مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر الدكتور مصطفى رجب يكتب:من شجاعة اللغة العربية

2024-07-12 01:54 PM - 
الشاعر الدكتور مصطفى رجب يكتب:من شجاعة  اللغة العربية
الشاعر الدكتور مصطفي رجب
منبر

استخدام المفرد بمعنى الجمع :
مما يدخل في باب شجاعة العربية أن هناك مزايا تتفرد بها اللغة العربية ، يجيء فيها الاستخدام اللغوي مخالفاً للقياس ، ومع ذلك فإن الذوق لا ينبو عنه ، ولا يرفضه بل يستسيغه ويقبله بلا تردد . فمن هذا الباب يرد استخدام المفرد معنياً به الجمع ، أو يرد الجمع معنياً به المفرد ، وهناك ثلاثة أوضاع للمفرد الذي يطلق ويراد به الجمع هي : 
1- أن يكون المفرد معرفاً .
2- أن يكون المفرد نكرة . 
3- أن يكون المفرد مضافاً . 
وقد ورد من ذلك في القرآن الكريم شيء كثير ، فمما جاء على الوضع الأول قوله تعالى { سيهزم الجمع ويولون الدبر } فقد أطلق لفظ " الدبر " هنا وهو معرفة وأريد به الجمع ، والمقصود ويولون الأدبار . 
ومن ذلك قوله تعالى { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } والمقصود الغرفات أو الغرف جمعاً لغرفة بدليل ورودها مجموعة في آيات أخرى { لهم غرف من فوقها غرف مبنية } . 
ومن هذا النوع أيضاً قوله تعالى { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } والمقصود والملائكة بدليل قوله تعالى في آية أخرى { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } . وقوله تعالى { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } والمقصود الأطفال . 
ومن أمثلة ما جاء على الوضع الثاني : أي يكون اللفظ المستخدم نكرة ويقصد به الجمع قوله تعالى { إن المتقين في جنات ونهر } والمقصود وأنهار بدليل قوله تعالى في آية أخرى وصفاً للجنة { فيها أنهار من ماء غير آسن } .
 ومنه قوله تعالى { واجعلنا للمتقين إماماً } والمقصود أئمة ، وقوله تعالى { ثم نخرجكم طفلاً } والمقصود : أطفالاً . وقوله تعالى { وحسن أولئك رفيقاً } بمعنى رفقاء.
ومما جاء على الوضع الثالث : أي أن يكون اللفظ مفرداً ويقصد به الجمع قوله تعالى { إن هؤلاء ضيفي } أي : ضيوفي ، وقوله تعالى { أو صديقكم } عطفاً على ما ذكره من البيوت التي لا جناح على المؤمنين أن يأكلوا فيها ، والمقصود : أصدقائكم ، وقد ورد في الشعر العربي القديم استخدام المفرد مقصوداً به الجمع فمن ذلك قول علقمة بن عبدة : 
 بها جيف الحسرى فأما عظامها ....فبيض وأما جلدها فصليب 
والمقصود : وأما جلودها فصليبة . 
وقول عقيل بن علقمة المري : 
 وكان بنو  فزارة شر عم .....وكنت لهم كشر بني الأخينا
يعني كانوا شر أعمام . 
وما يجوز في الألفاظ من استخدام للمفرد معنياً به الجمع ، قد ينسحب على الضمائر كذلك . فمن ذلك قوله تعالى { ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم } فالضمير المجرور بمن في قوله { منها } عائد على شجر . والشجر – كما يقول أبو حيان صاحب البحر المحيط – اسم جنس يؤنث ويذكر . غير أن هذا التخريج ليس كافياً لمجيء الضمير التالي المتصل بعلى { عليه } مذكراً ، في حين جاء الضمير المتصل بمن { منها } مؤنثاً . 
ولعل ما ذهب إليه ابن عطية من أن الضمير في { عليه } عائد على المأكول أو الأكل من أفضل التأويلات المقنعة لهذا التركيب . 
ومن ورود ضمير المفرد مقصوداً به الجمع ، كذلك قوله تعالى { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } فالضمير المستتر في الفعل { تحمل } مفرد مؤنث جيء به من باب معاملة الجمع غير العاقل معاملة المفرد المؤنث ، وهو شائع في لغة العرب فلك أن تقول : هذه الكتب ، فتستخدم اسم الإشارة المخصص للمفرد المؤنث مع جمع غير العاقل ، وقد يستخدم اللفظ المفرد معنياً به الجمع ثم يعود عليه ضمير الجماعة كما قلنا آنفاً ، ويكون المعنى مقبولاً سهل الإدراك وغير قابل للتأويل كما هو الحال في آية شجر الزقوم السابقة ، فمن ذلك قوله تعالى في معرض حكاية قصة سيدنا داود عليه السلام { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ، إذ دخلوا على داود ففزع منهم . قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق } فجاءت هنا كلمة الخصم بمعنى الخصوم ، وإليها يعود ضمير الجماعة " الواو " في الأفعال التالية لها " تسوروا "  ، " دخلوا " ، " قالوا " . 
وهكذا نجد أن من أبواب الاتساع والمرونة في لغة العرب التي سماها ابن جني " شجاعة العربية " أن يأتي المفرد ويراد به الجمع . كما قد يأتي الجمع ويراد به المفرد وله حديث آخر .

مساحة إعلانية