مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

للوداع طقوس.. قصة / د . بهية كحيل

2024-05-15 10:41 PM - 
للوداع طقوس.. قصة / د . بهية كحيل
د . بهية كحيل
منبر

صفق الباب وراءه بشدة بعد جدل وشجار امتد منذ سنوات خلت ليصل بها إلى مجاهل الإحباط، وظلمة اليأس. بهدوء القرارات الحاسمة، ورهبة النهايات، مشت في موكب إصرار بخطا ثابتة نـحو غرفة نومها نظرت إلى الأعلى فرأتها، حقيبة كبيرة بحجم عذاباتها، بهت لونها، ضاع رونقها عبر الليالي، وأرخى الزمن الآفل ظلاله الداكنة عليها. فتحتها بهدوء ففاحت منها رائحة الأمس، حفرت عليها السنون أخاديداَ، وعتقتها الأيام الغابرة، فكان لها وهج الأنتيكات وجمالها، وروح الماضي مازالت تشع من زواياها. ذات يوم كان لها بريق، بريق اللحظات التي لم تعشها بعد، يوم حضنت ثوب زفاف أبيض، وعانقت تاجاً من الياسمين، وأفرغت في قلبها البكر مهداً لزجاجة عطر، ففاحت منها رائحة الشهوة، وعبقت في أرجائها. في مساء ذلك اليوم استرخت بدلال أنثى داهمها العشق أصيلاً، وصدح القمر بألف لحن. زحفت جيوش الظلام، وأرخى القمر ظلاله الداكنة الغامضة عليها، وبدا مع الليالي الأولى أنَّ للوعة ناقوساً يدق، وأدركت منذ ليلتها الثانية، أنها طرقت باب الألم، وأن لحناَ حزيناَ سيرافق ما سيأتي من أيامها. سالت دموعها، ورائحة العطر لم تغادر بعد جسدها، عطر ليلة زفافها، هانت عليه وحدتها، ولم يعبأ. كانت عروساً وحيدة، ما عرفت لذة النهوض صباحاً، ولا ذاقت حلاوة السمر ليلاً، بل لمحت هالات سوداء تحت عينيها وآثار دموع طالت حتى تورم جفناها. أخرجته من الحقيبة، ورمته بإهمال. فستاناً أبيض كان يضج بالعطر، فبدا ذليلاً فوق سرير ضاقت به الآلام وسقطت وراءه عشرون سنة خلت من العذاب.
******
استدارت مسرعة فرأته يناديها، إنه شالها الأسود الجميل الذي طالما أدفأ صقيع لياليها، كان لها رفيقاً، سمع أنّاتها، عانق جيدها، ثم استدار برفق حول صدرها ليسمع أنين قلبها، كم لامسته بأناملها وكم لفها بحنان فأعاد السكينة لقلبها وطاقة الحياة لروحها التي جفت وتهرأت في طاحونة الأيام.  أحس بنبض الجنين في أحشائها، لسنوات خلت كان رفيق الأوقات الصعبة، والليالي الموحشة، كم همست له، وكم باحت معانقة، وكم التقط فراؤه اللامع حميم أنفاسها وكم تاهت في زغاباته دمعاتها. كان رفيقها الأثير الذي يحضنها برأفة أم فيمنحها الأمان الذي حرمت منه. دائماً كانت تهرع إليه مستنجدة به، فيعانقها بدفء، ويلامسها بحنان، فتشعر بالسكينة، ويتسلل الأمان إلى جوارحها، لهذا كان أوَّل من قررت أخذه، فهو يعرف أسرارها ودقائق حياتها وعليه أن يبقى شاهداً على ما هو قادم، كان له مكاناَ في حقيبتها، كما كان له دائماً وأبداً مكاناَ في قلبها وأيامها.
*******
نهضت واتجهت صوب خزانة الملابس، فتحتها بهدوء الفجيعة وصخب الإحباط ،ويد الفراق. ورأته أمامها معلقاً كلعنة، قميص نوم حريري، ناعم الملمس جذّاب اللون. في لمعانه وثناياه تجول خمرة العالم ونبيذها، وتختفي في خباياه حكايات أسى ولوعة. كان نذير شؤم وسوء طالع كلما ارتدته، أوقاتها الصعبة، ضربات القدر، مرتبطة به. حملته بجمود، اتجهت صوب الشرفة ذاهلة، كورته في إناء معدني كبير وأشعلت فيه نيران قلبها. انتظرت، راقبته وهو يحترق، وانهارت باحتراقه كل الصور التي اختزنتها في ذاكرتها المتعبة، وفاحت منه رائحة الرعب الذي رافق سنوات عمرها، ولم يبق منه إلا كومة رماد بحجم خيباتها.
