مساحة إعلانية
مقدمة الحوار:
منذ سنواته الأولى، كان يدرك أن الإبداع لا يعترف بالقيود، وأن فنونه القولية التي عشقها ليست مجرد تراث جامد، بل نهر حيّ يتدفق ويتجدد. بين حرارة الصيف التي تمنحه الانطلاق، وبرودة الشتاء التي تبطئ خطواته، بين التكريمات التي أنصفته، والقصائد التي حررته، وبين الحب كحكاية لا تشبه يوسف وزليخة، والصعيد كهوية شعرية لا تعرف القيود، أثبت خالد الطاهر أن الشعر الشعبي ليس ابن الماضي فقط، بل هو فن يتجدد، يعانق التطور ولا يفقد جذوره.
عاش خالد الطاهر رحلة مليئة بالشغف والتحديات، جعلته واحدًا من الاسماء اللامعة في سماء الشعر الشعبي في مصر.
ذلك المبدع الذي لم يقتصر عطاؤه على لون شعري واحد، بل تنقل بين القصيدة العامية، والأغنية المسرحية، والمسرح تأليفًا وتمثيلًا وإخراجًا. عشق التراث الشعبي فصار باحثًا فيه، وأعاد إحياءه بلمسته الخاصة، فحصد العديد من الجوائز والتكريمات داخل مصر وخارجها. أثرته الحياة بتجارب إنسانية صنعت من كلماته صدىً عميقًا في وجدان جمهوره، خاصة فقدانه لأخيه الذي ترك بصمة واضحة في شعره. بين عشقه لمحمد منير، وذكرياته التي نسجت قصائده، وبين فن الواو الذي أبدع فيه، نحاوره اليوم لنقترب أكثر من عالمه الفني والإنساني.
البدايات والتأثيرات
*كيف بدأت رحلتك مع الشعر الشعبي وفن الواو؟
**البدايات دائمًا تحمل في طياتها أجمل الذكريات، خاصة عندما يكون الحديث عن الشعر، الذي كان مدخلي إليه من بوابة فن الواو. لم يكن الأمر مخططًا، بل جاء بمحض الصدفة أثناء عملي في المسرح بأسوان، حيث كنت أكتب الأغاني للأعمال المسرحية. لكنني واجهت تحديًا، فبعض المواقف الدرامية لم تكن تحتمل الأغنية التقليدية بمذاهب وكوبليهات، فبحثت عن بديل أكثر تكثيفًا وتأثيرًا، فوجدت ضالتي في فن الواو، حيث يمكن لأربع شطرات فقط أن تؤدي غرض أغنية كاملة.
تطورت تجربتي مع الشعر الشعبي، فتنقلت بين أشكال مختلفة مثل الموال بأنواعه (رباعي، خماسي، سباعي) والنميم، مما صقل أسلوبي الشعري وأكسبه تكثيفًا ومفارقة واضحة. ولا أنكر أن نشأتي في الجنوب، الذي يعد موطنًا للفنون القولية، كان له أثر كبير في تكويني، حيث تتلمذت بشكل غير مباشر على أيدي رموز مثل أحمد بن عروس وغيرهم.
دور الشعر الشعبي في حفظ الهوية الثقافية
الشعر الشعبي هو الذاكرة الحية للجماعة، فهو يسجل عاداتها وتقاليدها وأمثالها وأغانيها، مما يجعله جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية. الحفاظ على هذا الشعر هو حفاظ على موروثنا الشعبي، لأنه لا ينقل فقط الكلمات، بل ينقل روح الأمة وتراثها غير المكتوب.
فن الواو بين الاستمرارية والتحديات
*هل ما زال لفن الواو جمهوره، أم أنه يواجه خطر الاندثار؟
**رغم التحديات، فإن فن الواو لا يزال حاضرًا بقوة، بل إن رقعة جمهوره تتسع داخل مصر وخارجها بفضل مبدعيه ومحبيه. إلا أن هذا الفن يواجه عقبات، أبرزها قلة الاهتمام المؤسسي، حيث يحتاج إلى مهرجانات ومؤتمرات ودراسات نقدية تسلط الضوء على رواده وأصالته.
لكن التحدي الأخطر هو دخول بعض المدّعين إلى هذا المجال دون امتلاك أدواته أو فهم قيمته الحقيقية. هؤلاء أساءوا إلى الفن، حيث ظن البعض أن الواو مجرد أربع شطرات متوافقة في القافية، دون أن يدركوا جوهره القائم على المفارقة والتكثيف والبعد الفلسفي. في النهاية، يبقى لكل فن أصيل أعداؤه، سواء كانوا من خارجه أو حتى ممن يحسبون عليه.
