينيات التي بزغ فيها نجم حليم، صاحبها طفرة على جميع المستويات الثقافية سواء في الرواية أو القصة القصيرة أو الشعر أو المسرح أو الصحافة وغيرهم، وكل ذلك كان مقترنًا بتحولات سياسية واقتصادية في المجتمع كانت نتاجًا طبيعيًا للهزة العنيفة التي أحدثتها يوليو 1952.
اقرأ أيضًا: حميد الشاعري.. مايسترو الانقلاب الناعم لـ«المزيكا»
أقر الكاتب أنه كان طبيعيًا أن ينهض إلى جوار "عبدالحليم"، منّ يُقدم له كلمات أغانٍ لها معان بسيطة وبهيجة وصادقة، وهو ما حدث على يد صلاح جاهين ومرسي جمال عزيز وكمال الطويل والموجي وبليغ حمدي، ولم يفوته أن يُهاجم الأطلال الغنائية التي جاء عليها وخاصة أغاني "عبدالوهاب وعبدالغني السيد"، التي وصفها بـ"السقيمة"، وأم كلثوم التي حصرها في غناء كلمات لا يفهمها إلا عليّة القوم أو كلام ذليل حزين.
لم يقدم الدكتور جلال أمين، وصفًا دقيقًا لمرحلة ما بعد حليم، بل عرج عليها فقط، بتوصيفات سريعة تفتقد الدقة، وشبهها بمرحلة غناء الأربعينيات، وقال: إن الطابع مختلف بين المرحلتين، لكن الهبوط واحد، وأسباب الهبوط كثيرة، لكن هناك سببًا مشتركًا بين الأربعينيات والمرحلة الحالية، وهو وجود حاجز منيع بين الطبقات العليا والدنيا، فالطبقات العليا انصرفت إلى استماع ما سماه "أغانٍ مفرطة في تفرنجها" لا بلغت شرقًا ولا غربًا، أما الطبقات الدنيا فرأى أنها تمسكت بالقديم وعملت على تكراره.
مرور الكرام الذي فعله "المؤلف الدكتور جلال أمين، على مرحلة ما بعد "حليم"، كان ظالمًا، إذ أنه أغفل أشياء كثيرة، منها أن هناك مطربين كان امتداد للمرحلة الحليمية، منهم على سبيل المثال لا الحصر، علي الحجار ومحمد ثروت، ولا ننكر أنه كان هناك مرحلة تغريب موسيقي بالفعل لكنها لم تستمر سوى بضع سنين.
"أمين" أغفل أيضًا، النقلة النوعية للفن التي حدثت على يد حميد الشاعري، في الربع الأخير من القرن العشرين.
"حميد الشاعري"، كان مجددًا وحوّل مسار الفن من مرحلة تيه، كانت ستأخذه طويلًا إلى مفهوم التجديد الذي تحتاجه كل فروع الثقافة، فالشعر كما هو منذ عصر قبل الإسلام كمفهوم، لكنه يخضع لعمليات تطوير.
كان "حميد" بعيدًا عن الإفراط في التفرنج كما قال "أمين"، كما أنه لم يُكرر الماضي، ولم يُفرّط في التراث بل تمسك به، لكن بروح العصر، ليحدث هنا ما يمكن أن نُسميه ثورة "المزيكا"، وربما يرفض البعض التسمية، وهناك من يراه انقلابًا، وهناك من يرى ما حدث لا يستحق الوصفين، بل هي مجرد تجربة أتت عليها عوامل الدهر الموسيقي فطوتها، وهناك من يرى أن ثورتها لا تزال مستمرة ولها أصداء.
لكلٍ آراءه، والانحياز الأعلى لتجربة هنا مقبول، والرفض أيضًا مقبول، فذلك كله يصب في مصلحة الثراء الموسيقي.
رغم أن "حميد"، جاء من بلاد التفرنج "أوروبا"، حاملًا أحلامه الموسيقية ليدخل بها من باب زويلة الفن "القاهرة"، إلا أن ذلك لم يسقطه في التفرنج، لكنه كان ثائرًا على كل المفاهيم الغنائية بداية من الغناء كمفهوم والألحان، إذ لم يرتكن إلى أي لحن تقليدي، كما أنه ذهب بالتوزيع بعيدًا للدرجة التي جعلته الذي يجمع الحُسن المزيكي في بوتقة واحدة "غناء ولحن وتوزيع"، كما طالت ثورته صورة المطرب، فابتعد عن الشكل الكلاسيكي، ليسجل اسمه واحدًا من مجددي الغناء.