مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

قراءة في : رسائل إبراهيم عبد المجيد إلى لا أحد .. بقلم سمير لوبه

2024-12-09 13:11:51 - 
قراءة في : رسائل إبراهيم عبد المجيد إلى لا أحد .. بقلم سمير لوبه
سمير لوبا -قاص واديب مصري
منبر

إنَّنا نحبُ تذكرَ الأماكنِ التي كنَّا فيها سعداءَ ، ونحبُ أن  نعودَ إليها لنراها ، إنَّنا نحبُ أن نعيشَ الحاضرَ من خلالِ ذكرياتِ الماضي .. 
من خلالِ سردِه الماتعِ وأسلوبِه الجذَّابِ يأخذُنا الروائي الكبيرُ الأستاذُ " إبراهيم عبد المجيد " في رسائلِه السبعةِ " رسائلُ إلى لا أحدَ " والتي نشرتها مجلةُ " النهار العربي " على مدى ستةِ أسابيعٍ بدايةً من 19 سبتمبر 2021 حتى 31 أكتوبر 2021 .


إلى عالمٍ من التشويقِ بروعةِ الحكي المعهودةِ فيه ، ممَّا يجعلُك تلتهمُ الرسائلَ التهاماً .. وذلك ليس بغريبٍ على أديبِنا القديرِ ،
والرسائلُ السبعةُ ترصدُ مشاهداتِه أثناءَ زيارتِه الأخيرةِ لمعشوقتِه وموطنِه " الإسكندرية " ليقصَّ علينا ذكرياتِه عن المكانِ كيف كان وكيف صارت الحالُ الآنَ ، تدفعُه في ذلك " النوستالچيا " حيث يقولُ لنا في رسائلِه  : " النوستالچيا لها طعمٌ ورائحةٌ يأتيان معها حتى لو نفضت الذكرياتِ بيدِك في الهواءِ وتعمدت الانشغالَ عنها " وفي مجلةِ " النهار العربي " تأتي كلُ رسالةٍ مع لوحةٍ فنيةٍ تصورُ مشهداً سكندرياً خالصاً في إشارةٍ وتلميحٍ أنَّه مهما ساد القبحُ وغاب ربيعُ الذكرياتِ ورحل الأصدقاءُ تظلُّ الإسكندريةُ معشوقةَ " إبراهيم عبد المجيد " وعليه فقد أحزنه القبحُ الذي ساد مدينةَ الكوزموبوليتانِ .
في الرسائلِ لم يستطعْ  كاتبُنا الكبيرُ " إبراهيم عبد المجيد " أن يخفيَ أحزانَه أو يواري حسراتِه على ما آلت إليه حالُ المدينةِ التي طالمَا خطت يُمناه في معظمِ رواياتِه حكاياتِ شوارعِها  وقصصَ شخوصِها ، فكم رسم بقلمِه لنا المدينةَ الكوزموبوليتانيةَ  في تمامِ المعنى الحقيقي للكلمةِ ، ويعودُ الأستاذُ ليؤكدَ على ذلك فيقول : " الذكرياتُ تتجلى أمامي أشجاراً تملأ الفضاءَ " 
يستعيدُ معنا " إبراهيم عبد المجيد " ذكرياتِ تلك المحافلِ الثقافيةِ السكندريةِ البارزةِ ، والتي طالما نادى فيها بالحفاظِ على الهويةِ السكندريةِ الفريدةِ من نوعِها ، و يطوفُ الأستاذُ في موطنِه محلقاً يفتشُ في الأماكنِ عن ذكرياتِ الماضي ، يسألُ حتى نسيمِها عن ربيعِ ذكرياتِه فيقولُ : " لا يهمُني من الإسكندريةِ غيرُ هوائها وأصدقائي ، رحل الكثيرون من الأصدقاءِ فبقي لي الهواءُ ، وهو أمرٌ مختلفٌ عن كلِ هواءٍ عشته في كلِ البلادِ ، مؤكد لأنَّها موطني ، فالهواءُ في تونسِ على الشاطئ جميلٌ وفي المغربِ وفي فرنسا وفي أميركا وغيرِها بينَ محيطاتٍ وبحورٍ مررت عليها ، لكن هنا يختلفُ الإحساسُ به ، في الإحساسِ حنينٌ وأسئلةٌ قديمةٌ  "
وتتوالى الأسئلةُ الباحثةُ دوماً عن الجوابِ الشافي لدى الأستاذِ " إبراهيم عبد المجيد " لنجدَ أنَّ الأستاذَ يجيبُ عنها في الرسالةِ الأخيرةِ حينَ يقولُ : " الأفضلُ أن أكملَ الرحلةَ شاردًا عن كلِ ما حولي ، مهما حاولت أن أجدَ ما يمتعُني من ذكرياتٍ سيغتالُه القبحُ ، فلأعش ما بقي لي في صمتٍ وأعودُ إلي عزلتي عما حولي ، ولأترك المستقبلَ للأجيالِ الجديدةِ التي لم تعرفْ كيف كان من قبل على شاطئِ المدينةِ يتنفسُ الجمالَ ، في الشتاءِ والصيفِ لا تنقطعُ أنفاسُه عن الناسِ ، ولتكن هذه هي الرسالةُ الأخيرةُ ، فسأكملُ المشوارَ مغمضًا عيني " . 
