مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب:من تلك الأيام

2024-05-26 07:21 PM - 
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب:من تلك الأيام
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي
منبر

من أدب السيرة الذاتية :


يعد أن دونت توقفي عن كتابة الأدب ونشره من تلك السيرة الأدبية الذاتية ، علق بعض من أحترم من

الأدباء الكبار والأصدقاء مخطئين موقفي ، واتصل كثير منهم بي هاتفيا ،

بل إن إعلاميا كبيرا رفض أن ينهي المكالمة قبل أن أعده بالاستمرار في الكتابة .. والاستمرار في النشر

.... فلم يعد الأمر ملكا لي كما قالوا .....

وحفاظا على ما بقي من الود .. مع أخوالي الذين أدين بفضلهم .. وعائلتي التي أعتز بالانتساب إليها ..

سأستمر في تدوين الكتاب ( من تلك الأيام ) حتى تفرغ  قنينة عمري ..

وأنشر هنا .. ما أظنه يبقى على تلك المودة والاعتزاز ... 


( من تلك الأيام )  البلد الغريب ....


      عندما شاء الله أن أستقر في ( البندر) مدينة أسيوط ، سكنت هوامش المدينة .. فقد سكنت (حي الحمراء) وفي منطقة عشوائية تسمى (جسر الصليبة)، بعيدة عن زحام وسط البلد، ولرخص الإيجار فيها .. وحين ازدحمت المنطقة،  وتمكنت من شراء شقة متسعة اشتريتها في (الأربعين) .. وكانت (عمائر بنك الاسكان)  بين المزارع .. وأخيرا وبعد سنوات هربت من ازدحام الأربعين إلى (أسيوط الجديدة)، التي تقع عند سفح الجبل الشرقي (الصحراء الشرقية) تماما كقريتي (الهمامية) .. وحين أفكر  في الأمر الآن .. علمت أنني كنت أبحث عن قريتي على هوامش المدن ، تلك القرية التي أفتقدها في كل المدن. 
    وحين كنت أكتب نصا مسرحيا، لم أستطع أن أتصور مشهدا في قرية إلا وقفزت قريتي إلى ذهني لترسم المشهد، وربما بعض شخوصه أيضا. قريتي هي الحقول الهادئة، والدروب الواسعة، والرهبات الشاسعة، ومطالع الجبل الممهدة، والأرض الناعمة، وجسورها التي ينمو على جوانبها (شوك المرير) و أشجار (السنط ) و(تايات) الفقراء .. ملاعب صبانا اللاهية؛ التي نركض فيها بلا ملل ولا عوائق.. 
   تأتي قريتي إلى حين أجلس إلى مكتبي، فأتحسس ملامحها، بيوتها الطينية الرائعة، أستحضر صبيتها وصباياها .. واسترجع تلك المشاعر الغامضة التي تقتحمنا حين نقف على عتبات البلوغ .. ولأننا سكنا منذ السبعينات من القرن العشرين،  في بيت بنيته وأمي على الترعة الكبيرة، لم أكن في حاجة إلى المرور ( تحت البلد ) لكي أصل إلى البيت حين أزوره كالغرباء. .. ومرت السنوات .. تبدل كل شيء إلا قريتي التي اكتنزها في صدري. 
       وكثرا ما استحضرت عاداتها وتقاليدها بل وشخوصها  في كتاباتي الأدبية وفي كتب التراث الشعبي. ومن المشاهد التي أدميتها تدوينا في أكثر من كتاب، مشهد (الطلعة)، وهي طقوس زيارة الأموات في الأعياد والمواسم. ومازال يمتد أمام عيني سماط الخبز الذي يكومه (اللحادون) أي اللاحودن أو التُّربية و الحفارون؛ في مدخل (الجبابين)، آلاف وآلاف من قطع الخبز(العيش الشمسي)، والمخمر الفاخر، و(كعك العيد).. ولم أسأل نفسي أبدا أين يذهب ( اللحادون ) بكل هذا الذي جمعوه من كل أصحاب المقابر الذين يؤثرون الصدقة به دون عيالهم، و ينشرح صدري لبهجتنا نحن الصغار بين المقابر، وفرحتنا بملابس العيد وحلواه ولعبه البسيطة. وتجاهلنا نحن الصغار احتشاد رجال العائلة جميعا، حول مقبرة الميت الذي نطلع عليه (أول طلعة)، ونساء الأسرة ينتحبن بصدق، متغنيات ببعض مقاطع العديد. فيذكرهن بعض الرجال الكبار، بأن الميت (بعذب ييكاء أهله) كما يقول المشايخ، فينصرفن إلى (مسك سيرة) النسوة الغائبات عن المشهد. 
