مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

جماليات التكرار ودلالاتها في قصيدة العامية

2023-08-24 10:14 PM - 
جماليات التكرار ودلالاتها في قصيدة العامية
الشاعر ابو زيد بيومي
منبر

قراءة في قصيدة "من جنازتي" لـلشاعر "أبو زيد بيومي"

 أ. د هداية مرزق
 من جــنازتي
من جنازتي بَثّ حـيّ
 للنـهار و هـــوّ جَـيّ
 أَيْوَة مـش ممكن أعيشه
 بَـسّ يفــضل هُـوّ حيّ
 بَـسّ يفــضل هُـوّ حيّ 
 ****
 قلبي عُـودُه لسّة عيّل
 يا وطن أوعاك تـِمَـيّل
 مهما فيك الليل يلـيّل
 سِبْتِـلَك من عيـنـي ضيّ
 بَـسّ تفـضل إنت حـيّ
****
سِبْتِـلَك من عيني طَلّة
 شفت بيها بكـرة أحلى
 شُفْت رايتي هِيّ أعـلى 
والوطـن ملهوشي زيّ
 بَـسّ تفــضل إنت حـيّ ـ
 ****
سبتلـك من عيني نورها
من شـراييني .. بـحـورها
من حياتي خُد زهـورها
ما بـخلْت عليك بِشَيّ
بَـسّ تفـضل إنت حـيّ  
****
أَيْـوَة يمكن عمـري راح
قبل ما يشوف الصـباح
 بسّ دمّي فيه بــراح
 يِطْوِي عُمْر الـدنيا طَيّ
 بَـسّ تفــضل إنت حـيّ
 ****
يا وطن طـب إيه فاضلّك
 لمّا ياخـدوا منّي ضِلّـك
 لو صرخت عشان أقولّـك
 صرختي تِكويني كَيّ
 بَـسّ تفـضل إنت حيّ
  ****
 من جنازتي الشمس جاتك
 لو تسـيبها و نورها فاتك
 البــقـية ... في حــياتـك
 ابـقى عَــــزِّي فيك و فِـيّ
 ابـقى عَــــزِّي فيك وفي
                                 ابو زيد بيومي 
 
 
 
           قد يرى البعض أن قصيدة العاميّة لا تقوم على قوانين كتابيّة تعطيها قيمتها كنصّ فنيّ له مقوماته وعناصره الفنية، لكن بعض الإبداع المتميز، يسرق حلم القائمين على وجع قصيدة العامية، ويوزع الجمال على عناصرها وأسطرها منبثقا شامخا من لغتها المنشقة عن الفصحى انشقاقا واهيا، تُوَّقِّعه موسيقاه الأقرب إلى لغة الكلام، وتعبير العامة وروح الإنسان البسيط، دون أن تزعج ذائقة القارئ المثقّف الذي ألف سماع القصائد العمودية والحرة، بلغتها الفصحى وصورها واستعاراتها، التي تتآلف منتجة نسيجا جماليا متميزا، يجعلها نصا موازيا فنيا لنصوص الفصحى، معبرا بقدرة فائقة عن قضايا الواقع، ملامسا شغاف القلب، ومحركا لإحساس القارئ الذي يتفاعل معه، يردده وكأنه كتب له وعنه،  من هنا كان التحول في رؤية القارئ لهذا النوع الإبداعي الذي أسّس لوجوده وبنى جسورا للتواصل بينه وبين المتلقي، الذي يجذبه الجمال والعمق من ناحية، وبينه وبين الأجناس الأدبية من ناحية أخرى، مستمدا منها عناصر جماليّة مكّنته من ولوج ساحة الإبداع باقتدار.