الإبداع والمسرح
*كيف توفق بين كونك شاعرًا، وممثلًا، ومخرجًا مسرحيًا؟
**في الحقيقة، لا أعتبر الأمر توفيقًا بقدر ما هو تكامل طبيعي بين هذه الفنون، حيث تصب كل موهبة في الأخرى. عندما أكتب نصًا مسرحيًا، أتقمص شخصياته، وأحدد مواضع الأغنيات كوني شاعرًا، وأتخيل الأداء كممثل، وأضع الرؤية الإخراجية بشكل تلقائي. في بعض الأعمال، مثل المهموز وحاوريني يا...، كنت الكاتب والشاعر والممثل والمخرج في آن واحد، لكنني دائمًا أفصل بين الأدوار وأحترم كل موقع إبداعي على حدة. تعدد المواهب أشبه بينابيع تصب في نهر واحد، مما يثري التجربة الإبداعية.
*ما الفرق بين كتابة الشعر وكتابة الأغنية المسرحية؟
**كتابة القصيدة تمنح الشاعر حرية واسعة في الشكل والصور والوزن، بينما الأغنية، سواء كانت مسرحية أو مستقلة، تخضع لقيود أكثر في القافية والإيقاع والبناء. الأغنية المسرحية تحديدًا تكون مرتبطة بموقف درامي ولحظة زمنية محددة، مما يجعلها أكثر تحديًا، إذ يجب أن تعبر عن الموقف بإيجاز وقوة دون أن تخرج عن السياق الدرامي.
المزج بين الشعر والغناء
*كيف أسهمت تجربتك الغنائية في تشكيل هويتك الفنية؟ وما التحديات التي واجهتك؟
**الغناء كان جزءًا أصيلًا من تجربتي، حيث فرضته طبيعة عملي المسرحي. نحن شعب غنائي بطبعنا، نغني للفرح والحزن والعمل والمناسبات المختلفة، مما جعل الشعر والغناء يتداخلان في وجداني. هذا المزج منحني هوية فنية متميزة، لكنه في الوقت ذاته جعلني أواجه تحديات، أبرزها ضعف الدعم المؤسسي للشعر الشعبي والفنون التراثية. المبدع الشعبي بحاجة إلى دعم يليق بقيمة ما يقدمه، لكنه غالبًا ما يواجه ضغوطًا مادية ولوجستية تحدّ من انتشاره.
تحديات الفنون التراثية في العصر الحديث
*كيف يمكن للمسرح الشعبي والأغنية التراثية أن تظل قادرة على المنافسة؟
**رغم قدمها، تظل هذه الفنون قادرة على البقاء، لأنها تناقش قضايا إنسانية لا تتغير عبر الزمن. سحرها يكمن في أصالتها، لكن تطويعها بما يناسب العصر هو مفتاح استمرارها. تقديم موضوعات حديثة بصيغ تراثية، وتجديد أشكال العرض، يمكن أن يحافظ على جاذبيتها ويجعلها قادرة على المنافسة في المشهد الثقافي المعاصر.
تجارب شخصية وتأثيرها في أعمالك
* كتبت ديوانًا كاملًا من الشعر الشعبى رثاءً لأخيك الراحل، كيف أثر هذا الحدث على مسارك الإبداعي؟
**رحيل أخي محمد حلمي الطاهر كان زلزالًا في حياتنا، فقد كان كبير العائلة وسندها. غيابه ترك فراغًا هائلًا، وتحولت حياتنا من الطمأنينة إلى القلق.
كتابة ديوان "من غير شور" لم تكن مجرد رثاء، بل كانت صرخة ألم ومحاولة لفهم الفقد. أدركت حينها أن الحزن لا ينتهي، لكنه يمنح الشعر عمقًا أكبر.
من غير شور ... الموت بياجى
لا شاب حتمن عمره يطول
لا نـدل باقى لا ابن أصـول
مين قــال يشـــاور ..........
*ماذا يمثل لك محمد منير؟ وكيف أثرت أغانيه عليك؟
**محمد منير ليس مجرد مطرب، بل "صديق الغربة والحب والأمنيات". صوته يرافقني في لحظات التأمل، يربت على أوجاعي، ويحيي بداخلي الأمل.
منير أقرب إليَّ من نفسي، بصوته وكلماته، بموسيقاه التي تعبر عني أكثر مما أستطيع التعبير عن ذاتي.
محطات فارقة في الإبداع
*هل هناك قصيدة تمثل نقطة تحول في مسيرتك؟
**نعم، قصيدة "التعويذة" كانت لحظة اكتشاف جديدة لنفسي كشاعر. لقد كسرت القيود التي جعلتني أسيرًا للشعر الشعبي والفنون القولية لسنوات، وفتحت لي آفاقًا جديدة في الكتابة، حيث مزجت بين احترافية الدراما وتكثيف الفنون القولية، مما منحني بُعدًا مختلفًا في تجربتي الشعرية.
