مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

قصة قصيرة :محطات..وسيلة أمين سامي / اليمن

2024-12-04 23:36:23 - 
قصة قصيرة :محطات..وسيلة أمين سامي / اليمن
صورة تعبيرية
منبر

وقت الظهيرة ، الزحام في ذروته. لم يدر بخلدي أني على موعد مع قدر سيغير مجرى حياتي . تتوقف سيارة وسط الطريق  محدثة خلفها جلبة عارمة ، وصوت بوقها يتعالى بلاتوقف . إقتربت من السيارة  ..فتاة تضغط بيد على بوق السيارة وبالأخرى تسند رجلا كبيرا  على كتفها خلف المقود يبدو أنه مغمى عليه : 
- خير  ماذا حدث ؟
- والدي بالكاد أوقف السيارة ثم أغمي عليه ،بحاجة لنقله للمشفى .
كاد القلق يفتك بها وهي تحدثني .تجمهر بعض الناس ، كان لدي مشاغل جمة لكن مارأيته لم يترك لي خيارا . وبمساعدة  بعض المارة وضعت الرجل في المقعد الخلفي وقدت السيارة باتجاه المشفى .. سألتها بالتفاتة خاطفة  :
- ماذا حدث له ، هل يعاني من مرض ما ؟
- لا ، غير أنه يعاني من ضغوطات نفسية .
- هل لديك إخوة ؟
- لا ، أنا وحيدة أبي .
كان صوتها مرتعشا ينبعث بنبرة حزينة رقيقة كادت تخرج قلبي من صمته الطويل .
رن هاتفها .. فهمت من حديثها مع المتصل أنها ترأس جمعية خيرية تعنى بالأيتام والفقراء ، أكبرتها في نفسي . نظرت إليها فإذا بها تقول :
- أرجو أن تركز نظرك  على الطريق .
وأردفت بنبرة ٱمره عندما حاولت تجاوز  سيارة تسير ببطء أمامنا :
-حافظ على المسافة بينك وبين السيارة التي أمامك .
أزعجني أن تملي علي توجيهاتها وتعلمني كيف أقود ، كأنني في حضرة معلم في إدارة السير  يختبرني لاستخراج رخصة قيادة .
قلت وقد راقني من الجميلة صرامتها الجميلة:
- أنا أعرف كيف أقود .
وفي قرارة نفسي كنت أدرك أني ربما ارتكبت بالفعل بعض المخالفات .
أسئلة كثيرة كانت تلح علي في طرحها عليها لكن  لصرامتها التي وجدتها منها احتفظت بها لنفسي ، غير أن سؤالا واحدا كان أكثر إلحاحا وتطلب مني جهدا في استتجلاب شجاعتي لطرحه عليها وذلك لفرط خصوصيته ، لكن وجدتني أرمي به على عجل :
- هل أنت متزوجة ؟
- لا  .
شعور غريب  بالارتياح انتابني تلك اللحظة . في المشفى سألوني عن اسم أبيها ، التفت  باحثا عن الفتاة ظانا أنها تبعتني ، لكني لم أجدها  ، عدت الى السيارة غاضبا ، وجدتها تعبث بحقيبتها بقلق بالغ ، نهرتها بشدة : 
- ياٱنسة يجب أن تكوني بجانب أبيك لتدلي ببياناته .
هزت رأسها وأطرقت  اطراقة أخذت بمجامعي وأصابتني في مقتل وأنا غارق في حيرة دَهِشة ...عندما رأيتها تخرج  نظارة من حقيبتها وتقول  بثقة وهي تخرج من السيارة:
- دلني على الطريق .
((ٱه لو ترين كم أنت جميلة  لكنك لاترين .)).
وبعد الاطمئان على والدها شكرتني كثيرا . لم أكن أعلم حينها أنها ستكون أجمل أقداري وأوجعها . وأنه سيأتي يوم أدخل فيه غرفتنا فأجدها خالية منها  إلا من بعض مقتنياتها الأثيرة ..  زجاجة عطرها تتوسط المنضدة ، يصلني عطرها ، أستنشقه بنهم ،أحس أن للعطر ذاكرة خاصة أشبه بتأشيرة عودة لماض  مداه تفاصيل الذكريات بمتناقضاتها . الغرفة التي كنت أراها باتساع الكون  أصبحت لاتتسع حتى لأنفاسي . أستسلم لظلام الغرفة متماهيا معه وأحس بألفة غريبة تقودني لدفء عينيها اللتين كانتا ميقات ارتحالي لأكوان من زمن ٱخر لا أعرف كنهه ولاماهيته  لكني أجده في كياني يزهر فرحا . (سندس ) في ذاكرة القلب  هنا وهناك   بمرحها ، لطفها ، حلو حديثها ورونق ابتسامتها ..بأعمال الخير التي تركتها . كيف عرفت آنزاك أني أهم  بأن أبثها ما اعتراني من وله ، إذ  رفعت يدها بإشارة بأن لا أتكلم  : 
- لا تقل أحبك  بل قل سأكون معك في كل محطات العمر أقاسمك كد النهار وهدأة المساء وروعة الحلم . لطالما شعرت أمامها بأني تلميذ صغير أمام معلمه ، وأنا الذي شارفت على الأربعين . لم أكن أعلم أن قلبي سيزدحم بتلك العينين ولن يبق متسعا لغيرها ، وأنها عوضي عن تجربتي القاسية في زيجة سابقة لم يكتب لها النجاح .كم كان يحلو لي مراقبتها وهي تعد لي أصناف الطعام  بتلك الخفة والبراعة ،وكم كان يروقني اختيارها ملابسي بتنسيق أنيق . أيقنت أننا نرى الأشياء لكننا لا نبصرها . قسرا يهجرني الكلام وتعتريني الدهشة وأنا أرى لطفا خفيا يتهادى بصمت ويحيط بها . بعيني سندس أطفأت مساءات الأسى وأخرست نواح الوحدة التي راقفتني طويلا  فضمني دفء وجودها وانهمرت في مهجتي بهجة وأنسا فتصرحت شهقات الهوى وعدا فراتا . ماهرة بصنع البهجة ، بارعة  بفك شفرات الحزن ، ترسم بلون الحب مأوى للشمس . هي امرأة استثنائية ، قارئة جيدة للأفكار حدسها لايخيب . ذات يوم عدت إلى المنزل منزعجا مغتاظا  بسبب اشكال مع بعض الزملاء في العمل وبرغم محاولاتي أن أبدو منشرح النفس  بادرتني بسؤال مباغت :
- مالك ياأحمد ، أراك على غير عادتك ، هل حدث شيء أزعجك ؟ 
حينها خطر لي أن أراوغها  في الإجابة ،لكن لعلمي بأنها ستكتشف أمري اعترفت لها بماحدث .يداهمني اشتياق لا مناص منه ،أذهل عن كل ماحولي  مستجلبا عشقا سندسيا غادرني بلا رجعة . خمس سنين مررن مسرعات مضى العمر وكأنه بين شهقة الحياة وزفرتها  لقاء راحل ..رحلت جسدا  وبقيت روحا في قلبِي الغدورٍ بمُدى الفراق .غير أن عزائي بضعة منها  مؤنستي الصغيرة ..ترتمي بحضني نتأمل صورة أمها الراحلة ، تسألني :
-بابا كيف كانت أمي   ترى كل شيء  وهي عمياء .

مساحة إعلانية