مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

الشاعر والباحث عبد الستار سليم يكتب: فن الواو فى الأغراض الشعرية

2024-08-17 07:55 PM - 
الشاعر والباحث عبد الستار سليم يكتب: فن الواو فى الأغراض الشعرية
الشاعر والباحث عبد الستار سليم
منبر


«فن الواو» نتاج ثقافة خاصة ضاربة فى أعماق الأرض المصرية، ووزنه الشعرى قصير، وقليل المقاطع، فقد تعاطاه الناس وعبروا به عمّا يختلج فى نفوسهم من مشاعر. فعندما نقول إن «فن الواو» جنوبى أو قنائى (نسبة إلى محافظة قنا) فإننا نراعى تعامل المتلقّى لهذا الفن القولى مع المفردة اللغوية،
لفظاً ومعنيً، فطريقة نـُطق الكلمات نطقاًعامياً  - أى اللهجة - تكون أساساً لتحديد الإيقاع فى البيت الشعري، وذلك عندما تختلف مواضع النبـْر  على مقاطع نفس الكلمة، من لهجة إلى أخرى فى قـُرى الجنوب المختلفة ، وعليه فإن الإيقاع فى الشعر الشعبي، يتشكل حسب كيفية نطق الكلمات  فمثلاً يقول صاحب هذه السطور فى أحد المربعات :

فـرّقـْت هـمـّى على  النّاس

مِن مسـْلمــين  وْ  نـصارى

لا اللى فاكرْنى ولا    النـّاس

شاف لى فى هَـمـّى بـصارة

.............................................

فلو نطقنا «واو» العطف متحركة فى عبارة (مسلمين وْ نصاري) فإن الإيقاع سيختلّ، فلا بد أن يُنطق هذا الحرف ساكناً، وكذلك كلمة «الناس» فى عبارة (ولا الناس) وهى هنا معناها «الناسي» - من النسيان - لذا أقول دائما إن جماليات «فن الواو» هى جماليات نُطق وليست كتابة، إذ أن الكتابة الحالية تفكّ جزءاً كبيراً من مغاليق جناساته، فيفقد كثيراً من روعته وبهائه كفن شعبى أصيل، كما أن «فن الواو» من هذه الناحية يُعـدّ مشاركة وجدانية بين القوّال والمتلقي، بمعنى أنه يوجد خيط وهـْـمِى يربط المتلقّى بالقوّال، حتى لا يفوته شئ مما يقال، وهذا التنـبّه يساعد المتلقّى على الوصول إلى فهم معانى الجناسات، وهو يكون سعيداً بذلك.

و«قِنا» ذات شهرة قديمة فى فن الزجل بشكل عام، فقد اشتهرت بالعدد الهائل من الزجـّالين الذين أنجبتهم قديماً وحديثاً، والذين يصل بعضهم منزلة رفيعة فى «فن الواو» مثل «ابن عروس» وغيره، من أبناء قنا، وكان عهد حكم المماليك والأتراك لمصر كله قسوة، وغلظة، وظلماً وجوْراً، وكان الناس فى جنوب مصر يعانون وطأة هذا الظلم، إلى حد أنه إذا ارتدى أحدُهم جِلْبابا جديدا فلا بد أن يُخـتم بخاتم «المُحتسب» بعد دفع ضريبة مالية، فإذا ما اتـّـسخ الجلباب - وطبيعى أن يتـسخ - وتم غسله وامـّحى أثر «ختم المحتسب»، يعاد دفع الضريبة عندما يُختم مرة أخري،
 (وتلك رواية أحد أجدادنا من كبار السن الذين عايشوا هم أو آباؤهم هذا الوضع، أو سمعوه من أجدادهم الأقدمين.)

