مساحة إعلانية
عندما أدرك سيدنا إبراهيم –عليه السلام- زيف هذه الآلهة التي يسجد لها قومه، تطلّع إلى السماء وما بها من جمال وجلال؛ باحثًا عن رب ذلك الكون، أعياه التفكير حتى جاءه الوحي ليعلّمه ما خفي عنه، فامتلك الحجّة والمعجزة والبرهان، لكنه لم يمتلك القوة التي يفرض بها دينه الجديد، ولم يستطع أن يزيح عن قلوب قومه أقفالها، فهجرهم إلى بلاد جديدة وأرض جديدة، ترافقه زوجته سارة التي آمنت به وبدعوته، ومن أرض مصر كانت زوجته الثانية (هاجر) التي هاجرت معه إلى أرض لا زرع فيها ولا ماء، وهناك أذّن في الناس بالحج ليأتوا إلى بيت الله، ومن هناك خرج النور ليعم الدنيا كلها. وفي تاريخ الإنسانية، رجل آخر أدرك ذلك الزيف، وتأمل في السماء وجلالها حتى هداه تفكيره لإله واحد، هو خالق ذلك الكون وموجد نفسه بنفسه، لم يأته الوحي –وربما جاءه- لكنه أدرك بفطرته أن ذلك الإله الخفي لا تدركه الأبصار؛ فاتخذ من قرص الشمس رمزًا له، تخرج منه أيادي ممسكة بالعنخ (مفتاح الحياة) لتهب الحياة لكل الموجودات على الأرض، لم يمتلك المعجزة والبرهان ليزيح عن القلوب أقفالها، لكنه امتلك القوة التي فرض بها دينه الجديد على قومه، وبعدما تولّى حكم مصر سنة (1351 ق.م) تخيّر أرضًا جديدة عذراء، أرضًا لا تمت إلى ديانة ولم تنسب لأي معبود من قبل، وهناك شيد مدينته الجديدة أخيتاتون (أفق آتون) ليخرج منها نور ذلك الدين الجديد إلى الدنيا، استبدل اسمه من (أمنحتب الرابع) إلى (أخناتون) أي روح آتون، وهاجر إليها في صحبة زوجته نفرتيتي (الجميلة أتت) التي آمنت به وبدعوته، وكان يستقل عجلته الحربية كل صباح إلى القصر الأوسط في الشمال، وفي معبد آتون الصغير يمارس الصلاة أثناء شروق الشمس وقبل الغروب. وكان يرى أن (آتون) ليس رب المصريين فقط، بل هو رب كل الناس وكل الشعوب، وهو الذي أعطى كل جنس شكله وطباعه، ويقول في أنشودته أثناء العبادة: "عندما تقلع في عرض السماء يشاهدك كل البشر، أنت خالق الكل وتمنحهم قوتك". لكن تلك التعاليم تعارضت مع الكثيرين من أبناء مصر، كهنة وبنائين وعمال، مزارعين وخبازين وكتبه، فتراجعت أعمالهم وأصابتهم البطالة بعدما أوقف أخناتون بناء المعابد، ومنع تشييد التماثيل للآلهة واقتصرت العبادة على إله واحد، ومنع القرابين وخبز الشعائر، ومنع تداول كتاب الموتى فتعطّل عمل الكهان ومن يتبعهم، واجتاح الجميع غضب مكتوم لم ينتبه إليه ذلك العائش في الصدق، فقد كرس حياته لنشر الدين الجديد وتعاليمه القائمة على العدل والمحبة والحق، ووحدانية وعالمية ذلك الإله خالق الكون، وأهمل شئون البلاد السياسية والاقتصادية، وأهمل جيش بلاده الممتدة من بلاد النوبة حتى بلاد الرافدين، فتداعت عليها الأمم وانفصلت أجزاء من مملكته في أسيا، وضعفت الدولة التي كانت قوية واضطربت، واكتسب أخناتون عداوة الجميع فيها؛ فكانت نهايته الغامضة المثيرة للشك والريبة. عاد الناس من بعده إلى عهدهم القديم، تركوا عبادة آتون وتركوا مدينته (أخيتاتون) وعادوا إلى طيبة، وبالغوا في محو آثاره والتبرؤ من دعوته، ولقبوه بالمارق وبالملك المهرطق، وبموت (أخناتون) انتهت دعوته، فقد كان هو الوسيط الوحيد بين الناس وربهم آتون، لكن بقيت الفكرة يتفردها وتميزها في ذلك الحين، وقد صنفها علماء التاريخ كأول دعوة توحيدية في تاريخ البشرية المكتوب. وبقيت آثار ذلك العهد ولوحاته الفنية التي تنبض بالحرية والواقعية الشديدة، وليس أدل على ذلك من صورة الملك (أخناتون) وأسرته في معبد آتون شرق الكرنك، والتي تظهر عيوبًا وتشوهات عديدة في الجسد، وكذلك في تماثيل تل العمارنة التي تجسد حكمة (أخناتون) التي ترى أن الحقيقة هي مصدر التوازن.إن القارئ في تجربة التوحيد الآتونية، لن يجد فيها مصادفة ملك مارق، أو رجل كان يبحث عن دين جديد يخالف به دين أجداده، لكنه سيجد حكمة وتوحيد وإيمان صادق بإله هو خالق ذلك الكون، سيجد تعاليم وأناشيد تشبه كثيرًا جدًا تعاليم الديانات السماوية الثلاث، وسيجد قول عالم النفس الشهير (سيجموند فرويد) عن تلك التجربة المتفردة، بأن النبي موسى هو الذي نقل أفكار أخناتون إلى شعب إسرائيل عندما خرج بهم من مصر، ويسوق الدلائل على ذلك بتشابه أناشيد أخناتون مع المزمور (104)، ويجد عالم الأثار والمؤرخ الأميركي (جيمس هنري بريستيد) يقول:"إن أخناتون لم يعبد قرص الشمس نفسه، وإنما القدرة التي وراء هذا القرص، ومن ثم كانت دعوته تمثل قمة تطور الفكر الديني، وجاءت قبل أنبياء اليهود". لقد رحل أخناتون وبقيت أناشيده شاهدة على عظمة دعوته والتي تكاد أن ترقى إلى نبوة بغير وحي، وهو القائل مناجيًا ربه:"ما أكثر أعمالك، إنها على الناس خافية، أنت الإله الواحد، الذي ليس معه سواه، وليس له نظير، برأت الدنيا حسب رغبتك، وكنت فردًا، خلقت البشر والأنعام، وكلّ ما يسعى على الأرض بقدم، ويُحلّق في الفضاء بجنا".
