مساحة إعلانية
محمود رمضان الطهطاوي
بداءة نلفت النظر أن الكاتب بروايته الثانية " يوميات معاون محطة " الصادرة في طبعتها الأولى 2023م عن دار رنة بالقاهرة ، والتي صدرت بعد روايته الأولى " الصراع " في نفس العام ، يؤكد الكاتب حضوره ودخوله في عالم السرد الروائي بأقدام ثابتة . وكما ذكرت في رؤيتي عن روايته الأولى " الصراع " وقلت " يقف السارد محمد خطاب إبراهيم على أبواب السرد ويدلف من أبوابه الواسعة إلى عالم الرواية ، بروايته القصيرة " الصراع " الصادرة عن دار وعد 2023م ،مؤكدا قدرته على السرد الماتع بحبكة ماهرة تؤكد موهبته" . وتأتي روايته الثانية" يوميات معاون محطة " لتؤكد بصمته في عالم السرد ،ودنيا الرواية الواسعة التي أكدت حضورها ومازالت نشطة في زمنها الذي تمرح فيه وتتقدم على سائر الفنون بقدرتها الفائقة على احتواء كل أنواع الفنون وتوظيفها في بنائها وجوهرها .

والقارئ للرواية الثانية سيجد تطورا كبيرا في أدوات الكاتب ، فجاءت الرواية الثانية في فصلين ، بعد أن كتب الراوي الأولى في دفقة إبداعية واحدة دون أي فواصل ، وتخلص الكاتب من أخطاء التجربة الأولى ، وهذا لا يقلل من التجربة الأولى البكر ، بل هو الطبيعي لأي كاتب . دعونا ندلف إلى " يوميات معاون محطة" ونعيش مع التجربة الثانية للكاتب وبالتأكيد سيتبعها تجارب أخرى عديدة ، فالكاتب يمتلك مخزون إنساني وتجارب حياتية تعزز تجاربه ليواصل رحلة العطاء في عالم الرواية الأثير ، وكما قالوا " من ذاق عرف" ومن يخوض التجربة لا يستطيع التوقف فلكتابة العمل الروائي لذة وإن كانت منهكة وتحتاج لصبر وعزيمة .
مفاتيح الرواية

أو كما يقال بوابات الرواية ، أو عتبات النص وهي الغلاف ، عنوان الرواية ، مقدمة ، إهداء .
1- الغلاف : جاء الغلاف بلون أزرق محاط بهالات سوداء ، يتوسطه قطار بجرار عتيق ، له مدلولاته في متن الرواية ، ومن أعلى الغلاف يمينا يطل وجه فتاة بنظرة باسمة حالمة ووجه مشرق وسط هذا الليل ، يقابله في شمال الغلاف قمر مكتمل . والغلاف يعبر عن المحتوى والمتن كما سنرى ونحن ندلف في دهاليز الرواية ، وإن كان اختيار المؤلف فهو وفق في الاختيار ،وإن كان من اختيار الناشر فقد اجادوا قراءة العمل والتعبير عنه بلوحة ضامة ومعبرة .
2- عنوان الرواية : " يوميات معاون محطة " والذي يدخلنا في معترك الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية ،وإن كان الكاتب يؤكد ضمنيا على غلاف الرواية أن العمل المقدم "رواية" ولكن تأتي مفردة" يوميات " لتدخلنا في صراع التداخل والتعانق بين الأجناس ،وإن كان الكاتب سيوهمنا فيما بعد أن العمل هو بالفعل يوميات كما يذكر في المقدمة .
3-مقدمة : أكد فيها الرواي كما يقول بالحرف " مضمون الأحداث التي تدور حولها الرواية (يوميات معاون محطة ) قد حدثت بالفعل وتم تدوينها بالمذكرات آنذاك ، ووضعت بأدراج النسيان وتراكمت عليها أعباء الحياة ومشاكلها، مما جعل عليها جبلا يحجبها عن النور وعن الحياة ..وعندما شاءت الأقدار وأزاحت عنها ذاك الجبل، بدأت تتنفس النسيم العليل ،يدب بـأوصالها الدفء بأول شعاع لنور الأمل ، فدبت بها الحياة " . ونحن سنعتبر هذه المقدمة ضمن فنيات الرواية ومن خلالها يحاول الراوي إيهامنا بأن الأحداث حقيقية وهي ثيمة من ثيمات مطروقة في الرواية . وكما ذُكر " أن الرواية ليست متخيلاً يسترفد من متخيلات أخرى، ويتصادي معها، وإنما هي ايضا نص يؤلفه الروائي ، مستندا في ذلك إلى رؤيته للواقع، كما زعم أصحاب نظرية الانعكاس، إنها إبداع فني قبل كل شيء يشكل فيه المرجعي الواقعي مدلولا " ص 10 شعرية الرواية، فانسون جوف، ترجمة وتقديم لحسن أحمامة ، دار التكوين – سوريا ، الطبعة الأولى 2012م.
4- الإهداء : المحطة الرابعة من بوابات الرواية قبل الدخول في متن الرواية وأحداثها هو " الإهداء " ويقول فيه : "بالرغم من سنوات عمري الطويلة ، التي أفنيتها بعملي كمعاون وناظر محطة بهيئة السكك الحديدية، وبرغم المُعاناة والمشقة اللتين تكبدتهما بتلك الوظيفة، والمسئولية الجسيمة التي ألقيت على كاهلي لسنوات العمر .. والأمر المثير للعجب أنني لم أنسجم معه ،ودائما ما كنت ناقما عليه ،وما أكثر محاولاتي للإفلات من شباكه، ولكن – والحمد لله – جميعا باءت بالفشل، فأسلمت أمري لله .. دون محبة لطبيعة عملي " .
ويضيف قائلا :" فيشاء المولى – عز وجل – أن يكون عملي بخلاف إنه مصدر الرزق أن يكون مصدر إلهامي ، ونافذتي الأولى التي أطللتً من خلالها إلى عالم أعشقه منذ الصغر، ولكن لم تؤتِ ثماره إلا بعد رحلة طويلة بالعمل .