******
عادت إلى الخزانة، وبهدوء قاتل باعدت بين الثياب حتى وصلت إليه، خفق قلبها بشدة عرق بارد تصبب من جبهتها، وتذكرت يوم انتقته بعناية. لونه زرقة بحر موَّجتها شمس الأصيل، وارتدته بزهو أميرة إغريقية في ليلة تمنتها استثنائية
في ذلك اليوم كان مسافراً وعاد ، بشوق أيام الفراق، وبلهفة انتظار طال، عانقته بعد طول غياب، شعرت بثلجه يطفئ نارها، سألته وسكبت على أعتابه حيرتها، وانشغالها، قلقها وألمها، وتساءلت عن سر المسافات التي باعدت بينهما، وعمّا يخفيه في عتمة تلك الليالي التي  طالت حتى وسمت بنار الغيرة قلبها البكر ، وأسلمتها طائعة مختارة لرياح الشك....  لم يجبها .
اتهمته وعجزت الأدلة عن إدانته، لكنها أحست، بل أيقنت وأنبأتها الحاسة الأنثوية التي لا تخطئ، أن هناك طيفاً لأخرى يجول في فضاءاته، وأنه يغوص في ملذّاته،  فصرخت في وجهه مطالبة بأدنى حقوقها الشرعية، رفع يده الآثمة وصفعها.
أذهلتها الصفعة الأولى، فبدا صغيراً وضعيفاً وخائفاً، ثم أدانته الصفعة الثانية.
حملت الثوب البائس بأسى، ثم نظرت إليه بعمق، لم تعد تشعر بزرقة بحره، ولا بتموّجات أصيله، فقد أفلت شمسها منذ زمن، لذا رمته قرب سلة المهملات، ومضت باردة الملامح.
*****
امتلأت حقيبتها بالملابس وعيناها بالدموع، وقلبها بالأسى، ولم يبق سواه اتجهت صوبه، وبهدوء حملته، وكأنها تحمل نعشاً، إنه بقايا أمسها المنصرم الذي يضم في حناياه صور الماضي القريب والبعيد، تاريخ أفل ولم تبق منه سوى مرارة الذكريات، وصدى السنين، ترددت ثم فتحته، ابتسامات، نظرات، هنا جلسنا ذات يوم، وهناك لعب الأولاد، هنا احتفلنا، وهناك رقصنا ربما على الجراح. كثير من الورد، وقليل من الحنان أطل من صورة طالت عليها الأيام. يوم وضع في إصبعها خاتم العبودية، وحول معصمها قيوداً ذهبية. تراءى لها يومها أن السعادة منهلاً بات قريباً، حلمت بالفرح، بالحب، وطارت على جناح الأمل، بنت قصوراً في الهواء، وقلاعاً فوق الرمال. ثم كان هناك كثير من الوجع. يوم رأت يده الآثمة تمتد في عتمة الليل وازدحام الناس، وتزاحم الثواني لإبقاء ذكرى للمناسبة، فكان ضوء التقاط صورة في جزء من الثانية كاف ليفصح عن مالم يلتقطه إحساسها في سنة . نعم رأت يده الآثمة وهي تحضن بحنان حرمها منه، كتف امرأة أخرى وصفها فيما جاء بعد من السنوات بأنها عاهرة. وأحست منذ تلك الليلة ومنذ رأت تلك الصورة أنه لن يكون توءم روحها كما تخيّلت. طوت الصفحة بسرعة، توالت عليها أماكن كثيرة، وأزمان بعيدة، سنوات وسنوات، ثم، وضعته داخل الحقيبة، بعد أن ربتت عليه بيدها لعلها تمنح ذكريات تلك الأيام حناناً لم تشعر به وسكينة فقدتها على مدى الأعوام.
******
أغلقت الحقيبة نظرت إلى عصارة عمرها (الجدران، الستائر، المفارش، أصص ورود الزينة) سحبت نفساً طويلاً وزفرته بهدوء، وضعت المفتاح جانباً سارت باتجاه الباب، تحسست قبضته، ثم أغلقته واتجهت بخطوات واثقة نـحو الغد

مساحة إعلانية