مساحة إعلانية
إسحاق روحى
-١-
روماني حافظ فنان مصري.. هذا هو التعريف الجامع المانع فكلمة فنان أكثر شمولًا من مبدع ومن مصور ومن نحات ومن ومن ومن.. هو فنان يعشق الكاميرا فكان من الطبيعي أن تعشقه الكاميرا لتعطي له ما يتمناه من صور مبهرة.. لكن رغم عطاء الكاميرا إلا أنها في أحيان كثيرة تتمرد عليه.. تمردها يظهر في أنها تجعله يظل بالساعات والأيام في انتظار إعطائه اللقطة التي تمس وجدانه.. حتى الفن لا يخلو من إرهاق جسدي.. ما أجمله إرهاق يا رومانى.
-٢-
في قاعة بيكاسو.. جاليري بيكاسو بالزمالك يقيم روماني حافظ معرضه الثالث تحت عنوان أصداء السكون وفي ترجمة أخرى أصداء الصفاء.. معرض جمع به أكثر من عشرين صورة في رأي البعض وفي رأيي لوحة فنية متفردة لا يستطيع تقديمها سوى روماني حافظ.. لوحات كلها تتحدث عن أديرة مصر التاريخية التي نشأت بها الرهبنة في مصر ولمن لا يعرف فإنه من مصر انطلقت الرهبنة إلي الكون الفسيح.. ما أجمل التأريخ لتاريخ الأديرة ياروماني سلمت أناملك.
-٣-
أصداء الصفاء أصداء السكون.. نعم ستسمع الألحان الكنسية والأجراس تتسلل إلى أذنيك مع كل نظرة متعمقة لأي صورة فنية معروضة لروماني في قاعة بيكاسو.. ستتلفت يمينًا ويسارًا لترى أين تقف الجوقة التي تنشد الألحان فلن ترى سوى زائري المعرض شفاههم تتمتم بروعة اللوحات وتكتشف أن الألحان الصادحة تخرج من سكون الصورة.. لقد خدعتنا ياروماني ووضعت ألحان سحرية داخل الصورة أثناء قيامك بعملية التحميض.
-٤-
قف.. تمهل.. اللوحة الصورة التي تراها أمامك التقطها الفنان روماني حافظ بكل جوارحه.. أتخيل أن روماني كان يريد التقاط الضوء وهو يسقط في مكان داخلي يشبه الشارع داخل دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر.. فظل ينتظر شروق الشمس وظل قابعًا متربصًا في وضع الاستعداد.. لا يستطيع أن يغفل لحيظة فاللحظة التي ينتظرها قد تأتي في فيمتو ثانية فشمس البحر الأحمر خداعة وليس لها أمان.. جاءت اللحظة والتقط الصورة وتصادف مرور أحد الرهبان ولكنها اللحظة التي ينتظرها.. فأعطي الراهب منظور آخر للصورة وبدلًا من أن نفكر في مسقط الضوء فقط ظللنا نتأمل صورة الراهب السائر والذي لا يعرف أن الكاميرا تترصده مع الضوء.. لقد جعلتنا نمشي في نفس الممر الذي سار فيه الراهب يا روماني.. ما أجمل الضوء الساقط على وجوهنا منك.
-٥-
أبيض وأسود.. كل لوحة عمل عليها روماني حافظ ساعات وساعات كي تخرج في الشكل النهائي الذي نقف أمامه مبهورين يعيدها لأصلها.. أي الأبيض والأسود.. ماذا يوجد في دير أثري له مئات السنين سوى حوائط أثرية أغلبها من الطين اللبن أو الحجارة.. في كل الأحوال هما لونان.. أبيض وأسود وإذا التقطت الصورة بكاميرا حديثة من التي تلتقط الصور الملونة فأعلم أن الكاميرا لم تقدم لك أصل الصورة فهي ليست مرآة وإنما تدخلت التكنولوجيا وتداخلت لتضع الألوان وفق رؤيتها هي وليس الحقيقة.. الحقيقة الوحيدة في الصورة الأبيض والأسود، فهي مرآة حقيقية لم تتدخل تكنولوجيا الألوان بها.. لم تلوثها التركيبات التكنولوجية.. إنه روماني حافظ عاشق الأبيض والأسود وهو كذلك في كل صورة فأعماله الفنية التي يقدمها لنا بالأبيض والأسود مضمونها أيضًا حقائق مجردة أما أبيض أو أسود فهو لا يعرف أن يلون الحقيقة وفي حياته أيضًا لا يتلون فهو صادق مع نفسه ومع فنه.. صادق لدرجة النقاء.. نعم ياروماني الآن عرفت لماذا تقول هذا أبيض وذاك أسود..
