مساحة إعلانية
البداية في الرواية تعد حجر الأساس الذي يبني عليه الكاتب عالمه السردي، وهي تخلق الانطباع الأول لدى القارئ الذي قد يؤثر على استمراريته في قراءة الرواية أو توقفه عند السطور الأولى، تتنوع البدايات الروائية، ولكن يمكن تصنيفها بشكل عام إلى نوعين أساسيين: البداية الممهدة والبداية الانفجارية.
البداية الممهدة :
البداية الممهدة في الرواية تميل إلى التدرج، يبدأ فيها الكاتب بتقديم الشخصيات، المكان، والزمان، وتكوين الخلفية التي تمهد للأحداث الكبرى التي ستأتي، تُستخدم هذه البداية بشكل شائع في الروايات التي تركز على بناء الشخصيات والطبائع النفسية، وتستغرق وقتًا أطول قبل الوصول إلى لحظة التوتر أو التحول الحاسم في القصة، وهذه الطريقة غالبًا ما تعطي القارئ فرصة للتعرف على تفاصيل دقيقة وتدريجية تؤسس للحدث الرئيسي بشكل منطقي وواقعي.
مثال على البداية الممهدة :
من الأمثلة الشهيرة على هذا النوع من البدايات رواية "الأخوة كارامازوف" للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، يبدأ دوستويفسكي روايته بتقديم الشخصيات والأجواء الاجتماعية في روسيا في القرن التاسع عشر، ثم يقوم بتوضيح علاقة الأب بأبنائه وتكوينهم النفسي قبل أن ينقض الحدث الرئيسي المتمثل في الجريمة الكبيرة التي تدور حولها الرواية، لذلك يمكن القول أن البداية في "الأخوة كارامازوف" تحتاج إلى صبر من القارئ للتأقلم مع السرد وتفاصيله، لكنها تعطي القارئ فرصة لفهم الدوافع الداخلية للأبطال .
أما في الأدب العربي، فتظهر بداية ممهدة واضحة في رواية "الحرب في بر مصر" للكاتب يوسف القعيد، يبدأ القعيد فيها بتوضيح واقع المجتمع المصري في مرحلة ما قبل الحرب، مستعرضًا الظروف الاجتماعية والسياسية التي تحيط بالشخصيات، فيبدأ بتقديم الشخصيات بلغة بسيطة وشاعرية، مما يمنح القارئ قدرة على التفاعل مع الأحداث بتفهم وعمق.
البداية الانفجارية :
وهي على عكس البداية الممهدة، تعتمد على إدخال القارئ مباشرة في الحدث، فنجدها تبدأ بموقف مفاجئ، مؤثر، أو مليء بالتشويق، وفي هذا النوع من البدايات يكون السرد سريعًا ولا يقدم الكثير من التمهيد أو الخلفيات؛ فيلقي القارئ مباشرة في قلب الحدث مما يزيد من حس الفضول والرغبة في متابعة القصة لمعرفة تفاصيل ما حدث أو كيف ستنتهي الأمور.
مثال على البداية الانفجارية :
رواية "الحارس في حقل الشوفان" للكاتب الأمريكي سالينجر، تبدأ بالشخصية الرئيسة "هولدن كولفيلد "، وهو يتحدث عن مغامراته بطريقة غير تقليدية وعميقة، ملهمًا القارئ بالتساؤل عن السبب وراء تصرفاته، البداية في هذه الرواية تمثل انفجارًا في عالم القارئ النفسي، فيجد نفسه وسط أفكار هولدن المعقدة والمربكة منذ السطور الأولى.
وفي الأدب المصري، تظهر البداية الانفجارية في رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، فنجد الرواية تبدأ بمشهد يتسم بالحركة والمواجهة بين الشخصيات في قلب الحارة، محفوظ يفتح الرواية بمواقف مشوقة ومتسارعة دون تروي أو تمهيد طويل؛ ليضع القارئ في قلب الحدث فورًا، وهو ما يثير الإعجاب ويجذب الانتباه من البداية.
المقارنة بين البداية الممهدة والانفجارية:
تختلف البداية الممهدة عن البداية الانفجارية في أسلوب التأثير الذي تتركه على القارئ .
البداية الممهدة: عادة ما تخلق نوعًا من التوقع والتخطيط الزمني، ويظل القارئ معها مهتمًا بتفاصيل الشخصيات والبيئة حتى بلوغ نقطة التحول .
البداية الانفجارية: تأخذ القارئ مباشرة إلى نقطة ذروة العاطفة أو الحدث فتخلق حالة من الدهشة أو الإعجاب السريع، ولكنها تترك القارئ في حالة من التساؤل أو الارتباك إن لم يتمكن من فهم السياق بالكامل في البداية.
إن للنوعين مزايا في التأثير على القارئ؛ البداية الممهدة تفضل في الروايات التي تتطلب بناء عميق للشخصيات والموضوعات النفسية أو الفلسفية، بينما تلائم البداية الانفجارية الروايات التي تعتمد على التشويق والإثارة، والاختيار بين النوعين يعتمد على نوع الرواية والهدف الأدبي الذي يسعى الكاتب لتحقيقه، وكل نوع يقدم تجربة قراءة مختلفة تأسر القارئ بأسلوبها الخاص.