مساحة إعلانية
عُمرسُليمان القَشوطي
وعد ومقسوم، رواية صديقي العزيز الأديب سمير لوبة، وكنت أتصور أنه أمير القصة وحدها، جعلتني أُرشحه وبقوة ليكون أمير الرواية السكندرية.
رواية على صغرها، لكنها استوعبت إسكندرية في 66 سنة من تاريخها الأخير.
لا أدري كيف يُمكن تصنيفها من رواية شخصيات أم تاريخ أم أماكن أم أجيال أم مُهمشين، أم سردية مدح، أم مرثية للزمن الجميل.. فهي كل ذلك وأكثر..
الرواية مكتوبة بحرفية عالية، وإبداعها متفوق في عدة مستويات..
عُمرسُليمان القَشوطي
* مستوى الشخصيات وشُهرتهم:
علام الرشيدي، فكري صابر، زينب والدة فكري، نيقوالس بابا كوستا وشهرته الخواجة أليكو، لمعي المناديلي الشهير بصنارة، صباح زوجة لمعي، الباتعة والدة لمعي، السيد المناديلي والد لمعي، السيد ابن لمعي، حودة كرامة، كامل أفندي المصري وابنه صبري المحامي، الأسطى " فوزية حواجيبو "عالمة من عوالم "بياصة كرموز، الخواجة باروخ مريوني، نعمة عبدالمقصود وأخواها عطية وصلاح، العم محمود، مارسيل موسى شطاح زوجة باروخ، حسان الفرارجي، المعلم الدحليشي صاحب المقهى، الأسطى " فرحات "المزين، الأستاذ شفيق جار لمعي،
حيث قدمهم جميعًا بصفات الشكل والطبع والأصول والتعبيرات والتراث الثقافي والأمثال والألفاظ)21
(تركب التروماي المتجهة الى الوكالة "سوق الجملة " بالحضرة تشتري الخضار من تجار الجملة في الوكالة، وتعود بالتروماي. تضع الباتعة الخضرة على قفص كبير تغطيها بالخيش المبلل وبين حين وآخر تبلل الخيش برشات ماء كي تحفظه طازجا)25
* مستوى المكان:
ثمة هوس حار عجيب ـ منضبط ـ بالأماكن وبالشخصيات قديمة وحديثة، ولا بد للمكان من شخصيات كاريزمية ذات كاركترات تُرافقه.. إن هذا العشق للأرض والمكان رغم ما يدب عليه من أشرار؛ لهو مُلهم، ومُعبر عن معادن البشر عليها وأصالتهم وتمسكهم بتراثهم المكاني والشعبي وثقافتهم الراسخة في أركانها العتيقة.. وهو ما يوجه لنا رسالة نحن الجيل الحديث إلى ما نحياه من تشتت نفسي وجسدي واجتماعي واجتثاث لقطوننا السكني وانقطاع لأصولنا التاريخية الشعبية.