           ولأن التكرار ظاهرة أسلوبية لها مكانتها، كعنصر من العناصر الجماليّة اهتم بها الشعراء، وركزوا من خلالها على حالة أو فكرة أو موقف يعتمده المبدع، معبِّرا من خلاله فنيّا عما يشغل باله من قضايا، وهو تواتر مقصود للفظة أو عبارة أو مقطع ينبه القارئ إلى بؤرة النص المكرر ومركزيّته، حين يشي بحالة نفسية قد تكون صوت الشاعر في ظل ظرف اجتماعي أو سياسي معين، أو هو صوت الجماعة معبرا عن واقع بائس يحتاج الى تغيير، فيحمل التكرار داخله إيقاعا موسيقيا وترنيما دالّا على الألم، معبرا بذلك عن مجموعة من الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما اهتمت به الدراسات الأدبيّة والنقديّة في تناولها لهذه الظاهرة الأسلوبيّة القديمة/الحديثة، وتوقفها عند حمولتها الجماليّة والدلاليّة، بما فيها من مقومات تُهيِّئ النصّ للاستقبال، وتزنه بميزان الإبداع الرصين، بما تمنحه من قيمة فنية تضفي على النصّ الشعري جَرسا خاصا، وديناميكيّة تتحرك من الداخل إلى الخارج، بما ينطوي عليه اللفظ المكرر أو الجملة من دلالة تعمّق الفكرة، وتفعّل القراءة وتفتحها على التأويل، قراءة تتوقف عند جمالية التكرار في القصيدة، ودلالاتها المميزة وهو ما تحاول هذه القراءة الكشف عنه في قصيدة (أبو زيد بيومي) المعنونة(من جنازتي)، وهي إحدى قصائد ديوان (شوية طوب من حلم امبارح)، الصادر عن دار الأدهم، مهتمة بكنه هذه الظاهرة الفنيّة، وأبعادها الجماليّة التي انبنت على التكرار بأشكاله المختلفة ؛ من تكرار الحرف وهو أبسط أنواع التكرار، إلى تكرار الكلمة الذي يُدخل النص في إيقاع صوتي متميّز يلائم الفكرة المعبر عنها، إلى تكرار الجملة وما تضفيه على النص من عمق ودلالات.
           ونظرا لأهمية التكرار في الشعر فقد أفردت له الشاعرة والناقدة نازك الملائكة فصلا في كتابها قضايا الشعر المعاصر، معتبرة التكرار ظاهرة فنية تفرض نفسها على المبدع الذي يستخدمه في الشعر والنثر لتسليط الضوء على فكرة معينة يعنى بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، إذ يساعده في التعبير عما يختلج في نفسه من أحاسيس، وهو تعطي النص قيمته على المستوى الصوتي والتركيبي من خلال الاهتمام بلفظ أو جملة تحرك النص نحو فكرته المحددة، ودلالاته الشعورية والنفسية  ويشكل لحمة في النص تصل أجزاءه ببعضها يوظفه الشاعر لفائدة او هدف يقصده،  وقد قسمته نازك الملائكة إلى ثلاثة أقسام يقع في مقدمتها التكرار البياني أو تكرار التأكيد، وهو الأصل في كل تكرار، ثم تكرار التقسيم، وتكرار اللاشعور .. ونظرا لأهمية هذه الظاهرة الأسلوبية في ربط مفاصل القصيدة، وشد أفكارها إلى بعضها في سياقات منسجمة يتفجر عنها إيقاع داخلي ينبع من النفس الشاعرة معبرا عن خلجاتها / آلامها وأحلامها، فقد ارتأينا في هذه العجالة أن نتناول التكرار دون غيره من المظاهر الفنية من حيث هو عنصر مهم يؤثث لتميز النص بأبعاده المختلفة على المستويين الإيقاعي والدلالي   .
