مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

سيد الطيب يكتب :المبدع ابن البيئة

2023-09-05 02:03:23 - 
سيد الطيب يكتب :المبدع ابن البيئة
سيد الطيب رئيس نادى الادب المركزى بالغر دقة
منبر

المبدعُ طائرٌ يحلق في جنبات الأرض، ولا يطمئن إلا لبنى الابداع ومحبيهم، ويمنحهم ضحكاته وأمنياته ومنجزه، والابداع يفتح لنا ميادين التعارف في الترحال بين المبدعين بالأسئلة الأولية وما يتبعها من دوائر أسئلة التعارف؛ يأتي السؤال الأول المباشر للمبدع عن اسمه ونوع الإبداع الذي يكتبه، ثم يُطلب منه بعض النماذج  من مؤلفاته، ليأتي السؤال الأهم عن مكان نشأته ومقامه هذا إذا لم  تتوفر عناصر التخمين وفك الرموز فيما ألقاه المبدع من شعر أو نثر، ولكن في غالب التوقيت يفصح ابداع المبدع عن المكان الذي جاء منه؛ هذا لأن   الطائر المحلق لا يبدع من فراغ بل يستمد مكونات ابداعه من بيئته التي نشأ فيها أو استقر بها فترة زمنية أثرت فيه.
 إذا عدنا للكتاب المعجز الذي لم تشبه شؤائب التحريف( القرآن الكريم) سنجد أن الإعجاز الذي جاء به خاتم الرسل محمد صل الله عليه وسلم كان فى دليل عبر عن  البيئة التي نشأ فيها النبي صل الله عليه وسلم؛ وهذا من دلائل الخصوصية والتفرد والدعوة إلي الارتكاز على البيئة والمجتمع الذي يعبر أهل الابداع عن همومه.
      المبدع كما تعلمون كائن مختلف مهموم يعبر عن همومه بما يكتبه أو يرسمه، فكيف لك أن تعبر عن همومك في المجتمع الذي نشأت فيه بلغه لا تعبر عنك وعن إرث البيئة في تكوينك؛ حتى قصيدتك التي تنشدها لمحبوبتك كيف تأتي كلماتها وصورها الشعرية من معين مجهول لا تفهمه.  الأمثلة كثيرة والنماذج متنوعه وآثارالابداع العربي بها العديد والعديد؛ هذا قيس بن الملوح (مجنون ليلى )  ابن البادية قال في قصيدته الشهيرة (المؤنسة):
تَعَلَّقتُ لَيلى وَهيَ غِرٌّ صَغيرَةٌ
وَلَم يَبدُ لِلأَترابِ مِن ثَديِها حَجمُ
صَغيرَينِ نَرعى البَهمَ يا لَيتَ أَنَّنا
إِلى اليَومِ لَم نَكبَر وَلَم تَكبَرِ البَهمُ
وهذا ابن زيدون الوزير ابن الحضر وحياه القصور وحضارة الأندلس يقول في نونيته التي كتبها لولادة بنت المستكفي:
لا تحسبوا نأيكم عنَّا يُغيرنا 
إذْ طالما غيَّر النأيُ المحبِّينا
يا ساري البرق غاد القصر واسق به 
من كان صرف الهوى والود يسقينا

وإذا تتبعنا قصيدة ( يا من حوى)  التي غنتها فيروز واختلف المورخون في من كتبها ، سنجد أن هناك العديد من المصادر التي تشير إلي أن صاحب القصيدة فتنته جارية كانت تتهادى بين الشجر، فَهَمَّ بمغازلتها ، فهددته بخنجرها ، فأمسك بيدها قائلًا:

يا مَنْ حوى ورد الرياض بخده
 و حكى قضيب الخيزران بقده
دع عنك ذا السيف الذي جردته
عيناك أمضى من مضارب حده
كلُّ السيوف قواطع إن جردت
وحسام لحظك قاتل في غمده
إن رُمْتَ تقتلني فأنت مُخيَّرٌ
 من ذا يُعارض سيِّدًا في عبده

