مساحة إعلانية
في كل زمن تمرّ به مصر تُختبر المعادن الحقيقية لأبنائها. قد تتبدّل الأحوال وتتغير الموازين ، وتشتدّ ضغوط الحياة لكن يبقى شيء واحد ثابت لا يهتزّ: الجدعنة المصرية. تلك السمة التي تسكن في وجدان الناس وتعمل بصمت حين يعجز المنطق وتضيق الحيلة.
الجدعنة ليست شعارا يُرفع بل سلوك يومي نابض بالمسؤولية والضمير. فالمصري لا يقف متفرجا حين يرى أحدهم في مأزق بل يتحرّك بدافع فطري يجعله جزءا من الحل. من أزقّة القاهرة القديمة إلى قرى الصعيد والدلتا ومن المواقف الإنسانية البسيطة إلى لحظات الشدة الوطنية ستجد دائما من يمدّ يده قبل أن يُطلب منه.
إنها تلك الروح الجماعية التي حفظت لمصر تماسكها عبر قرون، وجعلت أبناءها ينجون من كل اختبار كأنهم يحملون جينات البقاء بالتكاتف.
اليوم ومع تغير العالم وتسارع الإيقاع أصبح الحفاظ على هذه الروح تحديًا في ذاته. فالعالم الرقمي صنع بشرا أكثر انعزالا يراقبون أكثر مما يشاركون ويتفاعلون بالرموز بدل الأفعال. ومع ذلك تظل الشخصية المصرية قادرة على التكيّف دون أن تفقد جوهرها. يكفي أن تقع أزمة — حادث أو سيول أو مأزق إنساني — لتجد المصريين أول الحاضرين، يتحركون بضمير جمعي يقول: «لسه الجدعنة بخير».
هذه الروح لا تُشترى بالمال ولا تُدرَّس في المدارس لكنها تُورّث بالقدوة. من الأمثال الشعبية إلى القصص اليومية تربّى المصري على أن "الراجل مواقف"، وأن "الجدعنة مش بالكلام"، وأن "اللي ليه ضهر ما يقعش". فالشجاعة هنا ليست في الصوت العالي بل في الفعل الهادئ الذي يصنع الفرق وقت الأزمات.
ولأن مصر لا تعرف الفصل بين القلب والعقل فقد أثبتت المرأة المصرية أن الشهامة ليست حكرا على الرجال. كم من فتاة كانت سندا لأسرتها وكم من أم حملت وطنا في قلبها قبل بيتها. الجدعنة عندها ليست استعراضا بل فعل حبّ ومسؤولية.
في زمن التحولات الكبرى تحتاج الدول إلى ما يحافظ على نسيجها الداخلي. تُبنى الأوطان بالمؤسسات نعم لكنها تستمر بالقيم. ومصر التي تخوض اليوم معركة التنمية والاستقرار بحاجة إلى أن تظل هذه القيمة حية في الشارع في العمل في تفاصيل الحياة اليومية. فالقوة الحقيقية لأي مجتمع لا تُقاس بعدد مشاريعه بل بقدر “الجدعنة” في نفوس أبنائه.
المصري بطبعه يعرف متى يلين ومتى يشتدّ متى ينسحب ومتى يتقدم. يضحك في الشدة ليهزمها ، ويصبر في الصمت ليعبر. تلك الخلطة النادرة بين الطيبة والصلابة بين العفوية والكرامة هي سرّ الشخصية التي لم تنكسر يوما رغم كل ما مرّ بها.
لقد علّمتنا السنوات الأخيرة أن الشعوب لا تُقاس فقط بنموها الاقتصادي بل بعمق إنسانيتها. وأن أخطر ما قد يواجه أي وطن هو أن تتآكل فيه المروءة. لكن مصر ما زالت تملك سرها الخاص: خيط خفي من الجدعنة يربط أبناءها ببعض من الجندي على الحدود إلى العامل في المصنع ومن الطالب في الجامعة إلى الفلاح في حقله. الكل يحمل بذرة الشهامة تنتظر لحظة لتزهر.
قد تتبدل الأزمنة وتتغير اللهجات لكن ستبقىالجدعنة المصرية الوجه الشعبي للوطنية الصامتة التي لا تحتاج إلى خطب ولا إلى تصفيق. يكفي أن تمرّ بلحظة إنسانية لتدرك أن مصر ما زالت بخير وأن أبناءها مهما تبدّل العالم سيظلون دائما على العهد:
جدعان وقت الجدّ.