مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

بطّة مكتنزةٌ عوارضُها

2023-06-17 01:38:46 -  تحديث:  2023-06-17 01:40:20 - 
بطّة مكتنزةٌ عوارضُها
د.ايمن الداكر
منبر

عندما خرجتُ متأنقًا من غرفتي، كان أخي يجلس متكئًا في رَدْهة البيت يحتسي كوب الشاي بحليب، وإلى جواره أمي ترتِق بعض الملابس القديمة التي ما عاد يستخدمها أحد، بيدي حقيبة بلاستيكية تحمل شِعار إحدى الماركات العالمية، وبداخلها قنينة عِطر فاخرة كنت قد ابتعتها هدية لصديقي حَمَد. 
اعتدل أخي في جلسته قائلاً:
- أجيئ معك، أظنك نسيت الطريق إلى هناك.
أشفقتُ عليه من رحلة مزعجة تتطلّب السير على الأقدام حتى أطراف المدينة، ثم التكدّس في سيارة (ترامكو) ضخمة الجُثة ومتورّمة المفاصل، ينحر ماتورها على الطريق الزراعي كامرأة عجوز، يتبعها الترجّل لمسافة غير قصيرة إلى بيت صديقي في منتصف قريتهم في ذلك اليوم القائظ، فرفضتُ دعوته وتبسمتُ قائلا:
- دعني أسترجع ذكرياتي القديمة.
وكانت شفقة أمي بي أكثر فقالت:
- خذ "التوك توك".
مازالت بقايا تجربتي الأولى مع تلك الخُنفسة المتمردة تؤرقني، لكنها الوحيدة- كما قال أخي- التي تستطيع أن تقلني من عتبات بيتنا حتى أريكة صديقي عبر دروب ضيقة ومختصرة.
فرصة أخرى لن تضير، ردّدتُها في نفسي وأنا أخطو نحو الشارع الكبير على ناصية حارتنا، ودون أن أرفع يدي بالإشارة توقفت واحدة منها أمامي، أطل حاديها من خلف كومة المرايا التي تزين واجهتها على اليمين واليسار وكأنها ليست خنفسة سوداء بل محل حلاقة شعبي، تفحصني قليلا من شعر رأسي حتى أخمص قدمي ثم قال:
- "توك توك" يا أستاذ.
تفحصته بدوري كردة فعل لفعله، الصورة الآن مغايرة تمامًا، قسمات وجهه توحي بعدم تجاوزه العقد الثاني من عمره، رائحته عطره وملابسه مُهندمة ونظيفة، فاطمأن قلبي وأخبرته عن وجهتي البعيدة قائلا:
- قرية ميت بركة.
خلّل شعره الطويل بأصابعه فتجلى أثر "الجِل" فيه والعناية الفائقة به، ثم نزع نظارته الشمسية الفاخرة وأمال رأسه نحو السماء وكأنه يستشيرها في أمر ما، ثم قال في هدوء ووقار عجيب:
- عشرون جنيها.
تذكرت نصيحة أخي الذي يتقمص- دائمًا- دور الخبير الاستراتيجي في شئون “التكاتك”، فتصنعت الثقة الشديدة قائلًا:
- غيرك يقبل بعشرة فقط.
ولّى وجهُه للأمام وقال دون تردّد:
- اركب.
على غير العادة، المقعد الخلفي وثير جدًا ومريح، تغلّفه كسوة جلدية فاخرة، وفي سماء "التوك توك" غلاف شفاف، يحجز خلفه عدة صور فوتوغرافية حديثة للسائق الصغير في أوضاع سينمائية مختلفة، تحوطُه بعض من وجوه الفنانات الجميلات تعلوهن ابتسامة مشرقة أو نظرة جريئة، وفي الواجهة أمام السائق تراصت مرايا عديدة على الجانبين مختلفة الأشكال والأحجام في تناسق بديع، تتدلّى بينهن فواحة عطرية تلتفّ حولها "مسبحة" كهرمان وخرزة زرقاء ترقد على عين حورس السحرية. 
الستائر نظيفة وسميكة عندما تغلقها نهارًا تعكس ورود متناثرة في أرجاء "التوك توك" وعندما تغلقها مساء تجعل من صالونه الخلفي غرفة ساحرة هادئة ومريحة.
على جانبي "التوك توك" من الخارج أضاف صاحبه حواجز فضية عريضة، كتلك التي تتميز بها سيارات الدفع الرباعي، أضافت إلى الخُنفسة السوداء أبعاد عديدة في الطول والعرض، فتحولت إلى عربة سندريلا السحرية وراحت تتهادى في منتصف الطريق كبطة بلدي مكتنزة مؤخرتها وعوارضها بدهن العتاقيّ.