    المتتبع للنماذج العربية يجد فيها أعجايب الصور التي أتت من البادية وقلب النجوع والقري والريف والحضر؛ فالمبدع الذكي هو الذي يحمل  بيئته على كتفه ويمضي بها حيثما طاف وحيثما استقر، هذا ما تجده على مر العصور فى أسماء أخذت شهرتها من التعبير عن بيئتها، ودفعت من يقرأ لها أو يستمع إليها لأن يسأل عن كلمات أو صور لم يعرفها لأنها وليدة بئيات معينة،  والدارس لصنوف الادب يجد أن الابداع أخرج من البيئة أنواعًا متنوعه من الابداع الأدبي مثل: الموشحات فى الاندلس، شعر العامية ، شعر النميم، الشعر النبطي، والمربعات. 

التاريخ العربي حافل بالقصص ولعل ما ذكره بعض المؤرخون في قصة المبدع الفذ على بن الجهم يفي بالغرض، علي بن الجهم، هو أحد أبرز الشعراء في عصره، حيث تميز بفصاحة لسان وقدرة على التعبير، ولد عام 188هـ في بغداد حيث تأتي أسرته في الأصل من قريش. نشأ على بن الجهم فتشبع من مشاهدها وشرب من دوائرها، حتى ذهب مع وفد من البادية إلي الخليفة المتوكل في بغداد ليمدحه:
 أنت كالكلب في حفاظك للود      وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا        من كبار الدلا كثير الذنوب
أثارت أبيات ابن الجهم حفيظة الجالسين مع الخليفة، حيث نعته فيها بالكلب في حفظ الود وبالتيس في مواجهة المخاطر وبالدلو المستخدم لنقل الماء، فَهمَّ أحد الجلساء الأمير بتأديبه ، ولكن الخليفة أدرك الأمر بفطنته ؛ فالشاعر استوحى محصوله و مخزونه اللفظي مما رآه ، ولم تسعفه الذاكرة بأكثر مما عاشه بين جنبات بيئته. 
قرب المتوكل على بن الجهم وأمرهم بان يمنحوه قصرًا على ضفاف نهر دجلة على أن يأتوا به بعده أسابيع ليمدحه بقصيده جديدة. استمتع على بن الجهم بهذه البيئة الفريدة والحياة المترفه وكتب القصيدة التي سيلقيها أمام المتوكل الذي جمع لهذا الموقف نفس الأشخاص الذين استمعوا لقصيدة على بن الجهم الأولى، وقال لعلي بن الجهم أنشدنا شعرا، فقال علي بن الجهم قصيدة تعتبر عن أروع ما قاله، حتى قال عنها الشعراء، لو لم يكن لديه إلا هي لكانت تكفيه أن يكون أشعر الناس. فقال على بن الجهم:
عُيونُ المَها بين الرُصافةِ والجسْرِ
جَلَبْنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
أعَدْنَ لي الشوقَ القديمَ ولم أكُنْ
سَلَوْتُ، ولكن زِدْتُ جمرا على جمر
ولكنّه أوْدَى الشبابُ، وإنما
تُصادُ المَها بين الشبيبة والوفر
وبتْنا، على رُغم الوُشاة، كأننا
خليطان من ماء الغَمامة والخمر
خليليّ، ما أحلى الهوى وأمرَّه
وأعلمَني بالحُلو فيه وبالمُرّ!
بما بينَنا من حُرمةِ! هل رأيتُما
أرقَّ من الشكوى وأقسى من الهَجر؟
دهش الحاضرون وسكت الخليفة المتوكل  بعد قصيدة على بن الجهم. فقال له الحاضرون : ما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: "إني اخشى عليه أن يذوب رقة"
دمتم في ابداع

مساحة إعلانية