مساحة إعلانية
يمر اليوم 33 سنة على رحيل الكاتب والأديب والقاص والعبقري يحيى حقي الذي وافته المنية في 9 ديسمبر 1992 بعد زلزال 12 أكتوبر 1992، وسبب ذكر الزلزال أنه في يوم وقوع الزلزال كان في المستشفى وأصر أن يخرج كي يوفر سريرًا لضحايا الزلزال، فقد قيم حالته بنفسه ورأى أن هناك من يستحق أكثر للسرير ليكون في موقفه إنسانيا فوق الوصف، وصعب أن تسمع أن أحد في قيمة يحيى حقي فعل مثله، فهو المتفرد في الكثير والكثير من حياته، فهو المتفرد بين الأدباء جميعًا في اعتزال الكتابة في سن السادسة والستين لأنه رأى أنه لن يضيف كثيرًا، رغم أن الجميع كانوا يعلمون أنه مهما كتب ستجد كتاباته رواجًا بل سيتلقفها الجميع.
يحيى حقي متفرد في ذهابه للصعيد، فكل من كان يذهب للصعيد في وظيفته كان يشعر أنها عقاب، بينما يحيى حقي قال مصريتي اكتملت بالعيش عامين في الصعيد وتحديدًا في منفلوط، تفرد يحيى حقي في معارفه اللغوية مما دفع علماء اللغة لترشيحه رئيساً لمجمع اللغة العربية، لكنه رفض متمسكاً بـ"العزلة المختارة" وهو منصب رفيع المستوي
كان الجميع في السلك الدبلوماسي يهرب من الذهاب للسعودية في العشرينات، فكان أول دبلوماسي يفرح فرحًا شديدًا للعمل في جدة، هو المتفرد في إنشاء الفنون الشعبية حين عين رئيسًا لمصلحة الفنون، بل أغلب الفنون التي نراها هو من أسس لها.
يحيى حقي هو البساطة في مضمونها وليس شعارًا، فهو يرى أن القوة الحقيقية في ثقافة الاستغناء، فلم يبهره شيء في حياته سوى النص الجيد.
يحيى حقي كان يكتب قصتين قصيرتين في العام، ولذا أعماله الأدبية قليلة جدًا لا تتجاوز أربعة مجموعات قصصية، لأنه يكتب من أجل الكتابة وليس من أجل الشهرة.
كان رئيسًا لنجيب محفوظ ثلاث سنوات، ولكنه كان يجل نجيب محفوظ، وقال أنه محظوظ للعمل مع نجيب محفوظ رغم أن العكس هو الأصح، وحين سئل نجيب محفوظ من يستحق جائزة نوبل لو لم تحصل عليها، فقال يحيى حقي بدون أن يفكر.
كان متفردًا في الحس الفكاهي وفي عناوين كتبه مثل "من فيض الكريم"."من باب العشم""كناشة الدكان" الذي فهمه الناشر كناسة الدكان ولم يغضب يحيي حقي واعتمد العنوان الذي كتب الصدفة.
حين كان رئيسًا لتحرير مجلة المجلة فتح صفحاتها للمواهب الحقيقية، ويبدو أن عبقريته انعكست على مجموعة ممن فتح لهم باب النشر، وكانوا مقلين في أعمالهم الأدبية مثله تمامًا، ومن هؤلاء الأديب محمد روميش والذي لم تزد أعماله عن مجموعتين، وكذلك يحيى الطاهر عبدالله الذي كانت أعماله قليلة أيضًا، والأديب الكبير عبد الحكيم قاسم وهو مقل أيضًا في الإبداع، فهؤلاء تشبعوا بيحيى حقي، فمثلما كان ينحت أعماله الأدبية فعلوها هم أيضًا.
يحيى حقي صعب يتكرر، ولم يتكرر منذ أن ولد في 7 يناير 1905 وحتى كتابة هذه السطور، ومن يقرأه بدقة سيعرف أنه لن يتكرر.
نشر مفيد فوزي خبرًا مكذوبًا يقول أن يحيى حقي يبيع مكتبته لدولة قطر لمروره بأزمة مالية، فكان الرد إهدائه مكتبته القيمة بكل ما فيها لجامعة المنيا.
كان لا يغضب إلا حين يذكر البعض أن له جذور تركية لأنه يؤمن أنه مصري حتى النخاع.
كان لا يحب فيلم البوسطجي، وتفرد في كتابة نقد ضد الفيلم، فكان كل من يقوم بتعديد مزايا الفيلم يخرج له المقال الذي كتبه ضده.. ليكون الأديب المتفرد في نقد نفسه على الملأ.
لقد كان يحيى حقي متسقًا مع نفسه.. لا يخاف أحدًا ولا يخاف الأيام، حتى أن زوجته الفرنسية قالت أن معاناتها الحقيقية معه أنه لا يأكل، وكانت تلح في كل يوم على الأكل، وإذا أكل فهو يأكل قليلًا جدًا.
يحيى حقي يكره الثرثرة ويعشق الصدق والدقة والإنسانية.. لا يحب الأضواء بل كان يهرب منها، لا يعرف النفاق أو المجاملة في الأعمال الأدبية والفنية.. هادئ وطيب ويعشق الكلمات الحية والحميمية، يرى أن الأبطال الحقيقيين هم البسطاء.
رحم الله الأديب العظيم العبقري يحيى حقي صاحب "قنديل أم هاشم" هذا العمل الذي طارده حتى آخر أنفاسه في الدنيا، فالجميع عرف يحيى حقي من "قنديل أم هاشم" حتى أنه قال للمذيعة المتألقة في الخمسينات أماني ناشد : أن الناس لا تعرف عنه سوى "قنديل أم هاشم" رغم أن له أكثر من 20 كتابًا - وقتها- ولكن قصة "قنديل أم هاشم" هي ما ارتبطت به حتى الآن.
بعد ساعات من كتابة هذه الكلمات سأحل ضيفًا على قناة النيل لايف ببرنامج نهارك سعيد كي أتحدث عنه في ذكرى رحيله، وأتمنى أن أستطيع الإلمام بجزء من حياة رجل لن يتكرر.