(بحيرة سانت كلير الكبيرة بولاية ميتشغان شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية)ص7
(إلى جوار مقهى السلطان حسين ناصية تقاطع شارع صفية زغلول مع شارع السلطان حسين. منطقة محطة الرمل ذلك الحي العريق، وبناياته العتيقة التي تحمل الكثير من توقيعات مشاهير العمارة الإيطالية والفرنسية، وعبق الإسكندرية الكوزموبوليتانية.)ص11
(مستشفي "كوتسيكا" اليوناني في منطقة" الحضرة ")ص12
(بار "كاب دور " في أحد الأزقة الضيقة المتفرعة من شارع سعد زغلول في المنشية.)ص13
(معامل تجهيز البسطرمة والسجق البقالي في منطقة "كوم الناضورة "عند الخواجة "أرتيني" األرمني)ص14
(وفي شارع الجمرك القديم عمل في فابريقة "نوفل الحندويل " للحلويات والبسكويت)ص14
(فرقة موسيقى" حسب الله "في بياصة كرموز)ص14
(قهوة أنح في الأنفوشي)ص27
(تركب التروماي المتجهة الى الوكالة " سوق الجملة "بالحضرة تشتري الخضار من تجار الجملة في الوكالة، وتعود بالتروماي. تضع الباتعة الخضرة على قفص كبير تغطيها بالخيش المبلل وبين حين وآخر تبلل الخيش برشات ماء كي تحفظه طازجا،)ص25
(يتخذ سائق الليموزين شارع فؤاد يمينا ثم يدلف إلى شارع صالح سالم وفي نهايته يدخل يمينا إلى شارع البورصة القديمة وفي منتصف الشارع على اليمين يتوقف أمام أوتيل)ص26
(يذهب إلى المكتبة الحجازية في زاوية الأعرج بحي بحري)ص27
(وفي أحد أزقة باب الكراستة قرب شارع السبع بنات في بيت قديم مثبت فوق حائط المنزل فانوس ميري يأتي "المشعلجي " رجل طويل القامة نحيفا. يحمل عصاه الطويلة فوق كتفه. أعلى العصا مخطاف نحاسي صغير. يرفعها ليفتح بها باب الفانوس، ثم يرفع يد صمام أسفل فوهة شعلة الفانوس بالمخطاف؛ فيندفع الغاز خلال مواسير مدفونة تحت الأرض تأتي من مولدات شركة "ليبون "للكهرباء بكرموز؛ فتشتعل الشعلة تبدأ خافتة ثم ما تلبث أن تتوهج ليعم النور؛ فيعلو تهليل الصغار الذين يواصلون لعب الكرة الشراب في ليالي الصيف الصاخبة على ضوء الفانوس .)ص31
(قرية شيشت الأنعام مركز إيتاي البارود مديرية البحيرة.)ص32
(مستشفي الصدر بكوم الشقافة)ص47
(كازينو "الأجلون" )ص50
(مقام سيدي العدوي)ص51
(- انتقلت للبيت الجديد في العطارين، وفتحت دكانا لبيع الطيور هي وأخواها عطية وصالح و صارت معروفة بين الناس باسم نعمة مريوني؛ لأن سكان الحي يعرفون البيت باسم بيت مريوني)ص51
(ميدان المنشية يشتري الجريدة كما كان يفعل في الماضي، ومن شارع صالح سالم تأخذه أقدامه إلى حي العطارين، وفي شارع صالح الدين)ص52
(مقهى على ناصية تقاطع شارع صفية زغلول مع شارع السلطان حسين بمحطة الرمل)ص80
(كافيتريا "والي "على البحر في كامب شيزار)ص83
* المستوى السياسي:
كل حين يضع خلفية سياسية، مرتبطة بالواقع الاجتماعي في زمن الرواية، المرتبط بالحقبة الجمهورية ما بعد الملكية مباشرة، وهذا منحنا معايشة للواقع السياسي المؤثر حتمًا على الواقع الاجتماعي والنفسي والمكاني حتى في الرواية.