ألا وهو عالم الأدب والأدباء، فأنجبتً فتاتين لم ينجبهما رَحم زوجتي ،بل أنجبهما رحم الأدب والإبداع، رواية " الصراع " وروايتي الثانية التي نحن بصددها "يوميات معاون محطة "
لذا آثرت أن يكون إهدائي فريدا وربما يكون هو الأول من نوعه حيث أهدي روايتي تلك لعملي الوظيفي بالسكة الحديد ، كما أهديها – أيضا- لكل من شجعني، وحفزني، وساندني ". ونقلي للإهداء إلا قليلا منه رغم طوله عن قصدية ، فالكاتب هنا في الإهداء يبدي تزمره من عمله وعدم انسجامه معه ، ولكن يهديه عمله لأنه منحه تلك المادة التي نسجت ما يحب ويعشق ، فتغلب ما بداخله من عشق للكتابة على وظيفته التي يتعايش منها ولا ينسجم معها ،ولآنها منحته هذا الثراء ليواصل رحلة عشق الكتابة فيتصالح معها ويهديها بعض ما أعطته .
إهداء يفتح مسامات التأويل ويفتح طريق الأسئلة الشائكة والمتشابكة ، هل لو كان الكاتب منسجما مع عمله ومحبا له ، هل كان سيمنحنا هذا الإبداع ؟ .
لنترك " توفيق الحكيم " يجيب على هذه الأسئلة فيذكر في مقدمة كتابه " يوميات نائب في الأرياف " ويقول :" لماذا أدون حياتي في يوميات؟ ألأنها حياة هنيّة ؟ كلا إن صاحب الحياة الهنية لا يدونها ، إنما يحياها . إني أعيش مع الجريمة في أصفاد واحدة ، إنها رفيقي وزوجي أطالع وجهها في كل يوم ، ولا أستطيع أن أحادثها على انفراد ، هنا في هذه اليوميات أملك الكلام عنها ، وعن نفسي ، وعن الكائنات جميعا ، أيتها الصفحات التي لن تنشر! ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق!.. " .
وها هو محمد خطاب إبراهيم يخرج لنا من هذا العراك الكامن بداخله بين عمل مفروض من أجل لقمة العيش ،وموهبة منحها الله له تمور وتفور وتغلي وتتمرد لتخرج لنا من عمق هذا البركان هذا الجمال ، ليخلق لنا عوالم تعيش معنا وتعيش فينا من خلال روايتيه " الصراع "و " يوميات معاون محطة" .
أحداث الرواية
يقسم الراوي الرواية إلى فصلين ، الفصل الأول تدور أحداثه في ليلة واحدة، والفصل الثاني تدور أحداثه في ليلة ونصف نهار تقريبا ، أي أن أحداث الرواية تدور في ليلتين وبضع نهار .
في الفصل الأول تدور أحداثه في ليلة من ليالي شهر ديسمبر 1992م على محطة" بنجا" إحدى القرى التابعة لمدينة طهطا مسقط رأس البطل والراوي ومقر إقامته ، وهو معاون المحطة الذي لم يتم عامه الثاني بعد في وظيفته ، خلال هذه الليلة تدور احداث غير متوقعة يغيب زميله " محمود" عن العمل بسبب مرضه المفاجئ ، يتأخر الغفيران النظامين عن موعدهما ، وعند حضورهما مجهدين من فرح بالقرية ، يغالبهما النوم ، وهو الذي يقاوم النوم وسط هذا الجو الكابوسي الذي يعيشه على محطة بعيدة عن العمران ، وتحدث في هذه الليلة جريمة قتل ويعثر على جثة قريبة من المزلقان ، يحاول بكل الطرق التغطية على غياب صديقه متحملا المسئولية الجسيمة .
رغم أن الحيز الزمني في هذا الفصل ليلة واحدة إلا إن الاسترجاع يمدد الزمن ، ويسبح في براح الذكريات ، فستدعي علاقته ببائعة السمك أحدى رواد المحطة ، والتي توطدت علاقته بها وأصبحت حبه الأول الذي لم يكتمل .
في الفصل الثاني ، والذي تدور أحداثه بعد فترة من نقله لإحدى المحطات المركزية ، ويركز الفصل على حكاية البنت الصغيرة الذي يكتشف إنها هاربة من أهلها وتريد السفر ، وتدور الأحداث والصراع بينه وبين نفسه ومن حوله ليقرر إنقاذ البنت وإعادتها إلى أهلها رغم كل ما واجهه من صعاب وينجح في ذلك .
هذا مجمل فكرة الرواية وما يدور من خلالها من تفاصيل وأحداث كابوسي، يجعلنا نلاحق الأحداث ونعيشها وننغمس فيها ولا نستطيع الفكاك منها بهذا البناء المحكم والمتسارع الذي يدفعنا لمواصلة القراءة حتى النهاية.
وسندلف في التفاصيل أثناء الغوص في الأحداث .
شعرية السرد
رغم الجو الكابوسي الذي نعيشه مع الراوي من أحداث على محطتي السكة الحديد سواء في القرية النائية في الفصل الأول أو في المدينة في الفصل الثاني ، فالأحداث مليئة بالجريمة والعفاريت والكوابيس ،وبأنماط من المجتمع تتلصص وتريد أن تفترس كالذئاب ، وسط هذا الجو الكابوسي ، نجد الراوي / البطل / السارد ، لا يتخلى عن طبيعته الإنسانية الحالمة ، فـتأتي لغته شاعريه وهو يعيش أحلك الظروف وأقساها . فنجد اللغة الشاعرة تسيطر على المشهد ، وتمرح اللغة الشاعرية في عمق الرواية وكأنها تحاول ترطيب المشهد وقساوته ،أو ربما طبيعة الراوي الحالمة . فنجد الفصل الأول يبدأ بقوله : " إنها إحدى الورديات الليلية ، بليل شتاء شهر ديسمبر عام (1992) الذي يُلملمُ أوراقه ويجمع حقائبه ، كالمسافر الذي لا يعلمُ إلى أين سيذهب بما تحتويه حقائبهُ المكدسة بالأحداث ، التي لم أكن أعهدها من قبل " .مدخل مضفر بالشاعرية ، مدجج بعلامات الاستفهام ، التي تدفع المروي له يتشوق لمعرفة ما يروى له ، والراوي الناجح هو الذي يضعنا أمام بداية جاذبة .