وفى مثل ذلك المناخ كانت تكثر الشكوى من الزمان، ومن غدر الخلّان، فـنجِد من يقول:

دِنـْيا عـلِــينَا   تـــــربـّت

أنـْظُر     بعـِينـك راعـِيها

شـُوف العـنـْز لمـّا تربـّت

ما نـطـحـت إلّا راعـِيـــها

ونلاحظ هنا الجناس التام بين (علينا تربّت) بمعنى علينا  «تار بايت» أى ثأر قديم، وبين «لما تربّت» من التربية، والتربية هنا بمعنى الرباية، بمعنى تولى شئون المأكل والمشرب والرعاية ، وليس التأديب والتهذيب، والعنز هى المـِعـْزة.

كما قد تنزع النفس بطريقة أو بأخرى إلى الاتـّـــكاء على الحكمة، والميل إلى الفلسفة والتصوّف، فنجد من يقول :

مسكين مِن  يطـْبـُخ الفاس

ويْــــريد مَـرَق من حـديدُه

مسكين من يصْحَبِ النـّاس

ويْــــريـد مـن لا يـــريــدُه

ومن يقول أيضا:

عِـيب الدّهـب فـُصّ ونْحاس

وعِــيب الخـِيُـــول الحـرانَـة

وعـِيب القـبـِيلـة مِن الراس

وعِـــيب الفتـى من لـِسانَـه

……

كما تبرز أحياناً بعض نزعات التمرّد فنجد من يقول :

ولا حـدّ خـالى من الهَمّ

حـتـّى قلـُوع المــراكـِب

إوْعا تُقول للنـّدْل يا عـمّ

لوْ كان ع السّـرْج راكـِــب

و«السرْج» هنا كناية عن الحصان، وإذا سأل سائل ، من الذى كان «على السرج راكب» ؟فالجواب هو الحاكم المملوكي، لأنّ دوابّ الركوب فى الصعيد كانت هى الحمير والإبل، 
وهنا القوّال فيه غمز ، فهو يتـّهم راكب السرج بالندالة، وهذا هو التمرد والاحتجاج
 والعصيان.
كما قد تتفشـّى ظاهرة الزّهد والبعد عن معترك الحياة، إما كرهاً للحياة، أو يأساً منها، فنجد من يقول :

رِزْقـِى وِ   رزْقـَك على   الله

هـُوّ الوحِــــيد اللى.  رازق

ما يـْغـُـرّك المـُلْك والجاه

كـلّ المِــصاحِب مـِفارق

-------

كـِسـْرَة مـِن الزّاد تـِكـْفـِيك

إوْ تـُبـْقـى نـفـْسَك عــفـِيفَة

دا القـبـْر بُكـْرة ها يـِطـْويك

وِ تْــنـام فى جـار الخـلـِيفـة

……

ونظرا لأن هناك وقت فراغ لدى الناس، خصوصاً فى فترة الفيضان، فقد كان الفيضان يغمر الأرض بالماء، و حتى ينتهي، إذ  يتوقف  الزرع والقلْع ، ويصبح لدى الناس وقت طويل، فنجدهم يمارسون ألعابهم الشعبية، مثل «السيجة» و«التحطيب»، وفى الليل ،  المسامرة التى يكون محورها الفنون القولية والأحاجى والألغاز، فكانت من وسائل التسلية الأكثر شيوعاً حينذاك هى «مجالس الواو»، وكانوا يتبارون فى «القوالة».. أقصد قول «فن الواو»، فظهر غرض شعرى جديد من أغراض «فن الواو» هو «الألغاز والأحاجي» ضمن السـّـمـر، يبغون بها التسلية أولا، ثم لشحذ القرائح الذهنية، وتحدى القدرات العقلية وسرعة البديهة فى مجالس السمر، وكان ذلك يتم فى سهراتهم الليلية فى «المنادر» و«الدواوير»، وحول الأجران فى ضوء القمر.

