مساحة إعلانية
حين تشرق شمس التاريخ الإسلامي، لا يطالعنا وجه أنصع من وجه أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ذلك الرجل الذي إذا ذُكر الصدق، ذُكر اسمه، وإذا ذُكرت الثبات والقيادة، تصدّر الصفوف.
اسمه عبد الله بن أبي قُحافة، ولُقّب بالصديق لتصديقه المطلق لرسول الله ﷺ في كل ما جاء به، حتى في رحلة الإسراء والمعراج، حين كذّب الناس، قال هو: "إن كان قال فقد صدق."
ولسيدنا أبي بكر مكانة لا تدانيها مكانة عند رسول الله ﷺ، الذي قال فيه:
"لو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته."
وقال أيضًا:
"ما نفعني مال أحد ما نفعني مال أبي بكر."
فكان أكثر الصحابة بذلًا وعطاء، وأقربهم إلى قلب الرسول ﷺ، حتى قال فيه:
"سدوا عني كل خوخة (بابًا صغيرًا)، إلا خوخة أبي بكر."
أما عند الله عز وجل، فقد اصطفاه ورضي عنه، وجعله رفيق خاتم الأنبياء في الهجرة، في الغار، حيث نزل قوله تعالى:
﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾
فنال بذلك شرف الصحبة الإلهية والطمأنينة الربانية، التي لم يُذكر بها أحد غيره.
لكن ما يجعل من شخصية أبي بكر أكثر من مجرد صديق مقرب، هو انتقاله من مرتبة الصحابي إلى مقام الخليفة الراشد الأول بعد وفاة الحبيب المصطفى ﷺ. لحظة فارقة اهتزت لها القلوب، وارتجفت لها المدينة، إلا أن أبا بكر وقف شامخًا كالجبل، يخطب في الناس قائلاً:
"من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت."
بهذه الكلمات أعاد التوازن إلى الأمة، وثبّت قلوب الصحابة، وأعاد للمشهد الإسلامي اتزانه، في وقت كان الناس فيه كأنهم فقدوا الأرض التي يقفون عليها.
لم تكن خلافة أبي بكر منصبًا، بل مسؤولية. فقد واجه حروب الردة، وأصرّ على قتال من امتنع عن الزكاة، قائلًا:
"والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه."
قاد الدولة في مرحلة دقيقة، فوحد الصفوف، وأرسل الجيوش، وبدأ بإعداد الأمة لمرحلة جديدة من الفتح والنهضة. ولولا صلابته في الحق، ورحمته في القيادة، لما استمرت الدولة الناشئة.
لكن أبا بكر لم يكن حاكمًا فقط، بل إنسانًا متواضعًا، يخيط ثوبه بيده، ويأخذ رزقه من عمله، حتى وهو خليفة. بل عندما تولّى الخلافة، قال للناس:
"قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني."
توفي بعد عامين ونيف من خلافته، لكن تأثيره دام قرونًا، بل حتى يومنا هذا، يظل أبو بكر مثالًا في القيادة بالرحمة، والحزم في الحق، والوفاء للرسالة.
رحم الله أبا بكر، الصديق، الصادق، الخاشع، الحازم، الذي أسس للدولة بروح الصحبة، لا بجموح السلطة.
ذلك الذي أحبه الله، وأحبّه رسول الله، وخلّد اسمه في قلوب المؤمنين إلى يوم الدين.