مساحة إعلانية
كنت مُولَعًا في المرحلة الثانوية ، قبل ما يقارب نصف قرن ، بتجنب استذكار دروسي مع زملائي بالثانوية العامة ، وأميل للاستذكار مع زملائنا من الأزهريين لخفة ظلهم وكثرة نوادرهم ، وكان الشيخ محي الدين يتميز من بينهم بأنه يمتلك بيتا صغيرا من طابقين يسكنه وحده بعيدا عن بيت أسرته ، وكان في إحدى عينيه غشاوة أتاحت له أن يُسَجَّل ضمن المكفوفين ، مع أن نظره حاد ويميز تثاؤب ذكور النمل من تثاؤب إناثها !!
وكان في شخصية الشيخ محيي الدين سماتٌ متناطحة تتعايش في سلام وإن كانت متنافرة ، فهو مثلاً ( في غدوِّنا ورواحنا من قريتنا شطورة إلى مركزنا : طحطا ) لا يركب القطار كما نركبه ويشتري تذكرة ، بل يركب فوق القاطرة [ = الجرَّار] ذهابا وإيابا فلا يدفع مليما واحدا للحكومة ، وكنا حين نسبقه في النزول نراه في مربضه فوق سطح القاطرة متربعا يتلو القرآن الكريم ، أو ممسكا بمسبحته يختم وِرْدًا من أوراده تسبيحا وتحميدا !!
كنا نعابثه أحيانا فنسأله عن الخَطَّيْن المتوازيَيْن فيقول بورعٍ جازمٍ لا تكلفَ فيه ، وكأنه يُسَمِّع نصًّا مُقَدَّسا : " الخطان المتوازيان يمتدان إلى ما شاء الله ، ولا يلتقيان إلا بإذن الله ، فإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله ! "
فإذا سألناه كما يسألنا معلم الكيمياء : ماذا يُعطينا خَلْط الأكسيجين بالأيدروجين؟ فيقول بخشوع وإطراق : خَلْط الأكسيجين بالأيدروجين يعطينا ماءً صالحًا للوضوء !!
فلما تركنا الأكسيجين والأيدروجين وحساب المثلثات وانضوينا تحت لواء القسم الأدبي ، كنا نعاني مُرَّ المعاناة من عدم قدرة الشيخ على التمييز بين الدول المتحاربة في كل حرب من الحروب ، ومن عدم قدرته على تمييز حدود الدول في الجغرافية ، فقد كان الشيخ ينكر كتب التاريخ والجغرافية أشد الإنكار ولكي يحفظ الحدود في الخريطة كنا ننظمها له شعرا ركيكا شأن أي نظم من مثل :
تُحَدُّ أفريقيا من الشَّمالِ .... بتونسٍ ، يا عالمًا بحالي !!
كذا يَحُدُّها من الجَنوبِ .... رأسُ الرَّجا .. يا غافرًا ذنوبي !!
وآسيا في شرقها المحيطُ .... وغَرْبُها في البحر يا عبيطُ !!
أما أم الكوارث فكانت عند الشيخ مادة اللغة الانجليزية ، فقد كانت تتكون من أربعة كتب فخمة الطباعة كبيرة الحجم نسبيا هي :
1- القصة المقررة [ عادة ما تكون رواية إنجليزية طويلة]
2- كتاب السيلكشن ( وهو كتاب القراءة ذو الموضوعات المختلفة )
3- كتاب الجرامر ( وهو كتاب القواعد النحوية )
4- كتاب الإكسرسايز ( وهو كتاب يضم تدريبات تشبه أسئلة الامتحانات )
وكان النظام في تلكم السنين يسمح للطلاب بالنجاح مع الرسوب في أربع مواد : يؤدي الامتحان في الدور الثاني في مادتين من تلك المواد الأربع فإذا نجح فيهما وبقيت مادتان فله أن يحصل على الشهادة الثانوية وهو يحمل تينك المادتين حَمْلا خفيفًا إذا كان قد حصل في إحداهما على رُبْع الدرجة ( 10 درجات من مجموع درجات المادة الكلي وهو 40 درجة) وتُسَمَّى هذه ( مادة رُبْعيَّة ) وله إلى جانبها أن يحمل مادة أخرى (صِفْريَّة) أي أنه أخذ فيها صِفْرًا !!
