مساحة إعلانية
يطلق لفظ الكبرات على الأغنياء أولاد الأصول من أيناء القرية. وقريتنا من القرى الفقيرة لا تزيد مساحة زمامها، على الألفي فدان، والفوارق بين أغناها و أفقرها ليست شاسعة كما في بعض القرى التي نسمع عنها، التي بها العزب والوسايا، وذلك لضيق الشريط الزراعي الذي يضغطه النيل من الجانب الغربي والجبل من الناحية الشرقية. فلا يزيد ملك أغناها الأفدنة التي تعد على أصابع اليد الواحدة، ومعظم البيوت لا تمتلك إلا قراريط معدودة. ومن كلف على اسمه ثلاثة أفدنة هو من الميسورين .. ومن من حاز بضعة قراريط، هو من المستورين، وهم الأغلبية. أما من يرتزقون من عمل يدهم اليومي أو الموسمي فهم قلة.. وأغلبهم لا ينتمون إلى الفرعين الأصليين من أفرع شجرة القرية: فرع (القداديح) الذين سكنوا ( بيده )، أو بيداء وهو الاسم القديم للقرية.. وفرع (الشرفا) أو الشرفاء المنتسبين إلى جدهم (الشيخ جابر)، والذين سكنوا (النطرة)، وهو مخر سيول، وأطلق عليها اسم الشيخ جابر، بل من أهلها من جاء من (منيحة) في أقصى الجنوب، ومنهم من جاء من الشمال، ومنهم النصارى او من غرب البحر. ولم يكن هؤلاء أقل شأنا ولا أقل احتراما؛ فقد تزاوجوا مع (القداديح) و(الشرفا) وصاروا منهم. أما الفئة الأخير فهم أفراد غرباء ضاقت بهم أرضهم إلى جانب أبناء العبيد الذين حرر أجدادهم بالقانون، ويعملون لأسيادهم السابقين سداسين وأصحاب مهن مختلفة.
وكان الكبارات أيامنا عدد محدود لا يتجاوز أصابع اليدين، وكنا كأطفال نراهم يقطعون طريق( تحت البلد )؛ إما على أقدامهم، في ملابسهم النظيفة وعطورهم الرخيصة، وعمائمهم (المظهرة) المزهرة، أو على حميرهم المسرجة بالبرادع (أم بطيخه)، وفي أيديهم (الخرازانات السويسي) أوعصيهم (الكريز) معلقة بسواعدهم، يسيرون معا في وقار وتمهل، ذاهبين لتأدية واجب، أو لحضور ذكر أو فرح. يتبادلون الأحاديث بصوت خفيض رزين، دون أن ينظر أحدهم إلى الآخر. وكنا نحن الصغار نتمنى أن نصبح مثلهم : مثل (على حبوب) أو (حسن درويش) أو (الشيخ عبد الحكيم) أو (العمدة محمود) أو (الشيخ عباس) أو (محمد عطية) أو (الشيخ خيري). ورغم أن هناك من يمتلك من الأفدنة أكثر من أي من هؤلاء إلا أنهم لم يكونوا من الكبرات وإن كانوا من الأعيان . ولم يكن الكبرات من جيل واحد.
لم يكن هؤلاء الكبارات على وفاق تام ولا (سمن على عسل) كما يبدو لنا، فمنهم من يحتال على صاحبه لينقل قطعة أرض من تكليف صاحبه إلى تكليفه هو أو أحد أقاربه ، بالتزوير، ويرفعون القضايا على بعض، ويشدون المحامين للدفاع سرقاتهم، والشاطر منهم من يهزم الآخر أو يرد له القلم. والوقائع
كثيرة،
لكن المدهش أنهم كانوا يتعاملون معا على المقهى مثلا في البداري بذوق واحترام شديد، بل قد يتحمل أحدهم أجرة المواصلات عن الآخر؛ ليتمكن من الوقوف أمامه في المحكمة. إن كان مفلسا. وهذه الأفعال في عرفهم لا تشين، ولا تعد عيبا، ففي فترة من الفترات السابقة لجيلنا كانت السرقة (فتونة) ومرجلة، لكن ما يقلل قدر الرجل في أعين أهل القرية اتهامه بالزنا. ودائما تهمة الزنا لا تثبت على أحد.