هنا الراوي / البطل ، يضعنا أمام بداية مثبتة بالعنصر الزمني ولكن مغلفة بالأسئلة التي تحرك مشاعر وذهنية القارئ/ المتلقي ،وتدفعه للإبحار لمعرفة الإجابة المعلقة. ولا يتركنا الراوي كثيرا ، بل يدخلنا معه على الفور معترك حياته ، باسطا بوحه ويومياته فيقول " فها هو عامي الثاني بالعمل ( بالسكة الحديد ) يوشك أن ينتهي بما له وما عليه " . تأتي هنا "فاء" استئنافية مع "هاء" التنبيه يليها "هو" الضمير المنفصل العائد على العام ، لينشط الذاكرة وكأداة تنبيه لما سيحدث لاحقا من أحداث ، وسرعان ما يدخلنا في صراعه مع قيد الوظيفة الذي لم يكمل فيها عامه الثاني بعد ، وحياة الحرية قبل هذا القيد ، وعشقه ليالي الشتاء ،وشتان بين ليل الشتاء مع " الورديات الليلية من معاناة ،ومشقة، ومفاجآت " كما يذكر ، وليالي الشتاء والسهر مع الأصدقاء والرفاق بدون تقييد أوتحمل مسئولية ، برفقة الأغنية الشهيرة لأم كلثوم " أقبل الليل " . وكما يذكر " أما اليوم اصبحت أحمل على كاهلي حِملاً ثقيلاً، أحمل مسئولية خطيرة؛ حيث قطارات ، أرواح آدمية وغيرها .. وبالرغم من اختلاف اليوم عن الأمس إلا أنني ما زلتُ أعشق ليل الشتاء ، ليالي السهر ،ولكن اختلف المذاق، اختلف المكان ، اختلف الرفقاء ،ولم تختلف ( أقبل الليل ) برغم الآلام لهجر الأصدقاء؛ فقد أبعدتني الورديات ،وأنستني حياة الأمس ، فمع اقتراب موعد الورديات الليلية ، أجد بداخلي شعورا غريبا ، شعور ممزوج بحبي وعشقي لليالي ( أقبل الليل ) بشي من الخوف والقلق لِمَ تحمله الورديات من مفاجآت غير سارة " ص 12
هذه المقارنة التي تمور بداخل البطل / الراوي رغم كل ما تحمله من صراع نفسي ، إلا إنها تتمسك بوميض الشاعرية ، عشق الليل ، غناء أم كلثوم، سهر الليالي . نجد الرواي ترافقه اللغة الشاعرية وهو يمارس عمله ، يصف ما يحدث معه وما يقوم به ، ما يراه حوله ، يسجل بدقة كما تقتضي وظيفته كناظر محطة أو معاون أي خطأ قد يودي بكارثة، ويوميات سارد تتطلب تأريخ ، فنجده يسجل الأحداث بالساعة والدقيقة فيذكر على سبيل المثال وهذا المثل يتكرر كثيرا في البناء السردي فيقول " في تمام الساعة السابعة وعشر دقائق انطلق صوت صافرة قاطرة القطار ،ومعها انطلق قطار الركاب (القشاش) من بين أحضان محطة طهطا يشق الريح بسرعته وماهي إلا لحظات قليلة إلا وكان قد انطلق تاركا وراءه مدينة طهطا بأضوائها وضجيجها ،وأخذ يشق ظلام تلك المسافة التي لا تتجاوز الخمسة كيلو مترات ما بين محطتي طهطا وبنجا يؤنس وحشتها وظلمتها بصوت صافراته العالية المتتالية ،وأنوار عرباته الخافتة ،وكذا صوت التكتكة الناتج عن مسير العجلات على القضبان والفلنكات " ص 12
صورة متخمة بالشاعرية وهي تصف بدقة مشهد القطار الذي مر بسرعة من أمامه وهو يراقبه على المحطة، إنها قدرة الراوي على الوصف، متسلحا بالشاعرية التي تعطي الحدث مذاقا خاصا ،وتضيف له الكثير من الثراء .
أي كاتب لم يعايش هذه اللحظة كما عاشاها الراوي سيصفها في جملة أو أثنين ،ولكن أن يتم وصفه كما وصفه هنا الراوي ، فهذا يحتاج لمعايشة ، وليس كل كاتب قادر على الابتكار من العدم فهذا يحتاج لمران ودربة لذا جاءت " النصيحة الذهبية التي يقدمها الروائيون الكبار لأقرانهم المبتدئين في الغالب ، هي أن يكتبوا عن الأشياء التي يعرفون عنها أكثر من غيرها، وهذا يعني أن يقتربوا من تجاربهم التي يمثلوها ، ومشاهد الحياة التي خبروها "أي أن يكتبوا عن حيواتهم وعصرهم ،الناس الذين عاشوا معهم ، ولهذا نرى أن الأعمال الروائية الخالدة هي تلك التي كانت في جوانب منها سيرا لأصحابها ، أو شذرات من هذه السير " ص 77 سعد محمد رحيم " سحر السحر – دراسات في الفنون السردية ( الرواية – السرة والسيرة الذاتية) دار نينوي للدراسات والنشر والتوزيع – دمشق – سوريا- 2014م -21435هـ .
ويواصل الرواي السرد وهو جالس في القطار الذي استقله ذاهبا إلى عمله من محطة طهطا إلى محطة بنجا وهو يصف بشاعرية المشهد " أخذت أنظر من النافذة أتأمل تلك الأشباح مترامية الأطراف بالحقول والمزارع بجانبي السكة الحديد ، تلك الأشجار وعيدان الزرع التي تترنح من ضربات الهواء ، القريب منها يبدو كمن يرتدي ثوبا أخضر باهت يكاد لا يظهر مع انعكاس أشعة أنوار عربة القطار الخافتة المنفلتة عبر النافذة. دبَّ بجسمي خمول بسيط ينمي عن رغبة بالنعاس نتيجة ما نلته من إجهاد وتعب طيلة النهار، ولما شعرتُ به من خدر عندما لفحت وجهي نسمات هواء باردة، كنت أشعر كأنني أمتطي ظهر قارب صيد يشق قلب النهر حيث انعكاس ضوء القمر على صفحتي الترعتين اللتين تجريان مع القطار بسباقٍ طويل بجانبي شريط السكة الحديد " ص 13
يمضي الوقت سريعا فالمسافة بين طهطا وبنجا صغيرة لا تتعدى بضع كيلومترات ، ويقترب من محطة الوصول ويصف الراوي المشهد بلغته الشاعرة وهو يستعد النزول " ارتفع صوت صرير عجلات القطار زفرة مشبعة بالدخان الأسود مع رباط الفرامل بالقاطرة هذا الصوت الذي أشبه بلحن مميز ثابت لا يتغير بتغير المكان والزمان " ص 13
ويتوقف القطار في موعده المحدد تماما
لتبدا الوردية بهذا التوتر الذي يرافق محمد أفندي من بداية الوردية حتى نهايتها .