 كانت (طلعة العيد) هذا العام  أول طلعة  على أخي الأصغر( رشدي) الذي لم أصدق أنه مات حتى الآن، في ختام أيام رمضان قمت بلفت انتباه أولادي إلى أنه من الضروري أن نتواجد على قبر أخي جميعا يوم العيد، إنها عادتنا، و لكل بلد عاداتها .. (ومش عايز ولاد عمكم يقولوا علينا إن سكن البنادر نسانا عاداتنا). 
         صلينا فجر يوم العيد في أسيوط، وانطلقنا إلى البلد؛ لنلحق بصلاة العيد في (جامع الشيخ جابر)  ومنه نطلع (الجبابين) مع رجال الأسرة. ولطول الطريق وصلنا القرية قبيل انتهاء تكبيرات العيد بقليل، وأشرت على ابني الذي يقود بنا؛ أن يدخل بالسيارة من (تحت البلد) لندرك الصلاة .. لم أكن مررت بالشارع الرئيس من عشرات السنين.. حتى أنني لم أكد أميز مدخل  الطريق، كانت الدروب أضيق من الخريطة التي في ذهني، أكلت الأعمدة الاسمنتية التي تحمل علب الكبريت الغريبة؛ كل المساحات التي كنت اتنفس من خلالها .. أحسست بالاختناق .. اندهش الأبناء من عصبيتي .. وأنا أوجه ابني الأصغر للاتجاه الصحيح .. بعد لحظات بدأت أشعر بالدوار.. كل علب الكبريت متشابهة لا فرق بين درب  (العيس) ودرب (أولاد عمران)  أو غيرهما .. البنايات القديمة الرائعة اختفت خلف البنايات العشوائية القبيحة التي لا منطق لها ولا طراز .. لم أعد أميز مداخل الدروب .. حتى تنبه ابني الأصغر إلى أننا قد تجاوزنا مدخلنا إلى ( جامع الشيخ جابر)، فنبهني وتوقف ليعود بنا إلى المدخل الصحيح. 
      أدركنا الصلاة. كانت تكبيرات العيد تتصاعد من مكبر الصوت؛ فتفقد إنسانيتها، وتصير صوتا معدنيا خشنا. هتف أحدهم الصلاة جامعة .. وقفنا للصلاة .. وصليت وأنا أستجمع في ذهني تلك الخطبة القصيرة التي كان أحدهم يُنهض بها المصلين لصلاة العيد: ( أيها الناس .. إن يومكم هذا يوم عيد .. وهو مبارك وسعيد .. فضله الله على سائر الليالي والأيام .. وخصه بالملائكة الكرام .. يقفون على أبواب المساجد وأفواه الطريق .. في أيديهم أقلام من ذهب .. وقراطيس من فضة ..وأدوية من ياقوت ..  يكتبون الداخل من أمة محمد.. الأول فالأول  .. والآخر بالآخر..... ) إلى أخر الخطبة المحفوظة من الكتب الصفراء .. للأسف .. ضاعت الخطبة أكلتها غيلان المسلسلات التافهة، وأغاني المهرجانات البذيئة ..  و اختفت تحت الأعمدة الخرسانة؛ وعلب الكبريت التي تضغط على قفصي الصدري، وتكتم مني الأنفاس... 
 انتهت الصلاة .. وحينما خرجت لم أجد معنا من الأسرة غير الابن الأكبر لأخي المتوفي .. سألت ( أحمد رشدي ): ولاد عمك فين ؟ قال مبتسما : ( كانوا سهرانين .. ونامو .. ). انطلقنا بالسيارة وسط حشود الأطفال والنساء والرجال الخارجين من المسجد، وحين وقفنا على الفبر، لم يكن من الأسرة إلا نحن، قرأنا الفاتحة على عجل .. وعدنا إلى السيارة .. قليل من تمكنا من مصافحتهم،  ومن عيدنا عليهم، لم نمكث كثيرا  بالبلد الغريب الذي دخلناه من ساعة .. وعدنا إلى (اسيوط) وأنا أسأل نفسي: تراني أتمكن من تلمس ملامح قريتي مرة أخر ... ؟!! 
 يا له من بلد غريب .. ذلك الذي نبت في حزني ..  بلا جذور ...

مساحة إعلانية