نعم في قريتنا كانت هناك بيوت غير رسمية للمتعة يتردد عليها الشباب والفقراء ، وكانت كل القرية تعرف النسوة القحاب ومن يتردد عليهن، لكن هذه أمور لا ينبغي الحديث عنها إلا من قبيل النميمة في جلسات المراهقين. أما (الكبارات )، فهم يعرفون الطرق إلى (بيوت المتعة الرسمية) (الكراخانات)؛ في أسيوط والبنادر الكبيرة. حيث النساء نظيفات، يترددن على (الحكيم باشا) سنويا، وظلت تلك البيوتات تعمل حتى بعد أن ألغت الثورة التصاريح.
وكان كبارات قريتي يترددون على (عزبة الطرح ) و(الوسعة) في أسيوط بشكل شبه منتظم. بل أن أحدهم ابتنى بيتا بأسيوط، وأسكن بدوره الأرضي أمرأة منهن حازها، و شاع اسمها في أسيوط حتى ستينات القرن العشرين ، وزوجها الكبير أحد رجاله، وكان إذا نزل أسيوط مر بالدور الأرضي فأخذ قسطا من المتعة وقسطا من الراحة، ثم صعد إلى الدور الثاني ليستقبل الوكلاء والمحامين، ومن له المصالح عندهم. وحين مات الكبير، خلفه بكر أولاده، وظل مخلصا للدور الذي كان يلعبه أبوه في الدور الأرضي، حتى فشل في الدراسة، وعاد إلى البلد ليترصد الفتيات في دروب القرية المظلمة.
كنت قد عينت بمدرسة (التجارية) التي أطلق عليها فيما بعد اسم (الفريق عبدالمنعم رياض التجريبة التجارية )، وصرت وكيلا للمدرسةأشرف على أحد أدوار مبناها، وكنت قد أخفيت عن طلبتي وزملائي اشتغالي بالأدب والتمثيل وغيرها من الأعمال التي تفلل من قدر المعلم في نظر الكثيرين، وكان (عم منصور( من أحضر لي نتيجة الدبلوم في القرية قد صار رئيس عمال المدرسة، وصار ناظر المدرسة ( القوصي ) مديرا للمدرسة. وفي حقبة الثمانينات من القرن العشرين؛ كانت الجماعات الإسلامية الإرهابية؛ قد فرضت سيطرتها على أسيوط جامعة ومدارس وشوارع وأزقة وحارات. وكان أمير الجماعة بالمدرسة شاب رياضي الجسم حسن المظهر، قليل الكلام في غير مناسبات الخطابة. وكانت تخشاه الاساتذة والطلاب، لكنه كان ينظر إلى باعتباري من المعارضين لنظام الحكم المؤجل سحقهم لما بعد التمكين ..
ذات يوم جاءني (أمير الجماعة) بالمدرسة ليأخذ موافقتي على جمع تبرعات (للمجاهدين الأفغان) كما طلبت المديرية التعليمية وبتوجيهات من السيد الرئيس المؤمن، ورغم عدم قناعتي بالأمر، إلا أن التعليمات يجب أن تنفذ. بعد أن انصرف (الأمير)، وكان (عم منصور) قد جاءني بالشاي الذي طلبته، وسألني: هوه الواد دا قبح معاك يا حاج ؟. قلت له : بالعكس .. الراجل بيتعامل معاي بلطف .. وسالت (عم منصور): إيه اللي خلاك بتقول كدا يا ريس منصور؟!! قال: أصلي شفتك بتدقق فيه قوي وهو ماشي. قلت له: أصلي شكله فكرني بناس من بلدنا يا عم منصور .. قال منصور متخابثا: ياك ما تعرفوش ..؟!! قلت لا .. قال دا (ولد فردوس) اللي ساكنه ف بيت البيه بلدياتك.. ما انت عارفه .
ضربت كفا بكف .. وأنا أقول : ولد فردوس بقى أمير المؤمنين .. عليه العوض ومنه العوض ...!!