وتبدأ الوحدة تحاصره في غياب الونس ، والنعاس يلاحقه ، وعمله يحتاج ليقظة ودقة ، أي غفوة قد تحدث خلالها كارثة ، وسط هذا الجو الكابوسي لا تغيب اللغة الشاعرية .
دخل مكتبة ، وجلس بعد أن وضع متعلقاته في أماكنها من طعام وبالطو وغيره، من التعب والإرهاق ذهب في غفوة ولكن كما يسرد " الهدوء والسكون الرهيب جعل النوم يظفر بجفوني، وفجأة كِدتُ أطير من فوق مقعدي عندما دوَّت أصوات الأجهزة معلنة قرب قدوم قطار الثامنة " ص 20
تم التعامل مع الأجهزة ومر القطار بسلام وتذكر محمود وتمنى أن يأتي ليستريح قليلا ، وهو ذاهب إلى مكتبه بعد مرور قطار الثامنة ، تذكر أن هذا المكتب كان استراحة سيدات ، ولكن لم تدخله سيدة من قبل ، حتى رواد المحطة من النساء كما يذكر الراوي " فلم يحظ هذا المكان بسيدة واحدة ، فكان لا يعرف من السيدات سواء الاسم فقط خلال الثلاث سنوات التي قضيتها هنا بتلك المحطة ، لم تر عيني خلالهم سوى فتاتين " ص 21
ويصفهما لنا بالتفصيل، وهو مولع بالوصف الدقيق ، ولكن يتوقف عند الثانية وهي بائعة سمك تأتي من القرية المجاورة، وعلاقتها طيبة مع كل من يعمل بالمحطة ، ويلفت نظره زميله محمود بأنها تنظر له ، وهوكان لا يلتف لها ولا يجد فيها ما يلفت النظر ، ولكن سرعان ما تتغير النظرة ، وتنشأ بينهم علاقة يرسمها الكاتب بمهارة وفنية ، وتبرز شاعرتيه وهو يصفها بعد أن رأى فيها فيها فتاة أحلامه رغم يقينه أن أسرته لم توافق على هذا الزواج.
وقدم قدم لنا الراوي لوحة فنية مبدعة في وصف الفتاة ، بخلاف وصفها قبل أن يقع في غرامها ،الأمر الذي يستدعي المثل العامي " مراية الحب عمياء" .
يقول الراوي "بدأت عيني ترى فتاة أخرى، فتاة أكاد أشك أنني قد رأيتُها من قبل ، الوجه الذي كنت أظن أن الماء لا يقربه ،وأحرقته الشمس، وكسته سمره، وجعلته أقرب لوجوه الرجال ولم يكن يجذبني إليه وقد أصبح نضرا، مشرقا كالشمس لا محترقا بها، بل هو الذي أصبح مُحرقا لمن حاول إطالة النظر إليه ..." ص 23
ويسترسل في وصفها جمالها من أعلاها إلى أدانها بلغة شاعرية وبتفصيل العاشق . يدخل مكتبه ليحضر راديو الترانزستور ولا ينسى أن يذكرنا بأنه كان بديل المحمول في الوقت الحاضر ، فهو مولع بتلك المقارنة طوال رحلة اليوميات / السرد . يضع الراديو أمام المكتب بعد ضبطه على إذاعة القرآن الكريم ، ولكن النعاس بدأ يداعب جفونه ، فهم بالخروج فإذا به يرى عقربا يقف بمقدمة الحذاء ، يسحقه ويؤكد أن مثل هذه المخلوقات في هذا المكان كثيرة . وخرج على الرصيف في هذا الجو الكابوسي ترافقه اللغة الشاعرية التي ترى الجمال وسط هذا التوتر ،يقول : " أخذتُ أذرع الرصيف جيئةً وذهباً بخطوات بطيئة مستمتعا بنسمات هواء الليل الرطب المُنعش قبل أن ينزل الصقيع بعد سويعات قليلة.. أخذتُ أجولُ بناظري هنا وهناك أتأمل صفحتي الترعتين الكائنتين بجانبي شريط السكة الحديد، وهما تتلألآن على ضوء القمر، والنجوم البازغة، وعلى حافتيهما عيدان الغاب ونبات الحلفا الكثيفة الطويلة، التي تهتز وتتمايل كأنها أشباح بقلب الظلام ، تكسوها خيمة من ضباب أشعة الضوء الصفر، الخافت، الشاحب، المُنبعث من مصابيح أعمدة الإنارة التي تحتضر .. عندما يداعبها النسيم فتبعثُ بقلبي الخوف " ص 26
وهو يتأمل هذا المنظر بشعريته الباذخة ، فجأة يرى سيارة قادمة ، يمور بداخله عراك بين إنسانيته تجاه زميله محمود ، وحرصه على وظيفته التي لا تكفي لقسط صاحب ورشة الموبيليا الذي يجهز له غرفة النوم بالقسط ، وتقف الأسئلة القلقة ماذا يحدث لو كان في السيارة القادمة لجنة تفتيش بالتأكيد سيتحول للتحقيق و... وسط هذا الصراع الذي اخذ من الزمن لحظات وكأنها عمر يكتشف بأن من بالعربة زميله مع قريب له ،وهو يرتدي ملابس غير ملابس العمل وتظهر على ملامحه علامات المرض ،ورجاه صديقه أن يتحمل العمل بدونه ، ولم يستطع إلا الموافقة . وبدأ السكون يخيم على المكان مرة أخرى، وعاوده النعاس مرة أخرى مع المفاجآت المتتالية التي تشعل التوتر فيقول :" أخذ النُعاس يُداعب أجفاني مع الهدوء المُمِل عادَ إلى نفسي هجوعها ،وما لبثتُ حتى أفيقُ فزِعاً مرة أخرى ،وقد طار النعاس من عيني كما تطيرُ الخفافيش من أعشاشها مع ظهور الضوء على إثر ها الصوت الأجش ، الخشن، الجهور الذي يدوي صداهُ بالليل الساكن .. إنه عم عباس ( الدرويش )كما يطلقون عليه " ً 29
وهكذا يواصل الراوي الحبكة من حدث لحدث في نفس المكان، الفضاء الروائي الذي تدور فيه الأحداث فمن المتعارف عليه أن عناصر الرواية تتشكل من عدة عناصر " الزمن – المكان – الشخصيات- اللغة – الحدث " .