       وإذا كان العنوان هو المدخل الأهم إلى روح النص، وأول عنصر جذب يقابل القارئ، ويوقع به في متاهات النص بحمولاته الدلالية، وهو نقطة مركزية في تموقعه خارج النص كعتبة أولى، تشرف عليه من الأعلى في بنية مستقلة في سياقها اللغوي الذي يفتح للقارئ آفاقا على النص ومضمونه بشكل أو بآخر، فجاء عنوان هذه القصيدة شبه جملة جار ومجرور  "من جنازتي"،  متعلقان بفكرة سابقة هي بؤرة النص ومركزه، وإذا كان السائد في هندسة العنونة هو الجملة الإسمية؛ فإن أول سلطة للنص تقع في خروج العنوان في تركيبته اللغوية عن هذا النسق اللغوي ليتشكل شبه جملة خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو، إذ يحيل الحرف (من) على الإخبار في إطار حيز مكاني يمثل حدثا، أحال عليه السطر الأول من القصيدة في قول الشاعر:
 من جنازتي بَثّ حـيّ 
للنـهار و هـــوّ جَـيّ
 أَيْوَة مـش ممكن أعيشه
 بَـسّ يفــضل هُـوّ حيّ
 بَـسّ يفــضل هُـوّ حيّ
 وكأن الشاعر يقف بعيدا مشيعا جنازته مع المشيعين، ناقلا لأجواء الجنازة وما تحيل عليه من حزن وألم في بث مباشر، قد يكون مسبوقا بسبب الموت، أو التضحية المعنوية من أجل شيء أو موقف، يفرض تعلق الشاعر به تمسكا بمبادئه وتضحيته من أجلها، وهو ما يسم المثقف الثائر على الأوضاع الفاسدة، الواعي بما يحدث في وطنه، ليكون التكرار الأول المحرك لوتيرة النص هو تكرار العنوان في بداية السطر الأول (من جنازتي بث حي) تأكيدا على الحدث، في جملة استهلالية تنطلق منها القصيدة، مع ما للاستهلال من أهمية ودلالة ودور في تفعيل القراءة بوصفه نقطة البدء والمنطلق الأهم في بناء النص، عتبة نصية استراتيجية في تشكيل جسد النص الكلي، " تشتغل على فاعلية التركيز العلامي وتبئيرها في منطقة حيوية مركزة"، فيأتي تكرار جملة العنوان منبها القارئ، محيلا له على التوقف وإعادة النظر في أهمية الحدث وتقدمه، جملة إخبارية (من جنازتي) ارتبطت بضمير المتكلم، مسبوقة بحرف الجر( من) الدال على مكان الحدث المادي والنفسي، إذ أن تركيبة شبه الجملة خبر متقدم على المبتدأ (بثّ حي) مع ما للتقديم والتأخير من دلالة من حيث المتقدم هو الأهم والذي سيترك أثره على القارئ، فيتتبع مساره إلى آخر النص الذي ينطلق من الذات فيما يشبه الإعلان عن خبر هام يظل يلمع في ذهن القارئ، وعنصر جذب يشغله من أول لقاء له مع النص، فيضعه موضع المترقب المتحفز الباحث عن المصدر والموقف المعبر عنه، وإذا بالشاعر يكسر أفق توقعه عندما يعلن عن بث حي لنهار منته لن يعرفه، رابطا بين جنازته وجنازة النهار محققا مفارقة جمالية على مستوى التركيب والدلالة، وإن كان يقدمه على كل شيء لأنه المحمّل بإحساس الشاعر بالفقد والانتهاء، فقد من أجل هدف يجعل منه بعيد التحقيق، هدف لكنه لن يندم أو يأسف عليه لأنه قضى ولم يحقق شيئا، فإن مات هو فإن النهار الرمز سيظل حيا في ذاكرة التاريخ، وهنا ترتفع وتيرة الإحساس إلى ذروتها، ويتوسع عبر تخوم القصيدة متفجرا عبر عبارة تتحول إلى لازمة تتكرر في نهاية كل مقطع من مقاطع القصيدة، تفرض سلطتها فنيا ولغويا ودلاليا عبر علاقات تُعلي من الدفقة الشعورية .
          وكأني بالشاعر يوظف تقنية ترجيع الصدى الذي يصدر عن جملة (بس يفضل هو حي) المنطوية على روح التضحية، وقوة الايحاء برمزية الجنازة المعبرة عن الصوت العام، وما الشاعر إلّا حاملا لشعار (نموت ويحيا الوطن)،من أجل نهار رمزي ينطوي على التغيير نحو الأفضل، مع ما تحمله اللفظتان من التضاد؛ فالجنازة تعبر عن الموت الحقيقي والانتهاء، بينما جنازة النهار تحيل ضمنيا على ولادة وتجدد وحياة أخرى. 
