مساحة إعلانية
سمير لوبا - قاص وأديب
على شاطيءِ البحرِ الرملي وقد غاب القمرُ ، فاستحال كلُ شيءٍ في المكانِ إلى أسودٍ قاتمٍ ، لا أثرَ للحياةِ إلَّا من صوتِ أمواجِ البحرِ المتلاطمةِ ، رياحٌ هوجاءٌ بلا قيدٍ ، شاطئٌ نديٌ ، لمحته قادماً بخطواتٍ متثاقلةٍ ، يتوكأُ على عصاتِه ، ينظرُ لموضعِ قدميه كمن يبحثُ عن شيءٍ مفقودٍ ، امتصتني الدقائقُ وأنا أرقبُه بناظري ، فما إن انشغلت بإشعالِ سيجارتي حتى وجدته جالساً على كرسي ، وقد اسند راحتيه على عصاتِه ووجهُه للبحرِ ، أسئلةٌ تتصارعُ في رأسي ؛ للفوزِ بإجابةٍ ، من يكونُ الرجلُ ؟ ! وما الذي يغري مُسِناً في مثلِ عمرِه كما يبدو لي بالجلوسِ على شاطيءِ البحرِ في مثلِ ذلك الجوِ الشديدٍ البرودةِ ؟ ! يدفعُني الفضولُ أن أجد إجابةً ترضي فضولي لأمرِ هذا المُسِن ، مرَّ الوقتُ ، وفضولي يغريني أن أجالسَه وأبادلَه الحديثَ ، فالليلةُ لم يطاوعْني قلمي أن أكتبَ ، فتوجهت إليه متباطئَ الخطواتِ مقترباً منه لأجذبَ انتباهِه فبادرتُه قائلاً :
- مساءُ الخيرِ
- مساءُ النورِ
- البحرُ رائعٌ الليلةَ رُغم برودةِ الجوِ
- فعلاً
- هذه الأجواءُ دائماً تجذبُني
- هي فعلاً أجواءٌ جميلةٌ
- الإسكندريةُ دائماً رائعةٌ في الشتاءِ
- هل تسكنُ قريباً من هنا ؟
- نعمْ
- أكيدٌ تحرصُ علي الجلوسِ يومياً على البحرِ
- ليس دائمًا
- وما الذي دفعك للجلوسِ على البحرِ في هذا الجوِ
- لا شيءٍ .. مجردُ قتلٍ للوقتِ
- ولكن جلوسَك مع أولادِك ربما يكونُ أفضلَ خاصةً والبردُ شديدٌ الليلةَ
- أنا أعيشُ بمفردي ، والوحدةُ أشدُ برودةً
- أليس لديك أسرةٌ ؟
- لي ولد وحيدٌ
- أين هو ؟
- يدرسُ الهندسةَ في ألمانيا .. بالأمسِ وصلتني رسالةٌ منه بأنَّه قادمٌ على سفينةٍ ، تصلُ ميناءَ الإسكندريةِ فجراً ، فلم أتحملْ الانتظارَ كم أشتاقُ إليه ، ليس لدي غيرُه في الدنيا بعدَ وفاةِ زوجتي منذ سنواتٍ ، لذلك جئت لأقتلَ بشاعةَ الانتظارِ بالتلهي بمنظرِ البحرِ ؛ حتى يأتيَ موعدُ وصولِه ، كم اشتقت إليه فهو كلُ ما تبقى لي في الدنيا .
- حفظه اللهُ لك وأسعد حياتَك به
- شكراً لك يا ولدي .. أستأذنُك
- إلى أين ؟ ما زال الوقتُ مبكراً على الفجرِ .
- سأبحثُ عن الرسالةِ ؛ فقد وضعتها في محفظتي ، وأظنُها سقطت مني ، وأنا جالسٌ عند الصخورِ هناك
- ولكن الوقتَ متأخرٌ، والظلامُ دامسٌ كيف ستجدها ؟!
- سأحاولُ
- انتظر كي أذهب معك ؛ فالظلامُ شديدٌ
- أكون شاكراً فضلَك
- لا عليك .. حضرتك في مقامِ والدي
وسرت معه ، وقد اسند ذراعَه إلى ذراعي ،نتحسسُ طريقنا على الرمالِ الباردةِ ، يحيطُ بنا الظلامُ ، حتى وصلنا إلى الصخورُ ، فأشار لي على مكانِ جلوسِه ، فأخذت أتلمسُ طريقي وسطَ الظلامِ المعتمِ بصعوبةٍ ؛ أتحسسُ بكفي الصخورَ ، ولقد وجدتها ففرحت لذلك ، واستدرت لأجدَ المُسِنَ خلفي مباشرةً ، فيقبضُ على المحفظةِ بلهفةٍ ، ثم يستندُ على عصاتِه بيدٍ ، ويستندُ باليدِ الأخرى على ذراعي ، ونخرجُ من بينَ الصخورِ ، ونسيرُ على رمالِ الشاطئِ ، وقد زالت السحبُ ، فسمحت لضوءِ القمرِ أن يضئَ المكانَ بما يسمحُ لنا بالسيرِ الوئيدِ . المُسِنُ منشغلٌ في إخراجِ الرسالةِ من محفظتِه ليفتحَها ؛ يبادرني قائلاً :
- ها هي الرسالةُ .. هلَّا قرأتها للتأكدِ من موعدِ وصولَ السفينةِ .
- أمسكتُ بالرسالةِ أدققُ فيها ؛ لأتمكنَ من رؤيتِها على ضوءِ القمرِ ، فإذا بكلمات الرسالةِ تصعقُني صعقاً
- " نأسفُ أن نخبرَكم أنَّ السفينةَ القادمةَ من ألمانيا قد غرقت جراءَ القصفِ .. الإسكندرية في 19 يناير 1943 "
- ما هذا ؟! 1943 كيف ؟!
استدرت للرجلِ المُسِنِ ، فإذا بعينيه جاحظتين وقد كساها بياضٌ ، ويبدو مثل جثةٍ غارقةٍ ، يمدُّ يديه نحوي محاولاً أن يمسكَ بي ؛ فتجمدت مكاني ، وقد عقدت المفاجأةُ لساني ، وضاع صوتي ، وكأنَّ شيئاً يقبضُ على قدمي ؛ لا أستطيعُ الحركةَ ، فإذا به يغوصُ في الماءِ ، وكأنَّ يداً خفيةً جذبته ، فجأةً اختفى .
• من مجموعة " كواليس " الصادرة عن ديوان العرب للنشر والتوزيع