والمكان أو كما يطلق عليه البعض الفضاء الروائي " جماليته يستقيها من الحبكة ودينامية الأحداث ، والشخصيات المركزية في الرواية، ويثير المكان خيال الروائي في نسج القصة وتطورها، إثر تفاعلات وصراعات تذهب الرواية إلى حيث يدري الراوي ، ومن المكان تُعاد بناء الفكرة ، وتتابع الصور والتخمينيات، وإعادة بناء الذات في وعي الذات بذاتها، وبالعالم الخارجي الذي يتفنَّن في تصويره وإعادة تشكيله وفق المأمول من أهداف الراوائي " ص 13 أحمد شحميط" المكان الضائع في سرديات الرواية الافريقية "الناشر مؤسسة هنداوي 2021م.
وهذا ما ينسجه صاحب اليوميات/ الراوي بحرفية ، فنجد الفضاء الروائي مشبع بالأحداث المتتالية التي تقبض على الحبكة بلغة شعرية وسط جو كابوسي بوليسي تتوتر في الشخصيات في زمن محكم يمدده الرواي عبر الزمكان ويمرح في الفضاء الروائي الرحب مستخدما الاسترجاع وسيلة . يخرج الراوي من غرفته ، ليصطدم بعم عباس الدرويش ، تلك المعضلة التي تواجهنا في معظم الأعمال الروائية لابد من وجود عبيط القرية أو درويشها ،وكأنه ثيمة وسمة من سمات القرية لا تكتمل الحكاية وإلا بوجوده . وهذه مجرد خربشة لا مجال لمناقشتها هنا ، ربما نفرد لها دراسة خاصة . المهم نجد الدرويش يفعل كالعادة حركات لا إرادية بين تهتهة وقهقهة ومناوشة للراوي حتى يتركه ويغادر ، في ذات الوقت بدأ النوم في المراودة وسرعان ما يتذكر أو كما يقول : " انصرف عباس وهو يودعني بنظراته ،ويؤمئ برأسه عدة مرات، وقد أخذ الخمول يدب بجسمي لعدما أخذ عاس معه الونس ، تاركا لي الصمت والسكون وليلا طويلا " ص 30
بمجرد مغادرة عباس تذكر عدم وجود أحد من الخفراء النظاميين ، وبعد قيامه بتبادل الإشارات لمرور قطار الحادية عشرة ، يخرج من المكتب لاستنشاق الهواء وتجديد النشاط يشاهد خيالا أقرب للشبح في الرصيف المقابل وظنه عفريتا وعندما وجده يصلي يطمئن ويعود لعمله ولكن المفاجآت لا تنتهي فمجرد مرور القطار بالمحطة تأتيه المفاجأة التالية التي تواصل كابوسية الليلة فبين انشغاله بالشبح الموجود على الرصيف المقابل وانتظاره للقطار الذي مر بسرعة وبمجرد أن يدير جسمه يفاجئه صوت خشن جهور يسأله عن عدم وقوف القطار ، يرسم هذه الحالة الكابوسية التي تواصل توتر الوردية قائلا "وما إن التفت خلفي حتى تجمد الدم بعروقي ودبَّ الذعر في أوصالي ، إذ بصاحب الصوت الخشن الجهوري، إذ بالكومةِ التي بجوار الحائط ليست بتخيُل إنما هي عبارة عن رجل يرتدي جلباب كحلي غامق أقرب للون السود ، يبدو عليه أنه طويل القامة ذو وجه مستطيل ضخم بملامح تبعث الاشمئزاز بالصدور ، انتابني إحساس أنه الشبح الذي رأيته منذ دقائق بالرصيف الآخر ، يجلس القرفصاء وبجواره فتاة بذات الجلسة ، لم أدرك مدى جمالها ونضارتها للوهلة الأولى ؛ لِمَ أصابني جراء صدمة الموقف، أخذتُ ألتقط أنفاسي ، أجمعُ شتاتي عندما انتصبت القامة الطويلة كالشُراع بجواره تقف فتاة ريفية ، عشرينية، فائقة الجمال ، وجه قمري أضاء ظلمة الليل ومحا ظلمة الأحداث التي مرت بي " ص 33
يختلط المشهد الكابوسي باللغة الشاعرة ليخرج هذا المزيج من السرد الذي يشعل بناء الرواية ومعمارها ويضيف للحدث عنصر التشويق الذي يلازم الحبكة من بداية الرواية . يذهب الرجل والفتاة للرصيف المقابل في انتظار القطار القادم ولكن اللحظات الكابوسية تواصل حضورها وقبل أن يغادر الرصيف يلتفتا ويسأله الرجل لماذا يترك زميله يتوجع في الغرفة ويدور بنهما حوار يربكه وينتشله منه عمله فيتوجه للمكتب استعدادا للقطار القادم الذي سيقف على المحطة ، ويركب الرجل والفتاة القطار وقبل أن يغادر يقذفه بكلمات مربكة يقف أمامها صامتا لا يستطيع الرد وهو يقول له :
- ما هو زميلك واقف وراك أهوا بتكدب علينا ؟
- .........
- مش عيب عليك يابني تكدب على الشيبة ديه.
- ............
- معلهش يابا الأفندية الشباب يحبوا يهزروا
- .........
