مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

عمرو أبوالعطا يكتب : الكلمة بين الإنسان والآلة

2025-11-21 09:12 PM - 
عمرو أبوالعطا  يكتب :  الكلمة بين الإنسان والآلة
عمرو أبو العطا- كاتب
منبر

تشهد صناعة النصوص اليوم ثورة غير مسبوقة، إذ لم يعد الإنسان وحده القادر على إنتاج الكلمات والحكايات. فقد أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي تلعب دور الكاتب، قادرة على تقديم نصوص دقيقة التنظيم، سريعة الإنتاج، تستند إلى خوارزميات معقدة وحسابات احتمالية دقيقة. لكن هذا التحول يثير تحديًا معرفيًا عميقًا، لأن الكتابة ليست مجرد ترتيب كلمات، هي انعكاس لتجربة إنسانية، لآلامٍ وأفراح، لشغفٍ أو لتفكير عميق. فالنصوص المولدة آليًا تفتقر إلى هذا البعد الإنساني، وتكاد تختزل الأدب في سرد آلي منظم لكنه بارد، خالٍ من الروح والإحساس.

ومع تسارع التطورات في الذكاء الاصطناعي، يزداد السؤال إلحاحًا حول مصير الكاتب البشري ودوره الحقيقي. فالأنظمة الحديثة قادرة على محاكاة أساليب متنوعة وإنتاج مقالات وقصص وقصائد تبدو وكأنها من صنع قلم بشري، مستندة إلى كميات هائلة من البيانات وأنماط اللغة المستخلصة منها. ومع أن هذه النصوص تأتي متماسكة نحويًا ومنطقيًا، فإنها تظل خالية من الوعي الذاتي والتجربة الحياتية التي تمنح الكلمات عمقها، ويبقى السؤال قائمًا ؛ هل يمكن للآلة أن تحل محل من عاش وعانى وتفاعل مع الحياة بكل أبعادها؟

طرح الفيلسوف رولان بارت في مقاله الشهير La mort de l’auteur (1967) فكرة تحرير النص من سلطة الكاتب ومنح القارئ حرية التأويل. هذا التصور يفتح أمامنا مجالًا للمقارنة مع النصوص المولدة بالذكاء الاصطناعي: فالنص البشري يحمل أثر التجربة والوعي، بينما النص الآلي يقوم على حسابات احتمالية، يعيد تركيب المعطيات ليبدو منسجمًا، لكنه يفتقر إلى البعد الذاتي الذي يشحن اللغة بروحها.

ورغم إتقان الذكاء الاصطناعي في تركيب الجمل والتلاعب بالألفاظ، يبقى النص الناتج خاليًا من الوعي الذي يجعل الكاتب يختار تعبيرًا محددًا ليعكس تجربة أو شعورًا أو رؤية شخصية. غياب هذا البعد يقود إلى إنتاج سردٍ بلا أصالة أو مصداقية عاطفية، إذ إن الأصالة فعل إنساني لا يولد إلا بوعي وخبرة ومعاناة حقيقية.

هذا يقودنا إلى سؤال المؤلفية: من هو "المؤلف" في عصر الذكاء الاصطناعي؟ هل هو المستخدم الذي يوجه الأداة، أم المطور الذي صممها، أم النص ذاته؟ هذه الإشكالية ظهرت بوضوح في تجربة الكاتب الكندي ستيفن مارشي، الذي كتب مقالة بعنوان "Can a Robot Write a Novel" في صحيفة The Guardian (2017)، ثم خاض تجربة أعمق في روايته Death of an Author (2023)، حيث استعان بالذكاء الاصطناعي لتوليد مادة نصية. ومع ذلك، خلص إلى أن دور الإنسان يبقى جوهريًا، لأنه من يمنح النص صورته النهائية وبصمته الإنسانية.

منح الآلة صفة المؤلف يهدد جوهر الإبداع ويقوض أسس الملكية الفكرية، إذ تقوم القوانين الحالية على مبدأ وجود مبدع بشري. فقد رفض مكتب حقوق الطبع والنشر الأميركي تسجيل الأعمال التي أُنتجت بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي دون مساهمة بشرية كافية، كما حصل في قرار المكتب بشأن العمل الفني "Zarya of the Dawn" (2023)، حيث تم رفض حماية الصور المولدة آليًا ومنح حماية جزئية فقط للمحتوى البشري المصاحب. ومع ذلك، ما يزال الجدل قائمًا حول مدى الاعتراف بمكانة الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الأدبي والمعرفي، وما إذا كان يمكن للآلة أن تُعتبر مؤلفًا بالمعنى القانوني، وهو موضوع قيد النقاش في المحاكم والأوساط الأكاديمية.

البعد الأخلاقي حاضر بقوة أيضًا، فالذكاء الاصطناعي قد يولد "هلوسات معرفية" أو يعيد إنتاج تحيزات موجودة في بياناته التدريبية، بما يعزز أنماطًا ثقافية أو اجتماعية أو حتى عنصرية. هنا تقع المسؤولية على المستخدم والمطور والجهات التنظيمية لضمان جودة المحتوى ودقته. منظمة COPE للأخلاقيات العلمية أوضحت أن الذكاء الاصطناعي لا يعد مؤلفًا بل أداة، وأن على الباحثين الإفصاح عن استخدامه.

التعاون بين الإنسان والآلة ممكن إذا توفرت الشفافية، وشارك الإنسان بفعالية في التحرير والمراجعة، واعتُبر الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة، مع وضع قوانين أخلاقية تحدد مسؤوليات كل طرف بوضوح، لتظل النصوص أصيلة، وتحمي القارئ من التضليل، وتعزز احترام القيم الثقافية والأدبية.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مساعدًا قويًا في مهام مثل إنشاء مسودات أولية، تحسين الصياغة والأسلوب، البحث عن المعلومات، والتدقيق اللغوي والنحوي، ومع هذه الإمكانات يظل الدور البشري حاسمًا، فالكاتب هو الذي يحدد الرؤية العامة للنص، ويضيف شخصيته الفريدة، ويختار الكلمات التي تحمل أعمق المعاني، ويمنح النص اللمسة الإنسانية التي تميّزه عن مجرد ترتيب آلي للجمل والكلمات.

الحكاية ليست مجرد تسلسل أحداث، فالأدب الحقيقي يلامس الروح، يحرك المشاعر، يثير التفكير، ويعكس تعقيدات الوجود وصراعاتنا الداخلية والخارجية، وآمالنا وأحلامنا، وهو الحوار بين الأرواح الذي يجعل الكاتب ينقل جزءًا من ذاته للقارئ، ويشاركه آرائه وتجربته، ويمنح النص قوته وتأثيره الدائم، ويجعلنا نعود إليه مرارًا وتكرارًا.

الذكاء الاصطناعي يفتح آفاقًا جديدة، لكنه يضعنا أمام تحدٍ حقيقي في الحفاظ على جوهر الإبداع البشري، ومستقبل الكتابة مرتبط بالتعاون المدروس بين الإنسان والآلة، مع السيطرة الإنسانية الكاملة على الإبداع، وضمان أن تظل الحكاية قصة يرويها إنسان لإنسان آخر .

 

 

مساحة إعلانية