مساحة إعلانية
وسيلة أمين سامي / صنعاء ــ اليمن
(لــوحــة)
كل ماحوله يبدو كما اعتاد عليه وهو يسير في طريق عودته الى منزله.
إنارة الشارع تنعكس على ملامحه التي لا تخلو من وسامة وكثير من الوجوم ..
هبات من نسمات الصيف تعبث بخصلات شعره الذي علا جانبيه بعض الشيب ..أربعيني محافظ على هندامه وأناقته .واصل سيره بخطى متئدة ..مطرقا برأسه اذ رأى مظروفا ملقى على الأرض كاد يدوسه ..يبدو أنه وقع من أحدهم للتو ..التقطه وأخذ يقلبه بين يديه..نظر يمنة ويسرة عله يرى صاحب المظروف ..إنتظر قليلا ثم فتحه ..أخرج ما بداخله .. بضع من أوراق مرتبة بعناية فائقة .. أعادها إلى المظروف ..وأخذت نظراته تجوب الشارع من أقصاه إلى أقصاه عله يرى أحدا يبحث عن شيء فقد منه لكن لا أحد ..أكمل سيره بخطى أسرع لما انتابه من فضول بشأن تلك الأوراق . مر بالمقهى الرابض ركن الزقاق المؤدي لمنزله. مقهى شعبي يقف شاهدا على زمن مضى وارتحل بصروفه وتقلباته .. بمقاعد وطاولات خشبية متهالكة لو قدر لها أن تنطق لأسمعتك الشيء العجاب من ذكريات سنين وأجيال تطاول عليها العهد. دخل منزله المتواضع بأثاثه البسيط لكنه غاية في النظافة والترتيب .. إحدى غرفه مرسم صغير، علا محتوياته الغبار لطول هجره .إرتمى على الأريكة ورغم الاجهاد الذي يشعر به الا أنه كان في توق لقراءة ما احتوته الأوراق عله يستدل على صاحبها ..وجد أنها خواطر أدبية مكتوبة بخط أنيق .. مذيلة باسم : ( ريم عمر )
شرع في قراءة النص الأول ; ( الألوان لاترى نفسها ..لاتتهجى قوس قزح ..لاتتحسس دندنات الحب في احمرارها ..لاتتوه في رحابة زرقتها ..
هي وجه الحياة .. مرٱة تعكس الانفعالات الكامنة في النفس .. بصمتها تبوح لك بالكثير من الأسرار .. وهي لاتدرك ماتفعله بقلوبنا وكيف تفتتن بها أعيننا تظل فوق السحاب سنابل نور وفي ارتعاشات الزهر أغنيات رواء ووشوشات أريج وجودها يمحو كثيرا من قتامة الحياة ..فدع فرشاتك ترتقي لتصدح أصوات الوانك.. تقطف باقة من نجوم ..تتقلد هالة القمر ..تتفيأ أهازيج البسمات ..تشرب ضحوات النهارات .. تخاصر أحلام المساء ).
حدق بباب مرسمه الموصد ..شعر برغبة جامحة وشوق عارم لألوانه وفرشاته .
استأنف القراءة :
( إذا داعبت خديها بفرشاتك ستشرق فيها روح أخرى ..ستسمع صوت عطرها ..ستحس بأنفاسها .. (تلك هي الزهرة) فازرعها على أديم أوراقك ستحيا بلا ذبول ) . نهض عن أريكته ، قادته خطاه الى مرسمه ..نفض الغبار عن محتوياته وهو يشعر بشوق جارف فقد طال هجره له تسارعت الأفكار إلى مخيلته .. عزم على العودة للرسم .. وبدأ يرتب لوحاته. لم يقو على ترك تلك النصوص: ( في الذاكرة مرفأ لضوء شفيف يصعد من فتيل (الفانوس) العتيق هائم في مدارات الروح .. أيها الضوء كيف عكست ظلال الراحلين وطبعت صورهم بلارحيل ..
أشعلت بفتيلك ضجيج أماسيهم المثقلة بالنقاء كتسابيح .. كم أتوق الارتحال مع ضوءك لزمن يعكس من وراء الوراء أطياف أحبابنا الراحلين حين كان للود قلب يتكلم وللدفء عينان تنبضان).أحس أحمد أن في القلب دوحة استطالت غصون شوق وتدلى منها شجن دامع ووجوه من رحلوا تلوح تترى في مخيلته .
عصف عاطفي اجتاح حناياه ..غرق في أمواج من الذكريات الحانية .
تساءل مندهشا :
- ماذا فعلت بي ياريم .. ومن أنت ؟ وكيف للكلمات أن تعرج بالقلب في سماوات الحنين ؟!