ويرسم لنا الحالة وهو يسرد الموقف قائلا :"كل هذا جعل لساني قد أُلجم؛ تسمرتُ بمكاني ، قشعريرة بكافة جسدي، انتصبت كل شعرة به، شعر رأسي كما لوكان مسامير.. لم ألتفت خلفي؛ شُلت حواسي، يكاد أن يُغشى عليَّ ،وللمرة الثانية العناية الإلهية تنقذني من الهلاك ، يأتي القطار ، بصافراته المدوية ، وأنوار كشافات القاطرة التي سطعت كالشمس ،وضجيج مسير العجلات على القضبان ... " ص 36
ويواصل وصف الحالة بتلك الجمل المقتضبة المتلاحقة المتدثرة بالشاعرية ، ويفيق للحظات من هذا الكابوس للتوالي الأسئلة بذهنه عن الشبح وحقيقة الرجل والفتاة ، وهل هما من البشر أم لا ويستمر في هذا الصراع النفسي مع الليل والوحدة ، وبعد أن يمر القطار يعود لعذابات الوحدة والتوتر وتتفجر الحالة الشعورية الشاعرية في الحبكة الروائية المحكمة ،يواصل السرد : " مرَّ القطار بالمحطة ، عاد السكون ينسج خيوط الهواجس والأفكار والأشباح فوق رأسي ،أيقظـتُ سيوف عزيمتي من أغمادها ، أشهرتُها ،مزقتُ كل الخيوط قبل أن أقع فريسة بين أنيابها التي لا ترحم " ص 37
وكما يذكر " إن الرواية الكبيرة هي تلك التي تلقي بدواخلنا شيئا من الأسى على التجربة الإنسانية ، وشيئاً من فرح الحياة ، وتثير فينا رعشة الوجود " ص 24 سعد محمد رحيم " سحر السرد – دراسات في الفنون السردية ".
وسط هذا السكون المخيف تأتي اللغة الشاعرة وخيال الرواي المتأمل وهو يغوص في كل ما حوله يمدد فضاء الرواية ، في محاولة لتجسيد ما حوله ،وإن كان لا يراه ولكن يستشفه ويصوره وكأننا أما لوحة تكشف كل شيء وتفتح الأبواب المغلقة كما يصور في مشهد بيوت القرية كما يتخيلها ، وتُظهر قدرة الرواي على التخيل وقدرة فائقة على الوصف فيقول : " هنا كما لو أنني أراهم من خلف ستائر الليل المُظلم ، هنا في قلب الريف ، الديار المتواضعة ، هناك رب أسرة يتوسط صحن داره يلتف حولهُ الزوجة ،والأبناء صبية وفتيات، ينكمشون تحت أطمارهم ، يمدون أيديهم المنتفضة من لسعة الصقيع بمقربةٍ من النار المتوهجة بقلب (المنِقد) المستعر ( بالحطب والقوالح )، ثم يفرك كلٌ مهم كلتا يديه ببعضهما البعض ،ثم يعود يمسح على كتفيه ... " ص 37 ومابعدها
وهكذا يواصل السرد في فنية بديعة تخرجنا من حالة التوتر التي يعيشها الراوي في فضاء المحطة ، لينقلنا لحياة القرية بتفاصيل دقيقة وكأننا أمام شريط سينمائي بعرض القرية يكشف ويغوص ويفتح الأبواب المغلقة .
و يذكر أن " الرواية لا تخلو من مجانسة المجتمع أو مطابقته ،وأن الشخصية التي يرسمها الروائي بالفعل صورة واقعية أو تقريبية من مشهد معين يروم الكاتب بناءه من المزج بين الواقعي والمتخيل " ص 23أحمد شحميط" المكان الضائع في سرديات الرواية الافريقية " مرجع سابق
ويعود الراوي لكابوس النعاس الذي يصفه بـ "بالعدو اللدود " ، فيترك المكتب ويجلس خارجه ، فتعود أطياف صورة الفتاة مع الشيخ لذاكراته ، وهل هما بشر أم عفاريت ، وهنا يتذكر الرجل الذي جاء يركض من طهطا وقتل هنا في المحطة من أربعين يوميا ، وقد قالوا أن عفريت القتيل يخرج بعد الأربعين، ويتذكر الحادثة ويسردها بالتفصيل ومهارة كعادته في صنع الحبكة .
بعد الواحدة صباحا يأتي الغفيران النظاميان متأخران على غير العادة ، ويعتذرا لأنهما كانا في فرح في القرية ، وكان يأمل أن يعتمد عليهما ويغفو قليلا ، ولكن لم يفعل لأنه شاهد التعب على ملامحهما ، فطلب منهم النوم وسرعان ما استجابا ، وجلس خارج المكتب وسرح في شاعرتيه مع الوحدة يصف اللحظة " جعلت مقعدي يميلُ للوراء ساندا برأسي على الحائط من خلفي مرتكزاً على الرجلين الخلفيتين فقط ، فأسندتُ برأسي على الحائط ، مع هز ساقيَّ المرتفعتين عن الأرض ، وقد اختلطت الأصوات ،وتداخلت ، وامتزجت صانعة سيمفونية طبيعية رائعة جداً ، سيمفونية لم تصنعها أيد بشرية وسط هذا السكون والليل الجميل الذي تتلألأ سماؤه بالنجوم ، والقمر يفرش بنوره الدنيا ،والأشجار تتراقص أغصانها ، على صوت نقيق الضفادع ، وهفيف الحشرات، وهذا المتميز بصوته الصارخ صرصور الليل أو صرصور الحقل ، يصدر صريرا عاليا وكأنه عازف الكمان ،وكذا غطيط الخفيرين ، فيا لها من سيمفونية !ويالها من حفلة مسائية ! " ص 50
لقد حول الكاتب المكان باعتباره الفضاء الروائي إلى بقعة ضاجة بالحياة، ولا يتلف إلى هذه الأشياء ويصنع منهت هذا الجمال بهذا الوصف إلا من يمتلك بداخله شاعرية تتغلب على هذا التوتر ليعيش لحظة خاطفة من الحياة فالمكان هنا ليس " كونه المحيط الذي يعيش فيه الانسان ،ولكنه باعتباره أيضا مقوما أساسيا في تشكيل المنظومة المعرفية المعقدة للإنسان والتي يبني وعيه بها وتصوراته إزاء العالم الذي يقع فيه " ص 4 محمد مصطفى علي حسانين " دارسة في آليات السرد والتأويل " كتب عربية . فسرعان ما يخرج الراوي من حالة التوتر المشحونة بالأشباح والعفاريت إلى حالة استرخاء ولحظة حالمة لا تدوم طويلا ولكنه اختطفها من براثن المكان والزمن . ويمر الوقت ويتذكر تلك الفتاة بائعة السمك وعلاقته التي تكتمل بالزواج ، ويواصل رحلة التذكر والأحلام التي لم تحقق ليخرجه من أحلامه وعالمه الشاعري صوت نداء الحركة بالمراقبة المركزية بأسيوط عبر جهاز اللاسلكي ، ليبلغه وجود كومة سوداء بمنتصف شريط الحديد بالقرب من نهاية الرصيف ، وتبدأ الأحداث في التوتر ، فيتذكر زميله محمود الغائب عن العمل ، وبعد مناوشات يتأكد له أن الكومة جثة لامرأة عجوز .