(إليكم بيان مجلس قيادة الثورة الصادر بتاريخ اليوم ٨ من شوال / ١٩ من يونيه ١٩٥٣ م)ص20
(حتى جاء شيخ الحارة لاستدعاء "مرسي "للخدمة العسكرية، ومنذ ذلك اليوم لم يعد مرسي من حرب فلسطين)ص25
(- الجمعة ٤ أبريل ٢٠٠٣ كان يوما لا ننساه. بعد أن شاهد على شاشة
التليفزيون سقوط بغداد، واقتحام الجيش الأمريكي لها؛ بات ليلة الخميس
حزينًا جدًا، وفي الصباح دخلت عليه لنصلي معًا الجمعة في جامع المرسي أبي العباس؛ فقد تأخر على موعد استيقاظه؛ فكان أمر الله. صلينا عليه العصر في جامع العمري، ودفن في مقابر العامود.)ص40
(إليكم أيها المواطنون البيان رقم 7 الصادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية سنة السادس من أكتوبر بتاريخ 1973)ص74
(تصدر جريدة الأهرام صباح اليوم التالي، وفي صدر الجريدة: زلزال مدمر يهز مصر 60 ثانية عصر أمس. مبارك قطع زيارته للصين فور علمه بنبأ الزلزال ويعود إلى القاهرة اليوم. مصرع ٣٦٨ مواطنا بجميع المحافظات وإصابة ٢٥٠٠ وانهيار وتصدع ١٨٢ منزل. الرئيس يأمر بسرعة صرف الإعانات لأسر الضحايا والمصابين ويتابع الموقف أوال بأول؛ ١١٠٠ شقة لإيواء المتضررين وإعانات مالية للضحايا. التأكيد على سالمة كافة مرافق الخدمات والمنشآت الأساسية . رئيس الوزراء عاطف صدقي يرأس لجنة تضم عشرة وزراء لمتابعة الموقف .)ص84
ـ تبدأ الأحداث ولحظة العُقدة من منتصف الرواية بالتحديد، فالنصف الأول من الرواية يحتوي على التعريف بالشخصيات والأماكن التي ستدور بهم الأحداث وفيها، بشكل سلس أثناء المعاملات وترابط العلاقات وعرض الأوضاع الخاصة بكل منهم.
* مستوى اللغة:
لغة بليغة وشاعرية بتلك الدرجة كفيلة أن تكون أفضل معبر وحامل لمهمة الكتابة عن المعشوقة..
. (وحيدًا يسير في غربة الأبجديات، تلقي الأشجار بالأوراق تتلقفها الأرض في حضنها.)ص7
. (تأتيه ذكريات الماضي تتهادى؛ يهرع في أثرها؛ فهو الآن لا يملك سوى أن يستسلم لسحرها، يسير كالمجذوب وراء صوت الماضي أو ألي عطر قديم، تظمأ روحه ولا يرويها سوى من واحة الذكريات)ص8
. (يلملم النهار الخريفي عباءته يتعجل الغروب)ص8
. (والليل يركض ركض الخيول، وأنين الصمت يتوارى خلف أستاره. تبلل دموع الغيم الطرقات)ص8
. (يشرب كأس الشوق فال يطفئ جذوة الحنين. يسمع لحنه يشدوه نغما يراقصه طيف الذكريات)ص8
. (مع مرور سنين الغربة المتثاقلة يبدو الأمل مرادفا للمستحيل حينها ندرك الحقيقة التي يتحتم علينا أن نحياها رغم ما نعانيه من ثقل التظاهر بالرضا. نعيش بالأمل يستنزفنا الألم؛ فالغربة ليست في فقد الوطن فقط. الغربة في فقد الأحباب والرفاق؛ فيتحتم علينا أن نؤدي دورنا الأخير على مسرح الواقع برفقة الألم - ألم الفراق والغربة - .)ص10
. (عدت من الغربة لأجد الذكريات تبللها دموع الفقد، وجدت الوطن ولم أجد الرفاق. تجتاحه رياح الشجون؛ تزج نافذة الذكريات تفتحها فيزيح الستار ليطل علی ذكريات استحالت لاصفرار في كتاب الحياة. يقلب أوراقه في صمت؛ يشم عطر الماضي بين ثنايا صفحاته)ص11
. (على شفتيها الورد مروي بأنداء الصباح)ص11
. (يتجنب الشوارع الرئيسة بأضوائها المبهرة التي تتطلب ارتداءه قناع الابتسام الذي يرتسم عليه عكس حقيقة مشاعره الحزينة.)13
ـ هذا الحب الجارف هو ما جعل الكاتب يكتب بهذه الروح العاشقة عن تفاصيل المكان وأشكال وأوصاف البشر والزمن المتميز الذي حمل أخلاقهم وطيبتهم ومحبتهم إلى الذاكرة عبر السنين، فاستطاع تسخير لغته البليغة في إقناع القارئ بهذا التعلق الذائب في أرجاءها وأرواحها بتلك اللغة الشاعرية البديعة المُغرقة في التشبيهات والصور الماتعة.