مازال منهمكا بالقراءة :
(هل تأملت وجوههم ..هل قرأت خارطة السنين في ملامحهم المهرولة في تضاريسها ليال مثقلات بالأفراح والأتراح ..أُنُ منهم .. سامر وحدتهم ..ليكونوا لك أُنسا ..كن نديما لهم .. منصتا لحكاياتهم باهظات الحكمة والضياء).
حينها خطر ببال أحمد جاره المسن الطيب وأنه في مثل هذا الوقت من كل ليلة في هذا الصيف يخرج أمام بيته باحثا عن شيء من الهواء البارد. العم صالح ثمانيني متصالح مع نفسه يمتاز بروح مرحة ..تزين ملامحه لحية بيضاء مرتبة ..هادئ السمت ..معتمرا كوفية أنيقة .ألقى عليه التحية فرد عليه ببشاشة ودعاه للجلوس معه ..شرب كثيرا من الحكمة ومن حكايا لا تخلو من الظرافة التي انسابت من حديثه ..وهو يحدق دهِشا في وجهه الذي شعر كأنه اختزل وجوه من رحل من العارفين . لم يشبع أحمد من حديث العم صالح، لكنه اضطر لتوديعه.
عاد للقراءة: (بقلبك أنظر لهذا النسيم الذي اهتزت له أفئدة الغصون ..وطربت له أنداء الزهور ، فالعين محال أن تراه ). فتح النافذة ..كان الفجر قد لاح في الأفق : ( إفتح نافذتك انصت لهذا النور يمتطي أسرجة الصباح ..كأني به ينسكب في حارتنا العتيقة .. يدعني إليها، فتضمني أزقتها الأثيرة .. تسمعني صوت طفولتي ..تأخذ بقلبي المثقل شوقا .. برائحة الود الصافي وطعم الفرح الندي تطوف بي في ضلوع ذاكرتها الدفيئة المنحوتة في وجداني).
-ٱه من تكونين أيتها الريم ؟! ، كأنك معي تنظرين الي ، تقرئين أشجان روحي . ونصوص أخرى عاش بين سطورها تركت أثرا كبيرا في نفسه.
عاد للرسم بشغف ..وفي بضع شهور رسم الكثير من اللوحات، إحداها وقف حائرا وهو يرسمها .. وجدها من أصعب اللوحات لكنها الأحب إلى قلبه ..سكب ألوانها من حنايا مخيلته .. صورة لفتاة. تساءل كثيرا ترى كيف تكون ملامحها ومن أي مروج اكتحلت عيناها ?? إختار لعينيها لونا أخضر ..بعد أن اكتملت تلك اللوحة ظل يتأملها بعينين فاحصتين حتى شعر بالرضا وأسماها (ريم).
عزم أن يقيم معرضا يضم لوحاته ..استغرق الأمر بضع شهور ..بدأ بنشر الاعلانات .. أحس بأن صاحبة المظروف ستحضر معرضه .. (ريم عمر) سوف تحضر. أتم كل ما يخص تجهيز المعرض ..قرر أن تتوسطه لوحة ( ريم ).
وبجانبها لوحة تحمل وجه العم صالح .. وجاء اليوم الموعود ..بدأت الناس من محبي الرسم تتوافد للمعرض ..كان أحمد شاردا .. ساهما، متسمرة نظراته عند باب المعرض ينتظر شخصا لم يره من قبل لكنه قرأه ورآه بقلبه. وإحساسه يخبره بقوة أنه سيأتي .. الوقت يمر ببطء ..اقترب منه (صحفي )يريد أن يجري معه لقاء ، لكنه اعتذر. بلطف واستأذنه بتأجيل ذلك .. فلم يكن يشغله آنذاك سوى رؤية صاحبة الخواطر التي تركت في نفسه كل ذاك الأثر .اشتدت قبضته على المظروف ، ومازالت. عيناه متسمرتين على مدخل المعرض. بعد حين
دخلت فتاة .. قادتها خطاها لتلك اللوحة تسمرت وهي تنظر إليها بذهول.
خفق قلب أحمد بقوة ..اقترب منها وعقله يكاد يزيغ .. يا لهذا الشبه !!! إنها هي بعينيها الخضراوين سألها بارتباك: : أنت ريم ? ، أجابت :نعم وما أدراك هل تعرفني ? ،أشار للمظروف في يده :عرفتك من نصوصك ورسمتك من وحي خيالي ..وآن الآن أن تعرفيني أيضا . إبتسمت مبهورة ..وتاهت في تفاصيل اللوحة .