ويعبر عن هذا التوتر قبل وصول الشرطة لمعاينة الحادث ويقول : " ضاق صدري ، أصبحتُ خانقاً، اختفى القمر ، وهربت النجوم، واسودت أمام عيني ليلتي كالسواد الذي خيم على السماء ، هاجمتني الأفكار هجوم الخفافيش، تنهشُ برأسي وتمزقه تعصفُ بي كما تعصف الرياح بأوراق الشجر " ص 57.
وبعد وصول الشرطة والاسعاف ومعاينة الحادثة وأخذ الجثة وبرحيلهم بدأت بشائر الفجر وكما يصف الرواي اللحظة :" ومع تلاشي آخر شعاع ضوء لأنوار الكشافات الخلفية للسيارتين، أخذَّ ينبعثُ من بعيد صوت قرآن الفجر يبث الطمأنينة بالصدور عبر مكبرات الصوت التي تعتلي مآذن المساجد مترامية الأطراف ، التي تتلألأ أنوراها كالنجوم بسماءٍ صافية، تولد من جديد بعد انجلاء سواد ليلٍ قاس ، ليُعلن عن يومٍ جديد يشق ضياءه ظلام اليل الحالك ويبدد صمت وسكون الكون المرعب ، لحياة نابضة ، صاخبة، تطفو على محياها ابتسامات الرضا والسعادة ، تخرجُ من قلب الشقاء وقعر المعاناة، تمسح عن وجهها غُبار الكدِ والسعي ، بأنامل شققها صقيع الفقر، وألهبتها حرارة الحاجةِ والعوز " ص 57
وتنقضي السويعات القليلة ويغادر محمد أفندي المحطة في قطار الثامنة صباحا بعد ليلة ووردية شاهد وعايش فيها من الأهوال ، وكما يذكر في نهاية الفصل :" تحرك القطار للمغادرة ومعه سكنت جميع حواسي وأعضائي " ، ويضيف " ما أطولها من ليلة ! وما أصعبها !" ص 59
بعد هذا الولوج شبه التفصيلي لأحداث الفصل الأول ظهر جليا قدرة الراوي على الوصف " وتجدر الاشارة هنا ، إلى أنه لا رواية من غير وصف، وأنه لأسهل علينا ، كما يقول جنيت : أن نتصور وصفا خاليا من عنصر سردي من أن نتصور العكس " ص 178 د. عدنان علي محمد الشريم " الخطاب السردي في الرواية " عالم الكتاب الحديث ، الأردن ، الطبعة الأولي 2015م . كما " قد يلجأ السارد في رواية السيرة الذاتية إلى توظيف الخيال الفني في بناء المقطع الوصفي ، وهو بالتالي يحقق درجة عالية من شعرية / أدبية النص " ص 181 المرجع نفسه . وقد كشف لنا الراوي عن قدرته في التوفيق بين السرد والوصف فجاءت اللغة شعرية تتوغل في عمق الوصف في هذا الجو الكابوسي الذي صنعته الحبكة بامتياز بطريقة تبادلية غير مصطنعة بل موظفة توظيفا جيدا كما تبين لنا في تسلسل الأحداث من لحظة استلامه الوردية حتى مغادرة الشرطة الموقع بعد العثور على الجثة قبل الفجر . وتنتهي هذه الليلة الكابوسية بكل أحداثها المتتالية بحبكتها المحكمة ، ولغتها الشاعرية التي حاصرت السرد وتوغلت في عمق الوصف لترطب من وقائع التوتر وهذا الصخب الشديد الذي اخترق سكون المكان الخالي تماما من البشر باستثناء عدد قليل حول الراوي وفي ذاكراته صنع به الكاتب وخلق تلك الأحداث التي عاشها بافتراض أنها يوميات ومذكرات ولكنها بما إنها رواية فالمتخيل السردي كان له دور كبير في البناء الرواية والقصة من خلال الحدث بتقنياته السردية من استرجاع ومونولوج ومشاهد حوارية وقفز على الأحداث وتلخيص ووصف بتلك اللغة الشاعرية التي أعطت الزمان بعدا مغايرا مرافقا الواقع الكابوسي . بعد هذه الليلة التي امتدت دهرا بما فعله الرواي من تقنيات سردية في فضاء الرواية ، ينقلنا للفصل الثاني من الرواية بعد عامين تقريبا من أحداث وردية الفصل الأول ويستهل الرواية بمقطع يذكرنا باستهلال الليالي العربية ، فيقول :" توالت الأيام والليالي وتعاقبت الورديات، وتنوعت واختلفا الأحداث، ونُقلت للعمل بإحدى المحطات المركزية، وبمرور الأيام تناسيت أحلا م. أحلام التي أصبحت فتاة أخرى ؛ ما إن طرق الحُب باب قلبها ، وطويتُ صفحة حب هي أولى قصص الحب بحياتي العمليةـ وأضيفت إلى قصص الحب والمراهقة التي سبقتها .. الساعة السادسة مساء ليلة العشرين من شهر نوفمبر عام (1994) ص 63
