مساحة إعلانية
عادة ..
ما أظل مستيقظًا طوال الليل, إلا من هفوات نوم خاطفة, تلك التي تحاصر جفنيَا حتى تستسلم لبعض الوقت, هكذا كانت ساعات انتظاري دائمًا يسبقها ترقب ويقظة, نعم أصبحت اكره الانتظار, وددت لو أن اقفز أمام عقارب الساعة أحرّكها فتنقضي الدقائق والساعات رقيقة دون ملل.
لا فائدة من الانتظار, أزحت أثقال غطائي الشتوي( لحاف وكوفرتة ) هكذا كانت تخشى على جسدي النحيل من صعقات الهواء, فلا تترك لها بابًا مفتوحًا أو تواربه, إلا وأن تحاصر مراكز القوى فيه من كل الجهات, اشعر بحمولة جسدي ثقيلًا, لم ينال كفايته من الراحة بعد, بيدين مرتعشتين افتح شباك غرفتي, أحاول اكتشاف منابع شروق الشمس, لعلها تمشي متكاسلة في شوارع شتوية كفاتنة تخشي على قدميها من بِرَك المياه المتجمعة نتيجة هطول الأمطار أو هي تحاول عبثًا الخروج من دائرة السُّحب الكثيفة لكنها تتعثر, ثم تحاول مرة أخرى, يا لها من لحظات اشعر خلالها بتوقف الحياة, أزحف داخل حذائي الإسفنجي الخفيف, ألتحف الكثير من أغطيتي,
كوبًا من الشاي قد يسرق بعض الوقت( دقّات الساعة, خيوط أشعة الشمس, نداءات صوت أمي) جميعها أصبحت للتو فريق عمل واحد, يبدو أن عليّا من الأعمال ما أنجزه سريعًا, الافرول مطبّق بعناية شديدة حتى لا تصيبه الكسور ويصبح واجهة لزى عسكري مشوّه, الكاب أيضًا معلّق في وداعة ينتظر يد تحنو عليه, تفتّت أثقال وحدته, بينما يحتاج حذائي الكثير من الوقت, لما به من رباطات تلتف حوله بعناية, حقيبتي هي الأخرى لا بد من ترتيب وضع أوراقي بها إضافة إلى بعض ما جادت به أمّي من طعام, متعجلًا اخرج بصحبة والدي الذي أصر على ذلك, وكأنني طفل لم انسي أبدا صحبتي له أول أيام دراستي من أكثر من خمسة عشر عامًا.
الشتاء في مدينتي يدافع عن سلطان قسوته كلما اقتربنا من نهاية الليل, فلا احد يحاول عبثًا التفكير في المرور من هُنا, نعم هو طريق المستشفي, يتصدّرها من الناحية اليسرى مشرحة الموتى, مازالت تكشّر عن أنيابها حكايات عن القتلى وجثث الغرقى, وكيف أنها تستطيع الخروج من أماكنها ليلًا وتتربص للمارة في أي وقت, تركت والدي قبل نهاية الطريق خوفًا عليه من هواء الشتاء القارص, هو الأخر أفلسته السنين نضارة وجهه واستأسدت على ما تبقي له من قوة وحيويّة, وافق أبي نزولًا على رغبتي وتحت إلحاحي الشديد, كما أنني لا أريد لحظات الوداع تداعب مشاعري فتنهمر من عيني الدموع.
أخذت طريقًا أخر غير الذي يمر بالمستشفي, وقبل نهايته تذكرت فجأة الحديث عن قتيلة هًنا في أخر الشارع, نعم هي قتيلة الحب, فلا شيء في مدينتي تعاقب عليه فتاة بالقتل غير أنها عشقت, أو أنها حملت سِفاحًا وأهدرت دماء كرامة الأسرة في الوحل, نظرت يمينًا ويسارًا لا احد, فقط هي خطواتي تحفر في الأرض كأنها تمشطها, اشعر بأنفاس تلاحقني, لا أستطيع النظر للخلف, قدماي تتخبط قليلًا, أين جسارتي؟ يا ليت أبي لم يتركني وحيدًا؟ تقترب الأنفاس مني أكثر وأكثر, يبدو أنها تتعمدني أنا, لا مفر إذا من المواجهة, أصابع خشنة حطّت على كتفي, أبي لم يرتاح قلبه, فعاد سريعًا وهو يقول: (أنا لازم أوصلك بنفسي للقطر,
زى ما وصلتك أول مرة للمدرسة).