ولأن الشيخ محيي الدين كان يعرف هذه القواعد كما يعرف سنن الوضوء وأركانه ، فقد كان يستقبل مادة اللغة الانجليزية ، ذات الكتب الأربعة ، كل عام بفرحة غامرة ، وهو الذي لا يحفظ حرفا واحدا من أبجديتها ، فما السر في فرحته بها ؟؟
كان الشيخ محيي الدين يدخِّن المُعَسَّل الرخيص في " جُوزَة " [ = شيشة] اصطنعها لنفسه وكان يستدفئ شتاءً – ونحن معه – بماجور من الفخار نوقد فيه قطعا من حطب القطن أو قطع الخشب الصغيرة التي يجمعها الشيخ مما يتناثر عند النجَّارين ، فإذا خَبَتْ النار أو كادت تخبو ، ( مَزَعَ ) لها صاحبنا ورقة أو ورقتين من كتاب السيلكشن لتشتعل من جديد ، وبعد عدة أسابيع يكون الكتاب قد انتهى تماما ، فإذا خَبَتْ النار أو كادت ينتزع لها الشيخ ما يُجددها : ورقة أو ورقتين من كتاب الإكسرسايز ، ثم من القصة .. فإذا دخل الأشهر الحرُم عند التلاميذ : مارس وأبريل ومايو تكون كتب اللغة الإنجليزية قد فنيت كاملةً وربما يكون كتاب الجغرافية أو الفلسفة أو المنطق أو علم النفس قد لحق بها !!
وقبل نصف قرن كان في أطراف قريتنا المشهورة بالعلم والعلماء ، نجوعٌ نائية تغطّ في جاهلية جهلاء ، وكان بنا ولعٌ غريب ونحن صبية أن نختلف إلى تلك النجوع عند زملائنا ، لنعايش بداوتهم وتلقائيتهم ونسمع منهم ألفاظا يندر ترديدها في قلب القرية المتحضر نسبيا بما فيه من دكاكين بقالة وأكثرها به " راديوهات " تنساب منها أصوات كبار قراء القرآن الكريم ، و أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد طه وفهد بلان والسمسمية والخُطب الدينية والسياسية .وكان في قلب القرية مساجد كبيرة بها علماء يشرحون لحلقات طلاب العلم صفحات يوميا من كتب الفقه أو التفسير أو التصوف .
وكان بنا ولعٌ غريب ونحن صبية كما قلت أن نغشى النجوع فنرى الطرائف الغريبة ، فمثلا ذات مرة كان خطيب الجمعة في أحد تلك المساجد البعيدة بَنَّاءً متوسط المهارة في البناء ، لكنه يعرف القراءة والكتابة ، فكان يستعين بكتاب التربية الدينية المقرر علينا في الصفوف الأولى من المدرسة الابتدائية ، ويقرأ في كل جمعة درسا في الخطبة الأولى ، وفي الخطبة الثانية يقرأ من ذاكرته أدعية محفوظة مسجوعة أن ينصر الله السلطان وعساكره ويحفظ البلاد والعباد من الحصبة والكوليرا ، فمثلا أذكر من إحدى خطبه قوله وهو يقرأ من الكتاب :
"...... وألقى النمروذ ابراهيم عليه السلام في النار ، انظر شكل 9 ، ولكن الله نجَّاه منها وقال يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم . المناقشة : لماذا ألقى النمروذ ابراهيم في النار ؟ ماذا قال الله تعالى للنار ؟ ...." ويستمر الرجل في القراءة حتى تنتهي الأسئلة التي تعقب الدرس وهو لا يعي أنها أسئلة للتقويم !!
وذات مرة وزَّع الإرشاد الزراعي منشورًا على أئمة المساجد لتوعية الناس ، فتلقفه خطيب من خطباء تلك النجوع النائية ، ووقف لخطبة الجمعة فحمد الله وأثنى وصلى وسلم وترضَّى ثم قال ممسكا بالمنشور : [ أخي المُزارع ... نَقِّ القطنَ من الحشاااااااااائش والآفات ، ولا تَسْقِ البهائمَ من " المشروع"فإن فيه بودرة ....الخ ..] وكان رحمه الله يُدَلِّع حرف الألف من كلمة ( الحشائش ) ويبالغ في إظهار قلقلة حرف الدال من كلمة ( بودرة)
ثم قال : فاتقوا الله عباد الله وقوموا إلى صلاتكم .
وحدث مرة أن قال رجل لجاره بصوت خافت وهما ساجدان وقد وجه وجهه نحوه : " انتظرني يا حسين بعد ما نصلي برة أنا عاوزك في موضوع " فقال له صاحبه " حاضريا عبد الحفيظ " ، فقال ثالث على يسارهما وقد وجه وجهه نحوهما : " صلاتكم أنتم الاتنين باطلة !! "
وإلى لقاء جديد ... تضحكوا على خير !!