لقد مثل التكرار لجملة العنوان مفتتحا للقصيدة، وعتبة إقفال في مقطعها الأخير، وكلاهما (الاستهلال والخاتمة) يحمل أهمية في تكوين النص الشعري، مع ما للإقفال من قيمة محسوسة في آخر القصيدة، فهي آخر لقاء للقارئ مع بنية مكتملة بلغتها وصورها وإيقاعها، يظل راسخا في ذاكرته بترنيمته الحزينة، وكأنها موسيقى حزن على إيقاع ناي حزين باعتمادها لحروف المد(الالف والياء):     
 من جنازتي الشمس جاتك
 لو تسـيبها و نورها فاتك 
 البــقـية ... في حــياتـك
 ابـقى عَــــزِّي فيك و فِـيّ
 ابـقى عَــــزِّي فيك وفي
محملة بصوت الالم والشجن؛ حروف امتدت عبر مقاطع النص كلها مشكلة سنفونية حزينة وسمت القصيدة بمجملها، وقد دعمتها اللازمة المتكررة عند نهاية كل مقطع من مقاطع القصيدة التي تمثل وقفات زمنية في جسد روح الوطن المعلن عن جنازته المضمرة في نسق الحضور، والمعبر عنها في جملة لازمة (بس يفضل هو حي) أنهى بها الشاعر كل مقطع من مقاطع القصيدة التي تشكل مفاصلها الزمنية التي يتهاوى فيها الوطن، مقاطع تثير حفيظة القارئ من حين لآخر بتغيير بسيط يطرأ على ضمير المتكلم،عبر التفات بسيط بين ضمير  المخاطب (بس تفضل إنت حي) والذي تردد بإيقاع واحد خمس مرات متتالية دون تغيير يذكر، وكأن الشاعر أراد تحويل اهتمام القارئ فأحدث التفاتا على مستوى لازمة المقطع الثاني، والذي امتد في نهاية المقاطع كلها، ليفاجئنا مرة أخرى وقد أنهكه الألم، وحدّ من وتيرة صوته، فتصاعدت الزفرات متقطعة، لتسهم في تشكيل المقطع الأخير الذي يختلف عن المقاطع كله في درجة الإحساس، وحدّة النبر، وفتور الإيقاع، نهاية منطقية ولّدها تصاعد وتيرة الألم، وعودة لفظ الجنازة من جديد تعضده ألفاظ أخرى دالة عليه، وقرائن تقترن به: كالبكاء والعويل والعزاء، وكلها تنتمي إلى حقل دلالي واحد تتناسل من بعضها في قوله   (ابقى عزي فيك وفيّ) التي تأحذ القارئ عبر حالة نفسية من الإحباط الشديد ينعكس على لغة الشاعر في المقطع الأخير، من خلال السطرين الأخيرين بألفاظهما المنبثقة من الأجواء الجنائزية، التي تعيد القارئ إلى بداية النص من خلال تكرار (ابقى عزي فيك وفيّ)؛ سطرين متتاليين يعتبران القفلة الحقيقية للقصيدة، بما ينطويان عليه من ألم وحزن شديد وانكسار فيما يشبه التلاشي او ما عبرت عنه الشاعرة نازك الملائكة بتكرار اللاشعور، وإن لم يلجأ الشاعر إلى هذا النوع من التكرار بشكله الواضح، إلا أن المقطع الأخير يحيل عليه في ضعف وتيرة الايقاع، وتواتر الاصوات الحزينة، فيدخله في باب تكرار اللاشعور، عندما تفقد النفس القدرة على المتابعة والتحدي فتستسلم للامر الواقع .
        هي حالة نفسية في أدنى مستوياتها، وإن لم تكن الجنازة حدث مادي بقدر ما هو حدث معنوي، وإحساس روحي، وحالة ضياع نتيجة عوامل سياسية واجتماعية وثقافية عامة تمارس عملية ضغط على روح الشاعر، يفجرها قصيدة هيمن الحزن والجو الجنائزي فيها على بؤرة الحدث، ليظل الوطن كقيمة مادية ومعنوية هو الوتر الحساس الذي يعزف الشاعر على وتر انكساره بلفظه أو بما يحيل عليه من ألفاظ؛ وقد تكرر لفظه عدة مرات في قول الشاعر :