وكانت هذه إضافة حقيقية لأغراض هذا الفن، ومنها على سبيل المثال يقول أحدهم لجليسه :

إن كـُنـْت راجـِل وفـنّـــان

وتـْبـان عـليك الشّـــطـارة

قُول لـِى السـّما  كام فـدّان

وادّيـــك علـــيها أمــــارة
……

فيتململ جليسه، ويشعر أن صاحبه نصب له فـخـّاً، ولكن هل يستسلم؟

بالقطع لا،
 فبعد برهة تحضيرية وجيزة يردّ قائلاً:

صلاة النـّبى تمـْنـع ابـْليس

فــيها الفــايدة والتّــجارة

إسحـبْ قصـبـْتكِ وْ قِيس

ووراك انَـكّـــت حِـجـــارة

فيكيل له الصاع صاعين، ويُفحِـمه بــردِّه، إن كنت تريد منى أن أقيس لك السماء، فهات 
قصبْـتك ( القصَبة التى تقاس بها الأرض) أما (تنكيت الحجارة) فهى عملية وضع حجر - يسمى حجر الحَد - عند نهاية أرض شخص وبداية أرض الآخر بعد قياسها، وتنكيت الحجارة أى دقـّها فى الأرض 

وهذه المجالس الواويّة أظهرت عبقرية «فن الواو» فى إثبات إمكاناته الهائلة فى استيعاب ملحمة «السيرة الهلالية» الصعيدية، أقصد تلك المُصاغة بفن المربعات. أو «الواو».. فمثلاً يقولون عن «الاسْمر سلامة»، وهو «بركات بن رزق بن نايل » أو «أبو زيد الهلالي»:

ولا عايـْمـة  الَّا ما   تـِرْسـِي

وتـيـجى بــرّها   بالسـّلامـة

تـِسْــعـة وتـِسْــعين كٌرسـِي

وقـفُوا  لـ "لاُسـْمـر سـلامـة"
……
ويقول «الزناتى خليفة» أو «خليفة الزناتي» - حاكم تونس -مخاطباً قائد جيوشه «العلّام» عندما شاهد الهلاليين يتوافدون على تونس :

أنـا الزنـاتى مـلِك الغـُرُوب

آتـــوا الرّجـال الهـــــلايـل

وحـامـت النـّسـْر وغـْروب

وأصْــبـح الحمـْل مــايــل

……

ياعـــــلّام عـملْــتـك كــبير

جِــبْــــتـك إمــام للـــوزارة

وانت يـادوب سـبـّال على بير

تِـــمـْلا  قُـلَـل للْــــعـــذاري
……

و«النسر وغروب» تعنى النسور والغربان، عندما شاهدت جثث قتلى المعركة، أمّا عبارة  «سبـّال على بير» فالسبـّال هو من يسـحب الماء من البئر بواسطة " الدلْو "المعلـّق فى 
حبل يسمـّـونه «السـّلـبـة»، ليسقى  الأغراب العطاشَـى من عابرى السبيل.

ولأن «فن الواو» سهل الحفظ، قريب المأخذ، ويجئ عند القوّال المتمكن سلساً منسابا بسيطا ناصعاً خاليا من المفردات الضعيفةوالدخيلة، ومن القوافى القلقة والمقحمة، (وتلك هى عبقرية هذا الفن الشعرى الشعبى ذى الأسلوب الأخاذ، صياغة وألفاظا وتراكيب)، فقد أصبح الكثير من مربعات هذا الفن - إن لم يكن أغلبها - يجرى مجرى الأمثال السائرة التى تجرى على ألسنة البسطاء، يتذكرها الناس. فى شتى المواقف الحياتية المشابهة لمعناها..!!

وقد يكون المربع كله مثلا سائرا ، مثل قولهم:

النّدْل مـيـّت وهُـــوْ   حـيّ

ما حـدّ يـحسـِب  حـِسابـُه

وهـــوّ كالـتْـرْمـُس الــنـّيّ

حـُضـُورُه يشـْبه غيـــابـُه
……

وقد يكون كل شطر فى المربع يصلح لأن يكون مثلاً بمفرده مثل قولهم:

عيب الدّهـب فُـــصّ ونـْحاس

وعـِيب الخـِيـوُل الحَــــرانـة

وعـِيب القـبـِيلـة مِن الراس

وعِيب الفتـى من لـِسانَـه.


من كتاب ( تفانين شعرية )
الصادر عن سلسلة  الشكمجية للنشر والتوزيع 
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تاليف :
الشاعر والباحث / عبد الستار سليم

مساحة إعلانية