الشعر والمجتمع
*كيف تطور دور الشاعر الشعبي اليوم؟
**الشاعر الشعبي لم يتوقف عند ما تركه القدامى، بل ظل في صميم التغيرات الاجتماعية والسياسية، يعبر عن قضايا المجتمع المحلي والإقليمي والدولي بأسلوب يجمع بين الرصد والنقد والمعالجة.
الـغـدر دايـمًـا لِـنـاسَـا
م البحـر عشقوا خسيسة
ديـمـونـة تـشـبـه لِـنـاسَـا
لاتنين طباعهم خسيسة
الشعر الشعبي يواكب العصر، ويظل صوت الناس الحقيقي في كل زمان.
تأثير الفصول على الإبداع
*كيف تؤثر الفصول عليك كمبدع، وهل يلهمك الصيف بطريقة مختلفة عن الشتاء؟
**الشتاء بالنسبة لي فصل خمول وكآبة، تتجمد فيه كل طقوسي الإبداعية، حتى أن أصدقائي يقولون:
"من أراد أن يستمتع بإبداع خالد الطاهر، فليدعُه صيفًا!"
ورغم حرارة الصعيد، إلا أن الصيف يمنحني الحرية والانطلاق، فأعيش لياليه في السفر، والسهر، وجلسات الأصدقاء، حيث يكون الإبداع حاضرًا بكل تفاصيله.
بـرجـف تـمَـلَّى وبَـرّاد
ومِـدّاسي مَـهْدَى لحافى
ولا قـهـوة نافعـة وبَــرَّاد
ولا غيرها صحبة لحافى
الحب وإعادة تعريفه في الشعر
*في قصيدتك "مانيش يوسف"، جسّدت الحب كرحلة مليئة بالتفاصيل والمشاعر المتداخلة، حيث لم تضع نفسك في دور البطل النبوي يوسف، ولم تجعل الحبيبة زليخة، لكنك وصفت قصة عشق مليئة بالصبر والتحديات. إلى أي مدى ترى أن الحب تجربة شخصية لا تخضع للنماذج المثالية، بل تتشكل وفق ظروفها الخاصة؟ وهل ترى أن الشعر قادر على إعادة تعريف قصص الحب بعيدًا عن القوالب النمطية؟
** أعتقد أن هذا السؤال لا يقتصر على القصيدة فحسب، بل يصلح ليكون بحثًا أكاديميًا حول مفهوم الحب بشكل عام. فبالنسبة لي، الحب هو أحد أشكال الإبداع، ولكل تجربة مذاقها الخاص وخصوصيتها الفريدة. لا يمكن للحب أن يخضع لقوالب ثابتة أو مسلّمات محددة، كما لا تحكمه الحسابات أو المعطيات التي تؤدي إلى نتائج متوقعة مسبقًا. فلو كانت تجاربه ثابتة ونتائجه موحدة، لما كان فيه كل هذه الروعة والجمال والإبداع.
"لا كنت ف يوم كما يوسف
ولا زليخة أنا ف حبك
لكنه الحب ف دروبه
كتير حكايات"
دور الشعر الشعبي في قضايا العصر
*هل هناك قضايا يجب على الشعر الشعبي تناولها أكثر؟
**الإبداع، وخاصة الشعر الشعبي، لا يعترف بالممنوع والمسموح، فالمبدع هو كلمة السر التي تفتح الأبواب المغلقة. القضية ليست في ماذا نكتب، بل في كيف نكتب، فالتناول الإبداعي هو ما يصنع الفارق بين مبدع وآخر، حتى لو تناولا القضية نفسها.
مستقبل الشعر العامي وفن الواو
*كيف ترى مستقبلهما في ظل التطور التكنولوجي والإعلام الرقمي؟
**التكنولوجيا سيف ذو حدين، لكنها بلا شك ساهمت في انتشار الشعر العامي وفن الواو، نظرًا لاعتمادهما على الكلمة المنطوقة، التي تحتاج إلى السماع أكثر من القراءة.
منصات التواصل منحت هذه الفنون فرصة للوصول إلى جمهور أوسع، وأتوقع أن تشهد طفرة كبيرة في المستقبل، حيث ستتخطى حدود اللهجات وتصل إلى آفاق جديدة لم تكن ممكنة من قبل.
