مساحة إعلانية

فى ذكرى وفاة الست "حليمة" أمي..الرجال راحوا يتبادلون نعش أمى فيما بينهم..
يقول الرجل للآخر قبل أن يحمل عنه جانب من الجوانب الأربعة للنعش:
- آجر.. آجر..
وأنا أسير خلف نعشها الذى أنظر إليه فى عجب متسائلًا:
- هل حقًا ماتت أمى؟!!
هل هذا نعشها حقًا؟!!
إن كان كذلك فلماذا أسير خلفها هكذا دون بكاء؟!! كم دمعت عيناى حزنًا وألمًا على فراق أحبة كثيرين رحلوا ومشيتُ فى جنازتهم..اليوم أسير خلف نعشها ودموعى متحجرة داخل مقلتى، فلماذا؟!! أنا لا أدرى..وهل البكاء علامة مؤكدة على الحزن؟!!أتكون دموعى قد جفت حقًا؟!! ولماذا تجف الآن؟!! الآن تحديدًا..
صوت عويل وبكاء النساء خلف الجنازة لم يحثنى على البكاء؟!! فما أكثر بكاء التماسيح.. أنظر إلى المشيعين من حولى.. هؤلاء الذين ينظرون إلىَّ من وقت لآخر بعين الشفقة..
- آجر.. آجر..
- آجر.. آجر..
- آجر.. آجر..
الرجال يتسابقون لحمل نعش أمى الذى راح يتنقل من كتف لكتف..
- هذه ليست جنازة أمك أنت.. هذه جنازة أمنا جميعًا..
هكذا قالها أحد المشيعين فور خروج النعش من المسجد.. ألهذا الحد كنتِ يا أمى محبوبة من الجميع؟!! أيقنت الآن.. الآن فقط يا أمى سبب تناوب الرجال نعشك..
أسرعتُ الخطى.. حتى وصلت إلى نعشها قلتُ قولهم:
- آجر.. آجر..
عجبًا..لم يسمع صوتى أحد..أيكون صوتى قد انحبس؟!!عجبًا.. هذه أمى.. فلماذا لا يريدون أن أحمل نعشها مثلهم؟!!
- آجر.. آجر..
قلتها ثانيًا بصوت أعلى وأشد وأنا أهز أحدهم فى كتفه..فلم يسمعنى، ولم يشعر بهزاتى المتتالية فى كتفه.. أيكون ليس لى وجود بينهم؟!!عدتُ أسأل نفسى فى حيرة من أمرى: أرحلتِ حقًّا يا أمى؟!! أم أن ما أشارك فيه الآن هو مجرد حلم.. حلم أرفضه بشدة، وحتمًا سوف أخرج منه..هو حلم يا أمى أليس كذلك؟!! أرجوكِ أن تسرعى لتوقظينى منه.. هيا أسرعى يا أمى لتوقظينى منه كما كنتِ تفعلين من قبل.. هيا أسرعى يا أمى لتوقظينى.. لتجففى عرقى.. لتضمينى إلى صدرك الحنون وتعطينى كوب الماء الجاهز دومًا بين أصابعكِ.. وابتسامتك التى لا تغادر وجهك، وأسمع منك فور شربى كوب الماء كله:(حلم.. هو مجرد حلم يا حبيبى) تقولينها ثم تأخذيننى فى حضنك كما الطفل.. أنا طفلك الكبير أوليس هذا كلامك يا أمى؟!! أنتِ حقًّا لم ترحلى أوليس كذلك يا أمى؟!! كيف ترحلين وقد علمتنى دنيتى أن الضعفاء فقط هم من يستسلمون للموت؟!! وأنا وكل من يعرفكِ يعلم جيدًا أنكِ قوية.. قوية جدًّا، ولم تستسلمى لأى شىء يحاول أن يضعف من قوتك، ودليل على هذا تلك الأمراض الكثيرة التى اجتاحت جسدك بقوة، وبرغم كل تلك الأمراض التى غزت جسدك إلا أنكِ فى النهاية تخرجين منتصرة، وكأن شيئًا لم يكن.. أوليس كذلك يا أمى؟!!كيف استسلمتِ للموت؟!!كيف خدعك؟!!(إن الموت يخشاكِ)أوليس هذا قول كل من يعرفكِ؟!! كيف استطاع الموت أخذ روحك؟!!هل أعطاكِ قرص منوم فى كوب الشاى الذى كنتِ تعشقيه أكثر من طعامك؟!!