مساحة إعلانية
طفل صغير لا يتخطى التاسعة من عمره يطوي أرض المنتجع السياحي تحت قدميه المتسختين ، بثيابه الرثة الرخيصة، يحمل قطعة خشب رفيعة يقبض عليها بيده بإصرار شديد تتدلى منها سلاسل, وأقراط وخواتم فالصو كفاترينة عرض بضائع، من أجل بيعها والارتزاق منها ، لتتزيا بها صغار أسر المصطافين الأثرياء، أما ذراعه الأخرى فيستخدمها في البيع وقبض الثمن ؛وعرض بضاعته على زبائنه التي تدفعهم الرغبة و الشفقة ،؛أكثر منه حاجتهم لبضاعته، يشعرون بعدها بسعادة لما قدموه للصبي و لأنفسهم .
الطفل يبدو سعيدا أو مندهشا أكثر من أطفال الأسر الثرية ، من المنطق أن يكون العكس صحيحاً ، قد يكون ذلك بسبب اكتشافه دنيا جديدة, و عالما ساحرا، لم يداعب خياله الخصب قبل ذلك ، هذ الدنيا العجيبة المدهشة التي تطأها قدماه الآن حقيقة وواقعا ،لا تشبه من قريب أو بعيد ما شاهده في منطقته العشوائية التي أتي منها صدفة على سبيل المغامرة إلى هذه الجنة الأرضية، نعم الصدفة وحدها هي المسئولة عن وجوده هنا الآن في هذه المنطقة الساحرة المترفة ، يبدو التفاوت الطبقي واضحاً جلياً يعلن عن نفسه بصورة فجة فصورة الفتى بائع السلاسل؛ عندما يكون بجوار فتي من الطبقة المترفة فكل منهما تجسيد حي لطبقته؛.
تغني هذه الصورة والمقارنة عن قراءة ألف كتاب ، أو بحث أو دراسة :عن هذه الظاهرة, ومئات المحاضرات والدروس النظرية في علم الاجتماع، تخبر عن كل ذلك نظرات الصبي ؛غض الروح بريء النفس ، الذي يحملق في كل ما حوله؛ مأخوذا مسحورا نظرة: الجائع حياة ، يريد ممارسة طقوس هذا العالم الأسطوري يحاول التهام صورة يثبتها فى عقله لتسكن ، لتستقر بعدها؛ في مكان مكنون بداخل قصر مسحور في منطقة مقدسة بداخل ذاكرة غير قابلة للمحو أو النسيان ، عله يخبر بها اصدقائه أو يستعيدها ليحارب بها القبح الذي يحاصره بعد ما شاهد كل هذا الجمال و العيش بداخل هذه الصور مرة أخرى .
الصبي لا يكف عن التجول والبيع والاستمتاع عقله الصغير ليس بقادر على فك هذه الألغاز وليس لديه تفسيرا لكل ما يشاهد، هو في مرحلة النهم، أما عندما تسمرت قدماه أمام ساحة كبيرة تشبه مدينة ملاه صغيرة يشاهد سيارات فارهة ينزل منها: اطفال تستمتع بهذه الألعاب يضحكون و يمرحون ثم يذهبون ويأتي غيرهم ،كان الصبي يحملق هذه المرة في ملابس هذه الاطفال ويقارن بها اسماله الممزقة إلا قليلا التي تستر جسده بالكاد ،تمنى أن يحلق مثلهم ويستمتع بهذه الألعاب، أليس هو أيضاً طفل غض صغير؟ كانت هذه أول مرة يطرح فيها هذا السؤال على نفسه, التي تخلت عن جزء من براءتها.
هناك رجل مهيب ملامحه تخبر أنه تخطى الستين عاما، يبدو من هيئته أنه ذو حيثية اجتماعية وثراء ، يرتدي نظارة يشاهد العاب الملاهي، كل يوم كان يغيب أثناء المشاهدة وكأنه يشاركهم الصغار اللعب ، وكأنه في عالم آخر، نظرته تقول إنه يتمنى الانغماس في هذا العالم، ولكنه يكتفي بالمشاهدة ، وقبل أن ينصرف يخرج الموبايل يلتقط لنفسه؛ صورة تكون مدينة الملاهي الصغيرة خلفيتها، وهو يفعل ذلك في المرة الأخيرة كان: صبي السلاسل يظهر بوضوح فى خلفية الموبايل ألتفت الرجل, و أقترب منه حقيقة فهناك شيء أو رغبة خفية تجمعهما سويا، وتلاقت النظرات، فدخلا على عجل لمدينة الملاهي اجلس الرجل الصبي على واحدة تلو الأخرى من تلك الألعاب, لم يتردد الصبي ووافق على الفور ،وبدأ في اللعب ، وهو يغمض عينيه نشوة من شدة السعادة وهو يحلق عالياً.
أما عندما صعد للعبة الساقية المرتفعة نسبياً عن بقية الألعاب الأخرى، أخبر الصبي الرجل أنه خائف صعودها بمفرده ، فهرول الرجل إليه، وكأنه ينتظر هذه الفرصة ليشاركه اللعب والاستمتاع، دون شعور منه في أول الأمر ،فقد تقاسما سعادة ونشوة حتى اصبحا في عالم آخر. قال صبي السلاسل لأصدقائه بعد عودته: أن الرجل الكبير الذي ركب مع لعبة الساقية: أطلعه على دخيلة نفسه وأخبره بسر دفين عن حياته كان يحتفظ به في مكان مغلق ويقبع فى منطقة مهجورة من ذاكرته بأنها المرة الأولى التي يبيح فيها بهذا السر لشخص آخر، بأنه كان يتمنى أن يفعل ما قام به اليوم في الصغر ولكن الفقر، والقهر حال بينه وبين ذلك حينها، وعندما قرأ نفس الرغبة في عين الصغير استدعت رغبته القديمة على السطح ، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يمارس ما هو قابع في سراديب ذكرياته، ويشاركه الصبي نفس الرغبة ،فصعدا سويا ليحقق أمنية ويعيش جزء من حياته المؤجلة التي تطل برأسها كلما مر من أمام مدينة الملاهي، وأخبر الصبي أصدقائه عن الرجل الثري أنه كان يضرب الهواء بقبضة يده بشدة وكأنه ينتقم من عدو، قبل أن يطلق اصوات مرتفعة غير عابئ بمن حوله ، أقرب للصراخ الذي يتبدد و يتلاشى في الأثير ويصبح جزء من ضوضاء مدينة الملاهي الصاخبة التي تعج بالحياة..