مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

محمد دياب يكتب: قنوات التسوّل المرئي

2025-06-05 03:55:12 - 
محمد دياب يكتب: قنوات التسوّل المرئي
محمد دياب

وسط ارتباك الناس في تمييز الصدق من الزيف، تطل علينا من بعض القنوات وجوه بأقنعة دينية، لحي مهندمة وجلابيب ناصعة، لا نسمع منها سوي “قال الله” و”قال الرسول”، ومن هنا تبدأ القصة
حكاية مكررة لا تتغير: شيخ مجهول الاسم، مجهول الصفة، يظهر من علي شاشة قناة مغمورة، يستعرض مشاهد لأطفال يتلوّون من البرد، ونساء منهكات بالدموع، ومنازل تفتقد السقف والباب، ثم يمد يده إلي جيب المشاهد قائلاً: “تصدّق.. ابنِ مسجداً.. اكفل يتيماً.. أعن أرملة”
لكن، لحظة! من منح هذا الرجل الحق في جمع الأموال؟ أين الجهة التي تراقبه أو تحاسبه؟ أين ذهبت فكرة العمل المؤسسي؟ بل من يضمن أصلاً أن هذه التبرعات تصل لأصحابها؟
من يضمن لنا أن أصحاب الحاجة هؤلاء حقيقيون، وأن مشاهدهم ليست مادة سينمائية مصوّرة ببراعة لاستدرار الدموع، ثم الأموال؟
هذه القنوات لا تنشغل بالتنمية بقدر ما تنقل صورة باهتة عن القري المصرية، وتغرس في الأذهان أن بناء المسجد يسبق بناء المدرسة، وأن الإعاقة يُكتفي معها بالدعاء بدلاً من البحث عن الوقاية، وأن الفقر قدر مقدس يجب تمويله لا تغييره
والمؤسف أن أحداً لا يسأل: لماذا كل أم في هذا العرض البائس تنجب خمسة أو ستة أطفال، أغلبهم يعاني من الإعاقة؟ أين الطب؟ أين التوعية؟ أين حملات تنظيم الأسرة؟ أين الأزهر؟ أين الدولة؟
هؤلاء لا يرفعون الفقر عن كاهل الناس، إنما يعيدون إنتاجه في صورة قابلة للتسويق، ويحوّلونه إلي مورد دائم للربح. وكل من يدفع، يظن نفسه قد أدي ما عليه تجاه الضمير والدين، بينما الحقيقة أن الضحية الوحيدة هي إنسان مصري لم تُبنَ له مدرسة، ولم تُفتح له عيادة، بل بُني له مسجد علي أطلال جهل وفقر وعزلة
والغريب أن كل هذا يحدث علي الهواء مباشرة، دون تدخل من المجلس الأعلي لتنظيم الإعلام، أو بيان من الأزهر، أو حتي رقابة من الجهات المعنية بجمع الأموال والتبرعات
بل إن هذه المشاهد حين تُعرض بلا سياق، تُصدّر صورة مُشوهة عن مصر، وكأنها بلد البؤس المتجذر والفقر الأبدي، وهو ما يُستغل إعلامياً ضدنا في الخارج
يا سادة، العبادة بلا وعي جريمة، والتبرع بلا رقابة مشاركة في العبث
والسؤال الذي لن أملّ من طرحه: هل صار الدين وسيلة إعلان؟ وهل تحوّل المحتاج إلي إعلان مدفوع الأجر؟ ومن منح هؤلاء “الشيوخ” صكوك القداسة ليتحدثوا باسم الله ويفتحوا أبواب بيوت الفقراء علي الهواء مباشرة؟
كفانا متاجرة بالفقر، وكفانا صمتاً، لأن الوطن لا يُبني بمساجد علي أنقاض العقول، بل بعقول تبني الإنسان، والإنسان هو من يعمر المساجد عن وعي، لا عن عوز .

مساحة إعلانية