هل أوهمك بفكرة الزواج، ولعب معكِ لعبته المعروفة لدى جميع النساء التى مات أزواجهن؟!!كيف وأنا أعلم وكل أقاربنا وجيراننا يعلمون أنكِ رفضتِ بشدة فكرة الزواج بزوج ثانٍ بعد موت أبى الذى كنتِ تعشقينه عشقًا لا حدود له، وحتى تؤكدى على فكرة عدم زواجك قصصتِ شعرك البنى الناعم الطويل الذى جذب كثيرًا من الرجال عندما كانوا يرون جزءًا منه عند سيرك، حتى أننى كلما رأيتك هكذا ظننتكِ رجلاً.. رجلًا ينقصك فقط شارب، ولكنى سرعان ما أتراجع وأقول ليس كل ذي شارب رجل؟!! فما أكثر شوارب القطط.. ليس هذا فحسب بل لم تفكرى يا أمى فى خلع ثوب حزنك على أبى، وتركت أيضًا الشعيرات تتناثر هنا وهناك فى أماكن كثيرة من وجهك الأبيض كى تشوهه، دون أن تفكرى وتفعلى ما تفعله النساء.. حتى نجحتِ فى أن يهرب منكِ الرجال.. كل الرجال.. كنتِ كما الرجال.. لا بل كنتِ أفضل الرجال أمام قسوة الأيام حتى نجحتِ عن جدارة فى تربيتى أنا وأخى الأكبر.بالله عليكِ إن كنتِ حقًّا قد متِ فأخبرينى كيف نجح الموت فى ذلك؟!! كيف استدرجك إلى مبتغاه؟!!كيف يا أمى؟!! النعش يسرع بخطواته الواثقة نحو المقابر.. أإلى هذا الحد أنتِ يا أمى فى شوق ولهفة شديدة للسكنى فى بيتك الجديد؟!! كلما هممتُ أن أسرع الخطى للسير بجوار نعشها تمنعنى كثرة خطى وزحام المشيعين..فقط كنتُ أنظر إلى النعش من بعيد.. فجأة..وجدتُ أمى تخرج يدها خارج الخشبة..راحت تلوح بها مودعة إياي فى حزن وألم..هممتُ أن أسرع الخطى كى أتلمس أصابع يدها... تمنعنى كثرة خطى وزحام المشيعين...راحت تقول لى وهى رافعة يدها:
- مع السلامة يا أغلى وأحب الناس عندى..
سمعتُ كلماتها الدامعة تخرج من حلقها المذبوح حزنًا..قالتها بصوت قوى مسموع إلى آخر شخص يسير فى جنازتها..نظرتُ من حولى للجموع الغفيرة التى تسير من حول النعش..عجبًا..لم يلتفت أحد لما تفعله أمى..لم يسمع أحد صوت كلماتها الباكية..أنا.. أنا وحدى المقصود بذلك..أنا.. أنا وحدى الذى أسمعها وأراها دون غيرى..في إحدى التواءات أحد الشوارع استوقفنى رجل كان قد توقف عن سيره بالموتوسيكل احترامًا وإجلالًا لسير الجنازة.. قال وهو لم يزل يجلس فوق الموتوسيكل:
- من صاحب هذه الجنازة؟!!
رحتُ أحدق فى وجه الرجل الغريب الذى وجه سبابته فى اتجاه سير نعش أمى، وراح يقول:
- إنا لله وإنا إليه راجعون.. لا خوف ولا فزع من لقا الله.. أنتم السابقون ونحنُ اللاحقون..عجبًا..
ترى.. هل لعدم وجود الخطوط الطولية والعرضية للحزن على وجهى؟!!
ترى.. هل لأنه لم يرى فى عينى دموعًا؟!!ترى.. هل لأن...؟!!ترى.. هل لأن...؟!!
ترى.. هل لأن...؟!! ألتفتُ إلى أمى التى راحت تجر خلفها المشيعين جرًّا لسرعتها..ثم ألتفتُ إليه.. هممتُ أن أقول.. أن أجيبه أن التى ماتت هى أمى الست "حليمة"... هممتُ أن أقول له أن هذه جنازة أمى التى لن أراها ثانيةً بعد اليوم...الكلمات فى فمى تأبى الخروج..ترفض بشدة إعلان وفاة الست "حليمة"..
