مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

رسالة البحر - قصة قصيرة

2023-07-17 23:42:20 - 
رسالة البحر - قصة قصيرة
سمير لوبا -قاص واديب مصري
منبر

سمير لوبا - قاص وأديب
على شاطيءِ البحرِ الرملي وقد غاب القمرُ ، فاستحال كلُ شيءٍ في المكانِ إلى أسودٍ قاتمٍ ،  لا أثرَ للحياةِ إلَّا من صوتِ أمواجِ البحرِ المتلاطمةِ ، رياحٌ هوجاءٌ بلا قيدٍ ، شاطئٌ نديٌ  ، لمحته قادماً بخطواتٍ متثاقلةٍ ، يتوكأُ على عصاتِه ، ينظرُ لموضعِ قدميه كمن يبحثُ عن شيءٍ مفقودٍ ، امتصتني الدقائقُ وأنا أرقبُه بناظري ، فما إن انشغلت بإشعالِ سيجارتي حتى وجدته جالساً على كرسي ، وقد اسند راحتيه على عصاتِه ووجهُه للبحرِ ،  أسئلةٌ تتصارعُ في رأسي ؛ للفوزِ بإجابةٍ ، من يكونُ الرجلُ  ؟ ! وما الذي يغري مُسِناً في مثلِ عمرِه كما يبدو لي بالجلوسِ على شاطيءِ البحرِ في مثلِ ذلك الجوِ الشديدٍ البرودةِ ؟ ! يدفعُني الفضولُ أن أجد إجابةً ترضي فضولي  لأمرِ هذا المُسِن ،  مرَّ الوقتُ ، وفضولي يغريني أن أجالسَه وأبادلَه الحديثَ ، فالليلةُ لم يطاوعْني قلمي أن أكتبَ ، فتوجهت إليه متباطئَ الخطواتِ مقترباً منه لأجذبَ انتباهِه  فبادرتُه قائلاً : 
- مساءُ الخيرِ
- مساءُ النورِ 
- البحرُ رائعٌ الليلةَ رُغم برودةِ الجوِ 
- فعلاً 
- هذه الأجواءُ دائماً تجذبُني 
- هي فعلاً أجواءٌ جميلةٌ 
- الإسكندريةُ دائماً رائعةٌ في الشتاءِ 
- هل تسكنُ قريباً من هنا ؟ 
- نعمْ 
- أكيدٌ تحرصُ علي الجلوسِ يومياً على البحرِ 
- ليس دائمًا 
- وما الذي دفعك للجلوسِ على البحرِ في هذا الجوِ
- لا شيءٍ ..  مجردُ قتلٍ للوقتِ 
- ولكن جلوسَك مع أولادِك ربما يكونُ أفضلَ خاصةً والبردُ شديدٌ الليلةَ 
- أنا أعيشُ بمفردي ، والوحدةُ أشدُ برودةً  
- أليس لديك أسرةٌ ؟ 
- لي ولد وحيدٌ 
- أين هو ؟ 
- يدرسُ الهندسةَ في ألمانيا .. بالأمسِ وصلتني رسالةٌ  منه بأنَّه قادمٌ على سفينةٍ ، تصلُ ميناءَ الإسكندريةِ  فجراً ، فلم أتحملْ الانتظارَ كم أشتاقُ إليه ،  ليس لدي غيرُه في الدنيا بعدَ وفاةِ زوجتي منذ سنواتٍ ، لذلك جئت لأقتلَ بشاعةَ الانتظارِ بالتلهي بمنظرِ البحرِ ؛ حتى يأتيَ موعدُ وصولِه ، كم اشتقت إليه فهو كلُ ما تبقى لي في الدنيا  . 
- حفظه اللهُ لك وأسعد حياتَك به 
- شكراً لك يا ولدي .. أستأذنُك 
- إلى أين ؟ ما زال الوقتُ مبكراً على الفجرِ . 
- سأبحثُ عن الرسالةِ ؛ فقد وضعتها في محفظتي ، وأظنُها سقطت مني ، وأنا جالسٌ عند الصخورِ هناك  
- ولكن الوقتَ متأخرٌ، والظلامُ دامسٌ كيف ستجدها ؟! 
- سأحاولُ 
- انتظر كي أذهب معك  ؛ فالظلامُ شديدٌ 
- أكون شاكراً فضلَك 
- لا عليك ..  حضرتك في مقامِ والدي 
وسرت معه ، وقد اسند ذراعَه إلى ذراعي  ،نتحسسُ طريقنا على الرمالِ الباردةِ ، يحيطُ بنا الظلامُ ، حتى وصلنا إلى الصخورُ ، فأشار لي على مكانِ جلوسِه ، فأخذت أتلمسُ طريقي وسطَ الظلامِ المعتمِ بصعوبةٍ ؛ أتحسسُ بكفي الصخورَ ، ولقد وجدتها ففرحت لذلك ، واستدرت لأجدَ المُسِنَ خلفي مباشرةً ، فيقبضُ على المحفظةِ بلهفةٍ ، ثم يستندُ على عصاتِه بيدٍ ، ويستندُ باليدِ الأخرى على ذراعي ، ونخرجُ من بينَ الصخورِ ، ونسيرُ على رمالِ الشاطئِ ، وقد زالت السحبُ ، فسمحت لضوءِ القمرِ أن يضئَ المكانَ بما يسمحُ لنا بالسيرِ الوئيدِ . المُسِنُ منشغلٌ في إخراجِ الرسالةِ من محفظتِه ليفتحَها ؛ يبادرني قائلاً : 
- ها هي الرسالةُ ..  هلَّا قرأتها للتأكدِ من موعدِ وصولَ السفينةِ .
- أمسكتُ بالرسالةِ أدققُ فيها ؛ لأتمكنَ من رؤيتِها على ضوءِ القمرِ ، فإذا بكلمات الرسالةِ تصعقُني صعقاً 
- "  نأسفُ أن نخبرَكم أنَّ السفينةَ القادمةَ من ألمانيا قد غرقت جراءَ القصفِ  .. الإسكندرية  في 19 يناير 1943 " 
- ما هذا ؟! 1943 كيف ؟! 
استدرت للرجلِ المُسِنِ ،  فإذا بعينيه جاحظتين وقد كساها بياضٌ ، ويبدو مثل جثةٍ غارقةٍ ، يمدُّ يديه نحوي محاولاً أن يمسكَ بي  ؛ فتجمدت مكاني ، وقد عقدت المفاجأةُ لساني ، وضاع صوتي ، وكأنَّ شيئاً يقبضُ على قدمي ؛  لا أستطيعُ الحركةَ ،  فإذا به يغوصُ في الماءِ ، وكأنَّ يداً خفيةً جذبته ، فجأةً  اختفى  .
• من مجموعة " كواليس " الصادرة عن ديوان العرب للنشر والتوزيع 

مساحة إعلانية