 (يا وطن اوعاك تميِّل) مرتبطه بحرف النداء بما يشبه المناجاة، أو (الوطن ملهوش زي)، ثم عودة للنداء (يا وطن طب ايه فاضلك)... وغيرها من الألفاظ الدالة عل حب الوطن والتضحية من أجله، والتي سبقت بلفظ (سبتلك) المتكرر بلفظه دلالة على التضحية بقوة وبأغلى ما يمكن أن يضحي به الإنسان في سبيل الوطن : (سِبْتِلك من عيني ضي) (سِبتِلك من عيني ضلة) (سِبتِلك من عيني نورها)؛ مع ما للعين من دلالة وأهمية كعنصر فعال في جسم الانسان ؛ وهي أغلى ما يمكن أن يضحى به ترمز إلى البصر والبصيرة في الآن نفسه؛ بل هي الحياة والتدبر وبعد النظر واتساع الافق، المرتبط بكل الضمائر التي تحيل على الوطن والتحمل من أجله، أو المقاطع الكاملة التي توحي بالتعلق بالوطن والدفاع عنه،  والتألم من اجله كقوله:
  يا وطن طـب إيه فاضلّك
 لمّا ياخـدوا منّي ضِلّـك
 لو صرخت عشان أقولّـك
 صرختي تِكويني كَيّ
 وغيرها من الألفاظ والعبارات والآهات المترددة عبر مساحة النص في جنازة الوطن الشهيد،  التي جعلت من القصيدة نغمات حزن وألم وفقد وموت "ترصد بعلاقاتها مع الكلمات الأخرى ودخولها في تكوين الصور وتكثيف الايحاء "، تحولات على محور النص اللولبي الذي يبدأ وينتهي بانتهاء الإنسان حجر الأساس في بناء الوطن، وفي موته المعنوي المعبر عنه ببالموت والجنازة وما يحيل عليها من ألفاظ العزاء، في مقابل قيمة / الوطن لا بد من التمسك بها والتضحية من أجلها في سبيل إرساء عقيدة ثابتة لا يمكن التنازل عنها، لانها    تمثل الإنسان الوطني في أعلى قيمه (بس تفضل إنت حي)، حتى لو تعلق الامر بمفاضلة بين الإنسان ووطنه، فتعلو كلمة الوطن  والكيان والوجود والانتماء والتجذر الذي عبر عنه تكرار الجملة ؛"  الملمح الأسلوبي الأكثر بروزا" في شعر العامية بصفة عامة، وقصيدة الشاعر ابو زيد بيومي بصفة خاصة، فينشأ عنه التحاما كليا لمفاصل النص؛ "فيدخل في نسيجه لحمة وسدى، ويشد أطرافه بعضها إلى بعض، ويعطي شكله نوعا من الحركة يدور فيها الكلام على نفسه ويتكرر دون أن يعيد معناه" على حد تعبير  منذر عياشي فير كتابه الاسلوبية وتحليل الخطاب، ما يجعلنا نعود على بدء لنسترجع وظائف التكرار، التي نجد من أهمها تنامي النص وترابطه، كما تحقق للإحساس وحدته، رغم تأرجحه بين الخفوت والقوة بإيقاعه الموسيقي العازف على نوتات الحروف والالفاظ والجمل المكررة في علاقتها بمضمون النص ونسيجه الكلي، يحفز القارئ على البحث والتنقيب في أعماق النص، ويفعّل القراءة، وينتج الدلالات التي تصب كلها في الشعور بالإحباط في ظل واقع ميئوس منه، حينما يلفظ الوطن أبناءه ويصعد على أكتافهم لتحقيق ذاته، يمتص قواهم وأحاسيسهم ولا يقدم لهم سوى الضياع والهلاك في سبيل تحقيق هدف واحد يتمثل في رفعة الوطن وبقائه، المعبر عنه بلفظه أو رمزه (الراية المرفوعة ).
        وهكذا يحقق النص العامي جماليته من عناصره الفنية التي ينبني عليها بلغته وصوره وشحناته النفسية، دون أن يكون أدنى فنيا مما يحققه نص الفصحى في لأبعاده الفنية والجمالية والدلالية، بل قد يكون التفاعل معه أشد تأثيرا من طرف المتلقي لقربه من بيئته ومشاركته آلامه ومأساته في انسياب الفاظه المتسارعة من الداخل الى الخارج، في عبارات بسيطة مألوفة بعيدا عن التكلف والبحث في المعاجم عن اللفظ الملائم، وبهذا يحقق الشاعر وجوده تفاعليا، والنص تميزه فنيا مع كل ما ينبني عليه من خصائص تميزه؛ بل وقد يعلو في بعض الأحيان في المحافل والمناسبات على نص الفصحى بنبره المتميز وإيقاعه الجميل . 
 *ا.د هداية مرزق  أستاذة الأدب المعاصر في كلية الآداب واللغات، 
جامعة سطيق 2 - الجزائر 

مساحة إعلانية