التكريمات والجوائز: تأثيرها ومعناها
*أي تكريم كان له التأثير الأكبر عليك؟ ولماذا؟
**لكل تكريم مكانة خاصة في قلبي، لكن التكريمات المرتبطة بالفنون القولية تظل الأقرب إليّ، كونها تثبت أهمية الشعر الشعبي في المشهد الأدبي.
من أبرز المحطات التي أعتز بها:
-دعوتي للعمرة في ضيافة المملكة العربية السعودية عام 2013، حيث تفوق الشعر الشعبي في احتفالية جمعت عدة فنون.
-درع ملتقى الشعر الشعبي لشعراء مصر – الإمارات (2015).
-درع الشعر الشعبي – الإمارات (2018).
-درع التميز في الأدب الشعبي – مصر (2018).
-المركز الأول في "فن الواو" – جائزة عبد الستار سليم (2020).
-مشاركتي في احتفاليات بدولة لبنان، مما أكد أن الفنون القولية المصرية ليست قاصرة على لهجتها، بل تستطيع الوصول إلى جمهور أوسع.
الجوائز ومعيار النجاح
*هل الجوائز ضرورية للمبدعين؟ وهل هي معيار حقيقي للنجاح؟
**الجوائز حافز مهم للاستمرارية والتطور، لكنها ليست المعيار الوحيد لنجاح الشاعر.
هناك مبدعون كبار لم يحصلوا على أي جائزة، ومع ذلك لا يمكن إنكار قيمتهم الإبداعية وتأثيرهم العميق في المشهد الأدبي. الأهم هو ما يتركه الشاعر من أثر في قلوب الناس، وليس مجرد الأوسمة والجوائز.
* كيف يمكن للشباب أن يبدأوا في هذا المجال؟
** 1. الاطلاع والتعلم: لا يمكن لشاعر أن يبدع دون أن يعرف ما قيل وما يقال في هذا الفن.
* إذا طلبنا منك أن تختتم الحوار ببيت من فن الواو يعبر عن تجربتك في الحياة، فماذا ستختار؟
**ما اكثر مربعات الواو التى تعبر عن تجربتي فى الحياة ،لأن معظمها تكون نابعة من تجارب حياتية ، ولكن سوف اقتصر على هذه المربعات
** السعـد زاين مطارح
فارس وأول سباقى
الفرح عـقَّـب مطارح
والهــم خدتُـه سبــاقى
** الـكل عـامل سـلاح ليـك
انا قـلت مـوقـف بطـولى
فـاكر ورايـا سـلاحليـك
القـانـى واقـف بـطولـى
** عـنتر زمانى ولادهــــم
وســلامة ويــًّا خليــــفة
زيـك وغـيرى ولادهــــم
ما يعـيـبنا قـــلة خـليـفـة
تلغراف
*إذا طلبنا منك إرسال "تلغراف" إلى شخص ترك أثرًا طيبًا في حياتك، وكان له دور في تشكيل رحلتك الشعرية أو الإنسانية، لمن ستوجه ؟ وماذا ستقول له؟
** إلى الشاعر الكبير عبد الستار سليم، عم عمام و أحد أعمدة الفنون القولية في مصر.
نص التلغراف:
"لأستاذنا عبد الستار سليم، الذي قدم الكثير للفنون القولية دون أن يأخذ منها بقدر ما أعطى، كان و لا زال له أيادي بيضاء على معظم شعراء الفنون القولية فى ربوع مصر، وأنا واحدا من هؤلاء، علَّمنا وألهمنا بحبه لهذه الفنون وعطائه الكريم. جزاك الله خيرًا، وأطال في عمرك، وأكرمك كما أكرمت هذه الفنون وأهلها."
ختام الحوار
في حضرة الشعر، لا يكون الختام سوى بداية أخرى، فالشاعر لا يعرف نقطة النهاية، بل يرى كل محطة على أنها انطلاقة جديدة. هكذا كان لقاؤنا مع الشاعر خالد الطاهر، الذي أخذنا في رحلة عبر الكلمات، حيث تمتزج الفنون القولية بروح الصعيد، وحيث ينبض فن الواو بالحياة، متحديًا الزمن وحدود الجغرافيا.
وفي الختام، يبقى الإبداع طاقة لا تنضب، ويبقى الشعر الشعبي مرآة تعكس وجوهنا الحقيقية. ولعل كلمات شاعرنا تلخص رحلته في الحياة:
"السعـد زاين مطارح.. فارس وأول سباقي
الفـرح عـقب مطارح.. والهـم خدتُـه سبـاقي"
شكرًا لك، أستاذ خالد الطاهر، على هذا الحوار الذي منحنا فرصة للتجول في عوالمك الشعرية، ونرجو أن تستمر رحلتك في سماء الإبداع، مشرقة كصيفك الذي لا ينتهي.