مساحة إعلانية
المشهد محفور بداخلي وكأنه حدث أمس، حضوره متجدد ومغروس في أعماقي رغم مرور سنوات طويلة على حدوثه، كان ذلك في عصر يوم الأربعاء الموافق الحادي عشر من فبراير عام 1989م في صالة جريدة « المساء « بمبنى دار التحرير للنشر والتوزيع في شارع 26 يوليو ، شباب الأدباء وكبارهم يلتفون حول منضدة مستطيلة في صالة التحرير لحضور ندوة الكاتب الكبير أستاذ محمد جبريل، على غير عادتي أنا الصامت دائما ، والمتابع والحريص على حضور الندوة العامرة مساء كل أربعاء، أرفع يدي طالبا إلقاء قصة، يشير لي الأستاذ بيده، أقف متلعثما، الورقة ترتعش مع يدي، العرق يتصبب من مسامات جسدي، القصة مقاطع صغيرة لا تتعدي صفحة واحدة ،أظن قرأتها في دهر كامل ، ولم أشعر إلا والأستاذ يشير بيده هات القصة، أمدها له في صمت ورهبة،وأجلس وأنا أشعر بدقات قلبي المرتفعة كأن الجميع يسمعها.
يوم السبت الموافق 14 فبراير أي بعد ثلاثة أيام وأنا أتصفح جريدة المساء،وصفحة الأستاذ الأدبية تسمرت العيون،وجحظت وأنا أشاهد قصتي « مقاطع من نون النسوة « التي قرأتها في ندوة الأستاذ منشورة تزينها رسمة رائعة، رغم إنها ليست المرة الأولى التي أشاهد اسمي محفورا بجوار قصة لي ، ولكن شعرت باختلاف وسعادة غامرة، اشتريت يومها 10 أعداد من الجريدة، وذهبت إلى مسكني القاهري وأنا أحلق في فضاء السعادة، وعزمت أن أقدم شكري أستاذنا في ندوة الأسبوع القادم ولكن خجلي الذي كان يرافقني كصديق ثقيل الظل منعني .. ولكن ظلت هذه القصة وهذا المشهد محفورا بداخلي.
هذا هو أستاذنا جبريل ،ومن خلال ندوته الأثيرة قدم أجيالا من الكتاب، ومن خلال ندوته التي صنعتنا بحق،وفرشت لنا طريق الإبداع بمحبة ، وأبوته الصادقة التي شعر بها وأحسها وعاشها كل من اقترب منه،و لا أضيف جديدا عندما أقول أن أستاذنا جبريل صانع أجيال ويعتبر بحق مؤسسة ثقافية متفردة بجوار مدرسته الإبداعية التي قدمت ومازالت للبشرية زادا متفردا للإنسانية .
محمد جبريل الإنسان هو نفسه محمد جبريل المبدع والأديب والكاتب والمفكر الراقي الذي أثرى المكتبة وإن كان رحل بجسده عن عالمنا في 29 يناير 2025 م ، فأنه حي بيننا بكتاباته وما تركه من رصيد محبة في قلوب أجيال من الأدباء