وجدتنى أبتسم فى وجهه، ورحتُ أقول فى ثقة:
- هذه جنازتى أنا.. أنا المتوفى..
قلتها وانصرفت..سمعت صوته يقول من خلفى:
- إنا لله وإنا إليه راجعون.. لا خوف ولا فزع من لقا الله.. أنتم السابقون ونحنُ اللاحقون..
النعش أسرع فى خطاه..والمشيعون من خلفه يلهثون..وجدتنى أجرى..وأجرى..
وأجرى..تمامًا كالذى يريد اللحاق بآخر قطار سوف يخرج من المحطة.. حتى وجدتنى أنتظرها أمام القبر.. أمام باب بيتها الجديد..فى هدوء وبطء وحذر شديد أنزلوا الخشبة..خلعتُ فردتى حذائى، وقلتُ للملتفين من حول النعش:
- لن ينزل معى أحد.. أنا وحدى سأفتح عليها..
فى هدوء وبطء وحذر شديد تلقفتها يداى كما تلقفتنى عند خروجى منها..
أدخلتها فى رفق إلى بيتها الجديد وأنا أقول:
- بسم الله وعلى سنة رسول الله.. صنعتُ لها وسادة جميلة من تراب القبر..
فككتُ عنها أول الأربطة..ثم الثانى..ثم الثالث..وما إن فككتُ عنها آخر الأربطة حتى رمتنى بابتسامة حب وشفقة وخوف..
- لماذا الآن يا أمى؟!!
- إنها إرادة الله يا بنى..
- وأنا يا أمى ماذا أفعل من بعدك؟!!
- أنت لن تكون آخر من تيتم يا بنى.. ثم بإمكانك أن تزورنى كيفما شئت.. سوف أكون فى انتظارك فى أى وقت.. لا.. سوف أكون فى انتظارك فى جميع الأوقات، يا بنى لو أن لقبرى بابًا لأعطيتك وحدك مفتاحه..
- ولكنى أخشى.. أخشى أن تأخذنى أيامى منكِ يا أمى..
- لم يعد لدى ما أقوله لك.. هنا قضى الأمر..
" الأستاذ محمود لم يزل داخل القبر يفكك عنها رباط الكفن.."
قالها أحد الواقفين بالخارج..
" لا.. هو خرج.. خرج أنا متأكد.. هيا ابنوا باب القبر جيدًا.."
يقولها أخى الوحيد الذى يعلم جيدًا أننى لم أزل داخل القبر..كيف لأخى الوحيد أن يؤكد على خروجى من القبر؟!! وحذائى الذى رآه أسفل النعش وراح يدوس عليه بقدميه.. راح يغرسه بشدة داخل التراب؛ حتى نجح فى أن يخفى معالمه/معالمى ليؤكد للجميع أنى خرجت..يقولها أخى الوحيد الذى يرفضنى بشدة، ويرفض وجودى معه؛ حتى لا أشاركه فى الميراث.. أخى الوحيد التى حذرتنى منه أمى ومن أولاده مرارًا وتكرارًا.. تُرى ماذا سيفعل معى من بعد أمى التى كانت تحمينى منه؟!! أمى التى كانت تقول لى دومًا فى حزن وألم:
(انت طيب.. طيب قوى ومسالم) كيف أواجه ظلمه وطمعه وحدى؟!!
أخى الذى قال لى ذات يوم:(أنا خائف عليك من أولادى)
لحظتها قلتُ متسائلًا:(ماذا تقصد من وراء كلامك هذا؟!!) فأجابنى وهو يتابع خروج أنفاس سيجارته المحشوة بأعشاب البانجو:(عليك أن تفهم كلامى حسب إدراكك له) .هل حقًا أستطيع مواجهته ومواجهة أفعال أولاده؟!! وهل...؟!!
وهل...؟!! وهل...؟!!وجدتنى أجردُ نفسى من جميع ملابسى حتى أصبحتُ عاريًا..
وجدتنى أصنع لى وسادة من الأتربة..وجدتنى أتمدد على شِقِّى الأيمن بجوار أمى..رويدًا..رويدًا..راح القبر يزداد ظلمة.. عندما انصرف جميع المشيعين وجدتُ القبر يشع نورًا وضياءً، فور أن ضمتنى أمى إلى حضنها كما تعودنا أن ننام معًا..
فجأة راحت دموعى تنزل فى فرح وهى تتراقص.