مرت عدة دقائق من الهدوء اللذيذ قبل أن تجئ دقات طبل منفردة من سماعتين كبيرتين تحتلان نصف "التوك توك" خلف أريكتي الوثيرة، توجستُ خيفة لكنها ما لبثت أن تحولت إلى موسيقى "الفيس بريسلي" السريعة والتي تعجبني كثيراً، طربت لها وتردد في خاطري سؤال عابر، هل يفهم مثله معاني الكلمات أم أنه يستمتع بالنغمات، وتفلتت مني ابتسامة فرحة لا أعرف دوافعها وأنا أقول:
- كم تغيرت تلك المدينة.
لم ينتبه السائق لكلماتي، وخرجنا من الشوارع الضيقة إلى براح الطريق الزراعي، تباعدت البيوت وهلّت الحقول المترامية على جانبيه، الألوان الطبيعية المتباينة تُريح العين وتبعث في النفس بهجة، باعة يفترشون رؤوس الحقول بما جادت به من خيرات، الكرنب والفجل الطازج والجرجير، حبات الطماطم الصغيرة الحمراء والباذنجان الأسود، وآخرون يزاحمون حِزم "الجراوة" والبرسيم، بعضهم بجوار بعض، نسيم عليل يسري في مسام الروح، فملأت صدري بشهيق بارد ولذيذ، وكدت أن أروح في سِنة عابرة من النوم، لكن رجّة قوية أصابت "التوك توك" بعد أن تبدّلت الموسيقى الهادئة إلى أخرى صاخبة جدًا، لا شرقية ولا غربية، وصوت مشروخ يعلو بغناء أشبه بالعواء، وكلّما دقّت الطبول سرَت موجاتها الاهتزازية في جسد الخُنفسة السوداء فترتجّ وتتمايل ويرتجّ معها قلبي، وجاء رنين هاتفي المحمول ضعيفًا وباهتًا فلم أنتبه إليه إلا بعد تكرار صياحه، طالعت شاشته الصغيرة فأطلّ اسم صديقي حَمد، سألت السائق أن يخفض ذلك الصخب قليلًا، مدّ يده نحو جهاز يشبه كاسيت السيارة معلق فوق رأسه، اعتمل فيه بأصابعه قليلاً لكنني ما زلتُ عاجزًا عن سماع صوت حَمَد، لامست كتفه قائلا:
- وطي الصوت.
لم يلتفت نحوي ولم يحرّك ساكنًا، فعاودتُ الكَرّة بقوة اهتزّ لها كتفه، غادر منتصف الطريق الذي كان ملتزمًا به طوال الرحلة وانعطف إلى جانبه الأيسر، أغلق صوت الكاسيت تمامًا وتوقف على رأس (غيط) تفوح منه روائح البصل والثوم، شغلتني مكالمة حمد عن شكره وهو يترجّل من "التوك توك"، أشعل سيجارة فاخرة ونفثَ دخانها في الهواء، ثم دفس رأسه نحوي حتى كادت السلسلة الفضية المتدلية من عنقه أن تخرق عيني وهو يقول غاضبًا:
-  (لهو أنت شريكي في "التوك توك"، عشان تقول لي وطي وما وطيش)
لم ينتظر إجابة مني ولم ينبث بكلمة أخرى، عاد مباشرة إلى مقعده خلف المقود وانطلق في سرعة نحو منتصف الطريق، عاد صوت المطرب "يبحّ" بكل قوة في سماء "التوك توك" كدكر البط المذبوح، تملكتني تلك الدهشة مرة أخرى فعقدت لساني ويدي، حتى هاتفي المحمول أغلق مكالمته دون أن يلامس أصبعي زر الإغلاق.
كانت رحلتي قد أوشكت على نهايتها وقد لاحت قرية صديقي على مرمى البصر فتذرعت بالصبر، وأنصتّ لصوت المطرب وأنا أراقب رأس السائق التي تمايلت طربًا، وبين الحين والآخر يشارك المطرب في الغناء.
بعد عدة محاولات فاشلة، نجحت في التقاط بعض كلمات الأغنية، فوجدتها صادقة ومعبرة وكان المطرب يعيدها أكثر من مرة وهو يصرخ قائلًا:
-  (أنا محدّش سامعني ليه)
-  (أنا محدّش عايزني ليه)
 * من مجموعة (أنف كبير وثلاث عجلات)

مساحة إعلانية