يبدأ المقطع بهذا الاستهلال الذي يؤكد مرور زمن من الأحداث التي لم تسجل ، ونقله من محطة في قرية لمحطة مركزية أي مدينة كبيرة ، وبعد مرور أكثر من عامين يربطنا بما حدث في الفصل الأول مع بائعة السمك ، وأنها احبت واصبحت مجرد قصة للذكرى من قصص حب المراهقة ، وهذا الفصل الذي يكاد يخلو من اللغة الشاعرية باستثناء بعض الومضات، وهو يشاهد الهدوء الذي يعم المكان، وهو يتذكر بعض اللقاءات في مدينة خطيبته التي ستصبح بعد ذلك زوجته ، كل شيء على المحطة هادئ تماما ، لا يوجد أي توتر ، تدور حوارات بين عمال المحطة عن الرياضة والعمليات الإرهابية التي كانت تحدث في هذه الفترة من الجماعات أو تنسب لهم ، يعبر عن هذا السكون والهدوء بمقطع شاعري فيقول : " خرجتُ خارج المكتب لاستطلاع أجواء المحطة بعد أن تقلص الحديث حول الموضوعات المختلفة ، وفرغتُ من كوب الشاي، أخذت أذرع الرصيف بخطى هادئة ، مُستمتعاً بنسمات الهواء العليل، فيا لها من ليلةِ خريفية جميلة؛ فهي أقرب لنسمات ورائحة الربيع ، نسمات الهواء تداعب كل شيء، وجهي ، أغصان الأشجار فتتمايل بأجمل الرقصات ، والعصافير تغدو أسراباً لأوكارها بين أحضان الأشجار ، مُغردة بأجمل سيمفونية تطرب الآذان " ص 65
في هذا الجو الهادئ يتذكر خطيبته والطريقة التي تعرف عليها وكيف تقدم لأهلها ، والوقت يمر في أحسن وهو يقوم بعمله بأريحية وسط هذا الجو الرائق والذي يواصل وصفه قائلا وهو يصعد السلم بعد مقابلة قطار الركاب :" وما إن صعدت أعلى السلم حتى لفحت وجهي نسمات الهواء المشبعة برائحة الحقول، والمياه الممتدة مرمى البصر من الجهة الغربية للمحطة، جعلتني أتسمر بمكاني سابحا بخيالي بهذا الجمال ، ومع استحضار الأوقات الجميلة التي قضيتها برفقة مخطوبتي " ص 66
وسط هذا الهدوء تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن ، فبعد قليل من الوقت يدخل عليه زميلة " واصف" صراف التذاكر الذي يخبره بأمر فتاة صغيرة تريد السفر للقاهرة وقد اعطته منديلا فيه مبلغ كبير من المال لتحصل على تذكرة السفر ، يهتم بالموضوع وبعد مقابلة الفتاة ايقن إنها هاربة من أهلها ويقرر أن يساعدها مهما كلفه الأمر ليعيدها لأهلها ، ويعرض نفسه للخطر أكثر من مرة ويجازف رغم تحذير الزملاء ويذهب بها للقرية ليسلمها لأهلها . والكاتب خلال هذا الفصل برع كعادته في صنع حبكة محكمة مشوقة بتلك الأحداث الكثيرة والمتشابكة التي تظهر وتبين إنسانية الراوي الذي خاطر بوظيفته وحياته من أجل أن يعيد الفتاة لأهلها وينجح . وتنتهي أحداث الرواية بعودة الفتاة لأهلها بسلام بفضل حنكة وروية وصبر الراوي الذي بذل جهدا كبيرا وخارقا ، وواجه المجمتع بأسره سواء على محطة القطار من الباعة وغيرهم ، ومن أهل القرية. وكما يذكر أن " المكان الروائي ليس عنصرا يدور في فراغ ، بل عنصرا في بنية الخطاب السردي يؤثر فيها ويتأثر بها " ص 6محمد مصطفى علي حسانين " استعادة المكان – دراسة في آليات السرد والتأويل " مرجع سابق . والراوي قدم لنا عبر هذه الرواية يوميات ، أو سيرة ذاتية روائية سجل وقائع حدثت معه أضاف إليها من مخيلته الكثير ، وكما تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف السيرة الذاتية هي " المؤلف الروائي الذي يسجل بصورة واعية ، وبصيغة فنية الحدث، ويعيد للحياة الدرامية ، لأن موضوعها الحياة ، وفرع من الأدب يحتوي عن تقرير عن حياة أشخاص " .
ونحن هنا لا نخوض في الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية ، فيكفي أن يعترف الكاتب على غلاف كتابه بأن عمله رواية ، فنتعامل مع على هذا الأساس بأنه متخيل وإن غرف من الواقع ، وسجل وقائع ، وإن ذكر المؤلف اسمه صراحة كما جاء في الصفحة التاسعة عشر . إننا أمام عمل روائي حقق المتعة ، السمة الأهم لأي عمل أدبي ، بما حواه من حبكة محكمة ، وسرد لأحداث بأماكن حقيقية ، فمرح وسرح في فضاء المكان بتلك المتقابلات بين الماضي والحاضر ، واضعا أمامنا رواية تعتبر إضافة لدفتر الرواية العربي ولليوميات الراسخة والملامسة والمشتبكة مع الرواية .
أما قبل :
نعود للمقدمة ولولا المكرمة التي أكرمني بها الكاتب بذكر اسمي كمشجع وناصح أمين عندما قرأت بعض مقاطع من هذ1 الرواية وطلبت منه سرعة انجاز العمل ، لولا هذه المكرمة لكتبت وأطلت في تفنيد هذه المقدمة ، فالحقيقة هي لا تأتي إلا من واثق ومبدع حقيقي ، وهكذا كان الأدباء والكتاب الكبار ، يعلنون على الملأ فضل بعضهم على بعض فالحكيم يكتب عن فضل طه حسين ويهديه بعض كتبه ، وصلاح جاهين يكتب عن فؤاد حداد وغيرهما كثير ، وهذا يحتاج لوقفة خاصة لتتعلم الأجيال الجديدة معنى التواضع وقيمة النصح بمحبة وصدق ولا يفعل هذا إلا الكبار وأظن وبعض الظن حقيقة أن كاتبنا محمد خطاب إبراهيم ولد كبيرا بموهبته ودلف في عالم الرواية بخطى ثابته وسيواصل رحلة الصعود بإذن الله