(يقضي عالم ليلته مضطرم الأشواق للإسكندرية التي ما أن اشتم هواءها حتى ارتاحت روحه واطمأنت نفسه ودبت في جسده طاقة الشباب؛ فوجد أنه ليس في حاجة إلى العكاز؛ فهو يستطيع الآن المشي بدونه. في الصباح الباكر يستيقظ عالم من نومه؛ يخرج للكورنيش بدون عكازه. يحمله الحنين الجارف لبحر الإسكندرية وشوارعها؛ ينتابه شعور قوي بالرغبة في الطيران فوق المدينة التي عاش فيها معظم عمره؛ فهو يهيم شوقا في حب مدينته؛ يضيء وجهه بالفرحة والسعادة . كل ذرة في كيانه تشتاق لشوارع الإسكندرية. كل نبضة في قلبه تصرخ بذكريات متضاربة. يود أن يجرى في شوارعها ولو حافيا كي ترتوي روحه الظمأى من حضنها الدافئ . يتوق للعودة لبيته القديم في بحري يشتعل حماسة لفتح مكتبته ؛ وبيع الكتب. يصل إلى الكورنيش، وأمام البحر يقف عالم على شاطئ ذكرياته. تعانق عيناه الأمواج ترتمي روحه في أحضانها. السحب الداكنة ترعى في السماء تحتضن الطقس في عناق شتوي دافئ . فتهرع الروح لتطرق أبواب الذكريات؛ فترخي ذراعيها وتفتحها عن أخرها لتحتضنها؛ ينساب من بين شفتيه نداء لمن رحلوا . لقد دارت الأيام بالطائر المهاجر، ولحق بجناحيه عطب الشيخوخة؛ فصار التحليق حلما صعبا؛ هكذا هي الأيام تتبدل من حال إلى حال.)
* المستوى الاجتماعي:
وإظهار كل العلاقات بين أولاد البلد وترابطهم وتكافلهم ومحبتهم في الزمن الجميل الذي نفتقده في حاضرنا المتأزم اجتماعيًا.
* مستوى الأغاني:
وقد ساقه في عدة مواضع، ليجعله خلفية صوتية تراثية لأحداث الرواية في ذاك الزمن القديم.. وقد أبدع في اختيار أغانيه للغاية فجعلنا نعيشها بأجوائها الأصيلة.
مونولوج إسماعيل ياسين (كلنا عاوزين السعادة).. (الحنة. الحنة يا قطر الندى) (واحشني وأنت قصاد عيني) أم كلثوم (يا دنيا سامعاني) ابن الإسماعيلية مطرب السمسمية عبده العثمالي. (القسمة والمقدر ودوني في سكتك) بدرية السيد. (على شط بحر الهوى) كارم محمود. (وآه يا ليلي آه.. ع الوعد والمقسوم) أم كلثوم.
* مستوى الحوار:
يظل الكاتب يقدم الشخصية تلو الشخصية بتراثها المكاني والشكلي والمهني والعقدي بينما السرد مشرع والحوار دائر. وله طبيعة يختص بها الكاتب أنه يدمج الفصحى بالعامية أو أحيانًا فُصحى خالصة، وأخرى بعامية خالصة.
* مستوى الألفاظ اليونانية:
حيث يكتبها على لسان الشخصيات اليونانية كما تُنطق بالعربية وبجوارها المعنى باللغة العربية: [كيرتي (أهلًا)] [ساس باركا لومي (من فضلك)] [كابيو ساس (مع السلامة)] [كالوبويما (مساء الخير)]
الوعد والمقسوم رواية سكندرية مهمة، وعمل إبداعي مصري عربي مُتكامل، لا يُمكن أن تُوفيه قراءتي شيئًا أمام ما تستحقه فِعليًا من أبحاث ودراسات عديدة. وكاتبها الأديب الكبير سمير لوبة كاتب من طراز خاص إذ يُوثق الذاكرة السكندرية برشاقة منقطعة النظير، ربما على درب أستاذه الأديب البارع إبراهيم عبدالمجيد.