مساحة إعلانية
بشرني عم مصطفى، فرد الأمن المكلف بحراسة عمارتنا الشاهقة، بأن شركة الكهرباء، قد قررتْ اليوم، تغيير موعد قطع التيار الكهربي، أو كما يسمونه، تخفيف الأحمال، ليبدأ من الساعة الرابعة عصرًا ولمدة ساعتين، يوميًّا. ولما كنت أسكن في الدور العاشر، فقد أصبح لزامًا عليَّ أن أختار بين الصعود على السلالم، عشرة أدوار، كل يوم، وبين الانتظار، بجوار عم مصطفى، حتى يأتي فرج الله. تحسستُ ظهري وفقراتِه، وربَّتُّ على ركبتيَّ في تساؤل، هل ستفعلانها؟ واستعنتُ بالله، وبدأتُ الرحلة العبثية. تذكرتُ سيزيف، البطل الأسطوري، والذي عاقبته آلهة جبال الأوليمب بأن جعلتْهُ يدفع صخرةً كبيرةً كل يومٍ ليصعد بها إلى قمة الجبل، ثم ما إن يصل، حتى تتدحرج الصخرة نازلةً إلى سفح الجبل، وهكذا في كل يوم. لم أتذكر ماذا فعل سيزيف ليعاقب هكذا؟ ولا ماذا فعلتُ أنا؟ أنا المواطن الشريف، الذي لا أتكلم في السياسة، وتُستقطعُ مِني الضرائبُ من المنبع، وأسدد فواتير الكهرباء والماء والغاز والانترنت بانتظام. أول الغيث، الدور الأول، على اليمين، وبجوار السلم، مقر شركة الأدوية. يقول عم مصطفى إن بها سكرتيرة حسناء، وأنه يسمع صوت ضحكاتها يجلجل من وراء الباب المغلق. لم أرَها قط، تأتي متأخرة عن ميعاد نزولي، وتنصرف بعد أن أكون قد تناولتُ الغذاء ونمتُ. وقفتُ لأرتاح قليلًا. لم أسمْع شيئًا. ضوء النهار يتسرب من خلال النوافذ الزجاجية فيجعل الرؤية ممكنة إلى حد ما. الطابق الثاني، الأستاذ حسن وزوجته وأبناؤه، رائحة الطعام شهية للغاية. يبدو أن زوجته سيدة منزل ممتازة. لم أشم هذه الروائح منذ أن توفيتْ أمي، عليها رحمة الله. تذكرتُ تجربة العالم الروسي بافلوف، والذي كان يهز الجرس فيأتي كلبه، ثم يقدم له الطعام. ربط الكلب بعد عدة مرات بين صوت الجرس وبين الطعام، فصار يهيئ نفسه للطعام إذا سمع صوت الجرس فقط. لماذا لم يربط بافلوف بين الطعام وبين رائحة الطعام بدلًا من صوت الجرس؟ هل عندهم في روسيا طعامًا مثل طعام السيدة زوجة الأستاذ حسن؟ لا أعتقد. الطابق الثالث، الضوء يخفت رويدًا رويدًا، يبدو أنني سأحتاج إلى استخدام كشاف الهاتف المحمول. ها هو ذا، أين الكشاف؟ وفجأة، انطلقتْ قطة بسرعة فائقة تجري نازلة على السلالم، احتك جسمها بقدمي اليسرى، شعرتُ بها متوترة، ذيلها منتصب لأعلى، وعيناها تلمعان في الظلام. كانت تموء وهي تنظر لي في عدوانية، بلا مبرر. لم أفعل لها شيئًا. في الواقع، هي التي أفزعتني، عليها لعنة الله. هؤلاء الأولاد الملاعين في الدور الرابع، يضعون لها الطعام والشراب. تحدثتُ مع أبيهم أكثر من مرة، وكتبتُ لهم على جروب الواتس الخاص بالعمارة، فكان يرد في كل مرة بأن هذا من باب الرفق بالحيوان، وأن في كل كبد رطبة أجر، والراحمون يرحمهم الله، وأشياء من هذا القبيل. الحمد لله أن هذه القطة، أم لعله قط؟ كانت رمادية اللون، ولم تكن سوداء. كان شيخ مسجدنا وأنا صغير يقول إن القطط السوداء هي جان متخفٍ. كبرتُ، وضحكتُ من نفسي لتصديقي هذه الأوهام. هل هي أوهام فعلًا؟ الطابق الخامس، عليَّ أنْ أحترس، لا شيء، صمتٌ تام، وظلامٌ مطبق، اللهم إلا من نور كشاف المحمول. لا أعرف مَنْ يسكن في هذه الشقة، المغلقة دائمًا. فرصة لأستريح قليلًا، لفقد أنجزتُ نصف المهمة. الطابق السادس، الدكتور عاطف المسيحي، يضع صليبًا صغيرًا فوق باب شقته، وبعض السعف. لا أنسى له يوم أن أصبتُ باختناقٍ وضيقٍ في التنفس وعدم القدرةِ على الكلام منذ عدة شهور، استنجدتْ زوجتي به في منتصف الليل، فأتى مسرعًا، بملابس البيت، وأعطاني بعض الحقن والمحاليل، وظل بجانبي، حتى أفقتُ. ليت كل الجيران مثله، حتى لو كانوا مسيحيين. الطابق السابع، السيدة أنهار، الأرملة التي يعيش معها ابنها الوحيد عزت، وزوجته الشابة. لطالما استنجدت السيدة أنهار بزوجتي لتفض خلافاتها المستمرة مع زوجة ابنها، حتى أنا، طلبتْ مني عدة مرات أن أتحدث مع عزت، ليطلب من زوجته أن تحفظ لها وضعها ومكانتها وسنها، ولو قليلًا. عزت، المغلوب على أمره، يذهب إلى تجارته في الصباح، ويعود منهكًا في المساء، يريد أن يأكل، وأن يتركوه في حاله، يريد الهدوء، ويكتفي بهز رأسه لمن تحدثه موافقًا إياها على ما تقوله، أيًّا ما كان. يقول إن زوجته طلبتْ منه أن يسكنا معًا في شقة منفصلة، ولكن أمه رفضتْ، كما أن الشقة اليوم تتطلب عدة ملايين، والسوق غدار. الدور الثامن، مَنْ يسكن هنا؟ زوجان شابان، الزوج يعمل في الخليج، وزوجته الشابة تعيش بمفردها، ويأتي أهلها من وقتٍ لآخر ليقضوا معها عدة أيام. كان باب الشقة مواربًا قليلًا، ليس مغلقًا تمامًا. يبدو أن أحدهم كان في طريقه للخروج، وعندما رآني صاعدًا رجع مرة أخرى. ازدادتْ سرعة ضربات قلبي، ودق ناقوس الإنذار في رأسي أن أكمل طريقك، ولا تتوقف هنا، ولا تحاول حتى أن تتظر إلى فرجة الباب. صعدتُ بعض الدرجات ثم توقفتُ. أحسستُ بحركةٍ من خلفي، وسمعتُ صوتَ الباب يُفتح ببطء. هل ألتفتُ؟ لا. سوف أصعد بقية الدرجات، لقد اقتربتُ كثيرًا، الدور التاسع، قلبي ما زال ينبض بقوة. هل هذا من مجهود الرياضة الإجبارية بعد طول تيبس؟ أم أن وراء الأبواب المغلقة ما وراؤها؟ هل هذا صوت خطواتي أم . .؟ أهي خطوات صاعدة أم هابطة؟ سريعة؟ متلصصة؟ سوف ألتفتُ، يجب أن ألتفتَ، التفتُّ . .
عندما استعدتُ الوعي، كنت ممددًا على فراشي، وزوجتي وأولادي من حولي، والدكتور عاطف يبتسم قائلًا: نحمد الرب على سلامتك، يبدو أنك سقطتَ وأنت تصعد السلم، وسمعتْ زوجتك صوت سقوطك فتعاونت مع الأولاد حتى أحضروك إلى هنا، توجد كدمة على رأسك، يبدو أنها من أثر السقوط. ألف سلامة.