مساحة إعلانية
من عادات أهل الإسكندرية في العهد الروماني، اجتماع الأعيان في عيد لهم، يتمازحون ويترامون بكرة من الذهب، وكانوا يعتقدون أن من تسقط هذه الكرة في كُمه لا يموت حتى يملكهم، وفي أحد تلك الأعياد سقطت الكرة في كُم أعرابي غريب عنهم، فأصابهم العجب وقالوا: "ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابي يملكنا؟! هذا ما لا يكون أبدًا."
وقد ذكر جلال الدين السيوطي في كتابه (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)، أن عمرو بن العاص قدم إلى بيت المقدس للتجارة في نفر من قريش، وبينما هو يرعى الإبل في جبالها في يوم قائظ، جاءه شمّاس قد أصابه عطش شديد حتى كاد أن يهلك، فسقاه عمرو حتى ارتوى، ثم نام الشماس في مكان قريب منه، وكانت إلى جواره حفرة خرجت منها حية عظيمة، لكن عمرو رماها بسهم فقتلها، وعندما استيقظ الشماس وأدرك ما حدث، قبّل رأس عمرو وهو يقول: "لقد أحياني الله بك مرتين، مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية." وكان ذلك الشماس قبطيًا قادمًا من الإسكندرية للصلاة في بيت المقدس، ورغب في مكافئة عمرو بن العاص على جميل صنعه معه، وعرض عليه مرافقته إلى الإسكندرية ليمنحه ديتين (ألفي دينار) في رحلة تستغرق شهرًا كاملًا، عشرة أيام في الذهاب ومثلها في العودة، وعشرة يقضيها هناك، فرأي من عمارة مصر ما رأى فأعجبته حتى قال: "ما رأيت مثل مصر قط"، وقد وافقت مدة إقامته في الإسكندرية ذلك العيد، وكان الشماس ذا مال وجاه؛ فألبسه جبة فاخرة وأجلسه إلى جواره بين الأكابر والأعيان، فكانت تلك البشارة الذهبية.
وقع حب مصر في قلب ذلك الأعرابي، وأدرك بفطنته وفراسته قوة ذلك البلد وتقدم حضارته وعظمتها، وتأكد له ذلك بعد اعتناقه الإسلام من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن فضل مصر وأهلها، اختزل ذلك الحب حتى جاءته الفرصة في زيارة الخليفة عمر بن الخطاب للقدس سنة 15 ه، وراح يزين له فتح مصر لتكون عزًا وقوةً للمسلمين قائلًا: "إنّك إن َفَتحتهَا كانت قُوّة للمُسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموَالًا وأعجَزهَا عَنِ القتالِ"، واستطاع أن يحصل من الخليفة على موافقة مشروطة، أن يكتم أمره ويسير إلى مصر بطيئًا حتى يأتيه كتاب الخليفة بالأمر اليقين، اتخذ عمرو بن العاص طريق الساحل نحو مصر، وأدركه رسول الخليفة على مشارف مدينة العريش، فتراخى عمرو عن لقائه حتى دخل المدينة، وسأل رفاقه: "أنحن في الديار المصرية"، وهو أعلمهم بها، فأقروا ذلك، فنادى على رسول الخليفة عمر وتلا رسالته عليهم وفيها (إن أدركك كتابي هذا قبل أن تدخل مصر فأرجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت مصر فأمض لوجهك).
نجح أرطبون العرب في حيلته، وصدقت نبوءة الكرة الذهبية، فقد تم له فتح مصر وولايتها بالاستيلاء على مدينة الإسكندرية -عاصمة الروم- في سنة 21ه.
كان عمرو بن العاص محبًا لمصر وأهلها، وقد أدرك بفطنته طباعهم وعرف مكمن الخير فيهم ومصدر الشر منهم، فبدأ عهده بكتاب إلى أقباط مصر يقول فيه: (الموضع الذي فيه بنيامين بطريك النصارى القبط، له العهد والأمان والسلام، فليحضر آمنًا مطمئنًا، ليدبر شعبه وكنائسه)، وكان البطريك بنيامين قد اختفى أيام هرقل خوفًا من بطشه، ففرح بذلك العهد وعاد إلى الإسكندرية بعد غيبة ثلاث عشرة سنة، وأعاده عمرو بن العاص إلى منصبه معزّزًا مكرّمًا وعزل البطريك الذي ولاه هرقل، وفرح أهل مصر بذلك كثيرًا.
اهتم عمرو بن العاص بشئون البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فنظّم البلاد وقسّمها قطاعات يحكمها الأقباط، شق الترع ومهد الطرق وشيد الجسور، وفرض الخراج بالعدل وربطه بوفاء النيل وإنتاجية الأرض، وكان يقسطه للمتعثرين أو يتجاوز عنهم، فنمت البلاد وازدهرت وآتت خراجًا طيبًا. وفي سنة 24 ه أمره الخليفة عثمان بن عفان بترك خراج مصر لعبد الله بن أبي السرح، ويتبقى له قيادة الجيش والإمارة، فرفض عمرو بن العاص قائلًا: (إذن، فأنا كماسك قرني البقرة، وآخر يحلبها)، فعزله عثمان بن عفان وولى عبد الله بن أبي السرح مكانه، وعاد عمرو بن العاص إلى المدينة غاضبًا وحزينًا.
شقّ ابن أبي السرح على أهل مصر، وجمع منهم خراجًا عظيمًا يفوق ما كان يجمعه عمرو بكثير، فاستدعى عثمان بن عفان عمرو بن العاص إليه وقال له: "لقد درت اللقحة من بعدك يا عمرو" (اللقحة هي الناقة الحلوب غزيرة اللبن)، فأجابه عمرو حزينًا: "لكنكم أجحفتم فصالها" (أي ظلمتم أبنائها).
فقد كانوا يرونها ناقة حلوب، وكان عمرو يراها قوة تعدل بلاد المسلمين كافة، وهو القائل: (ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة).
ثم تمر الأيام وتحدث الفتنة الكبرى بين معاوية وعلي، ويعود عمرو بن العاص إلى مصر مرة أخرى، على رأس جيش معاوية لينتزع ولايتها من يد واليها محمد بن أبي بكر –ولاه عليها علي بن أبي طالب- سنة 38 ه، وتحققت النبوءة الذهبية مرة أخرى، وتولى ذلك الأعرابي حكم مصر، وظل بها حتى وافته المنية ودفن في ترابها الطاهر في جبّانة المقطم سنة 43 ه.