وبعد قراءةٍ في رسائلِ الأستاذِ إبراهيم عبد المجيد " رسائل إلى لا أحد " اكتشفت أنَّ الرسائلَ موجهةٌ من " إبراهيم عبد المجيد " إلى " إبراهيم عبد المجيد " نفسِه ، وقد عرض ذلك في تسلسلٍ تاريخي غايةٍ في البراعةِ للمدينةِ عبرَ رواياتِه التي طافت بنا أرجاءَ الإسكندريةِ ؛ ليمرُّ من خلالِ الأماكنِ إلى ذكرياتِ الماضيِ بدءاً بمساكنِ السكةِ الحديدِ وصديقِه " إبراهيم بلك "  وترعةِ المحموديةِ في كرموز ومدرسةِ "عبدالله النديم " في " كفر عشري " مروراً بالقباري ومدرسة " الغندور " ومدرسةِ " القباري الابتدائية " و لعبِ القصبِ و لعب النحلةِ ولعب البِيَل و  كذلك كوبري التاريخِ وعمالِ المحلجِ  ورصيفِ البضاعةِ وصولاً للورديان ومدرسةِ  "طاهر بك الإعدادية" والتي يتذكرُ مع ناظرِها زميلِه السابقِ زميليهما " محمد المعتز بدين الله الحبشي وهذا اسمه وحده وكان أبوه اسمه ياقوت محمد سلامة "  والأستاذَ " بِشر " مدرسَ اللغةِ الإنجليزيةِ عندما شرح لهم  يومًا قصيدةً إنجليزيةً عن الخريفِ ، يقول فيها الخريفُ حين يهلُّ للشجرِ " اخلع رداءك " ، فترجمها أنَّ الخريفَ يقولُ للأشجارِ " اخلعي لباسك " ضحكنا بقوة فقال " بتضحكوا على إيه يا بهايم ، اللباسُ هو الملابسُ عمومًا وليس ما تحت البنطلون " ، وقهوةَ " خفاجى " والأصدقاء " يحيى خفاجي و علي خفاجي " والسلخانةَ  والمكسَ و"  اللول " بائعَ السمكِ  والدخيلةَ وشاطئها وأكلةَ السمكِ من صيدِ " سعيد وهبة "  ومدرسةَ الصنايع وصديقَه " سعيد المصري " من المنشيةِ  وصديقَه " سعد الدين " من المساكن الشعبية في منطقةِ الحضرةِ و " حسن القاضي " من منطقةِ كامب شيزار وشركةَ الترسانةِ وطريقَ العودةِ مشياً مع الصديقِ " محمد تمام " وذكرياتِ يناير 77 وكليةَ الآدابِ وكازينو الشاطبي ومطاعمَ ومقاهي وكازيونهاتِ الكورنيشِ وميدانَ المنشيةِ و لم ينس الكاتبَ الكبيرَ " محمد حافظ رجب " والذي عرفه في السبعينياتِ ويسكنُ ويعيشُ في منطقةِ بوالينو بمحرم بك وتمضي رحلةُ الذكرياتِ فلم يغفلْ أديبُنا إبراهيم عبد المجيد يومَ تمزقت كتبُه تحتَ عجلاتِ الترامِ بفعلِ " كوستا " اليوناني بائعِ البوياتِ في أولِ يومٍ من شهرِ رمضانَ وكان يومئذٍ في الصفِ الأولِ الإعدادي  وفي محطةِ الرملِ يتذكرُ " الرملي وعم سيد " وإيجارَ الكتبِ  ، وينقلُنا ومن خلالِ رواياتِه إلى العجمي ويومَ بيانكي مع صديقِه " حسين اللنش "  فنجدُ في كلِ روايةٍ مكاناً سكندرياً وشخوصاً تملأ المكانَ حياةً في رواياتِ " إبراهيم عبد المجيد " ،
يبدأ الروائي " إبراهيم عبد المجيد " رسائلَه بتلك العبارةِ القاسيةِ على قلبِه وهو الذي يعشقُ الإسكندريةِ والتي يملأ حبُها والحنينُ لربيعِ ذكرياتِه فيها كلَ ذرةٍ من كيانِه فيقول : " بعدَ ثلاثِ سنواتِ انقطاعٍ عن زيارةِ الإسكندريةِ ، ذهبت هذا الصيفَ  في يونيه من هذا العامِ 2021  لم يعدْ لي مكانٌ في الإسكندريةِ  " 
تخيل معي كيف اعتصر قلبُ " إبراهيم عبد المجيد " وهو يعلنُها قائلاُ " لم يعدْ لي مكانٌ في الإسكندريةِ " 
ويسترسلُ ليبدأ الحكي عن الذكرياتِ في سردٍ شائقٍ وهو يطوفُ المدينةِ مع " خالد " ابن زوجتِه وابنه الذي لم ينجبْه في سيارتِه فيبدأنا قائلاً : 
ولكن من هنا بدأ الألمُ ...
فعلاً الألمُ كلُ الألمِ حينما يبحثُ عن معشوقتِه الإسكندريةِ تلك الهيفاءِ مرمريةِ الجسدِ التي تتمددُ على رمالِ البحرِ يقطرُ الماءُ من شعرِها المرسلِ على ظهرِها فيجدُها وقد غاب عنها الجمالُ وسادها القبحُ  .

مساحة إعلانية