-٦-
قالت لي زوجتي وهي تقف أمام كل صورة من صور معرض أصداء السكون: «إيه ده.. أنا حاسة إني دخلت كل الأديرة دي وأنا في مكاني» قلت لها وماذا ينقص المعرض الذي تسيرين فيه.. أنت تسيرين داخل الأديرة وليس علي سيراميك القاعة.. نظرت لي وقالت ليت الحضور جاءوا برداء لا يوجد به إلا لونين.. الأبيض والأسود.. لقد جعلتنا نحلم بالتوحد مع لوحاتك يارومانى.
-٧-
الناقوس.. أحد أهم الأدوات الموسيقية في الألحان الكنسية بل هو في كثير من الكنائس يعد الآلة الموسيقية الوحيدة.. الناقوس الدارج في الاستخدام هو المصنوع من النحاس.. أما المصنوع من الاستانلس فهو يؤدي الغرض لكن النغمة الأصلية لن تسمعها إلا من الناقوس النحاس.. التقط روماني حافظ بالكاميرا وبإحساسه قبل أن يضغط أزرار التصوير صورة لأيدي مصرية تمسك الناقوس ليقع الضوء على يد الراهب وهي تسير مع اللحن فتسمع صوتًا يخرج من الصورة يطربك رغم أنك لم تبارح مكانك.. لقد انطقت الجماد يارومانى.
-٨-
معرض أصداء السكون تم افتتاحه في الثاني من فبراير الجاري وسيستمر حتى الثامن والعشرين من فبراير فماذا عن أول يوم.. يوم الافتتاح؟.. إنه يوم العرس والفرح والابتهاج.. ذهبت وشاهدت ضيوف روماني حافظ الذين كانوا يقفون أمام كل صورة كي يجعلوها مخزون روحي داخل العقل.. كانوا أكثر ولن استطع حصرهم.. فهاهم زملاء العمل يقفون معه وهؤلاء زملاء الفن.. وهذا صديقه الإعلامي المتميز وهذا سفير وها هو المنتج السينمائي وتلك الممثلة الواعدة وهؤلاء طلبة من الجامعة الالمانية.. وصحفيين يريدون أن يسألوا.. زحام علي الفن من أجل الفن.. زحام منظم يجعلك تستمتع بموسيقى الأنفاس المختلطة بالتراث القبطي فيحدث المزج بين القرن الحادي والعشرين والقرن الثامن عشر.. كيف استطعت ياروماني أن تجعل ضيوفك يتمنون أن يعودوا قرونًا كي يكونوا شهودًا علي الإبداع والفن في مكانه وزمانه؟
-٩-
ماسترسين المعرض.. في ديكور مختلف عرفت بعدها أنه من تصميم بيير بيتو وهو ابن الفنان روماني حافظ في هذا الديكور المختلف يجد بوكس زجاجي وضع فيه نيجاتيف الصورة الرئيسية للمعرض ومعه أدوات ومواد كيميائية وفرشاة ومادة مٌظهره.. ما هذا؟ ولماذا الصورة المعلقة في هذا الركن مختلفة عن باقي الصور؟ ولماذا هي تحديدًا التي وضعت عنوانًا للكتيب الذي تم توزيعه؟ ولماذا هي التي وضعت علي إعلان المعرض؟ سألت أسئلة كثيرة وجاءت الإجابات متدفقة في قصة.. إنها صورة تم تصويرها في القرن الحادي والعشرين ولكن تم تحميضها بأدوات ومواد القرن الثامن عشر.. لقد عاد روماني حافظ بالزمن واستخدم التحميض بالملح الذي كان الوحيد المتاح في بداية ظهور الصور.. هذه الصورة تستغرق خمس ساعات في التحميض ويستخدم في تحميضها مواد خطرة فالمطلوب أن تكون يقظ جدًا وأنت تعمل علي الصورة.. فالخطأ البسيط قد يؤدي لكارثة وفي أفضل الأحوال يجعلك تعيد الخمس ساعات مرات ومرات.. طريقة التحميض بالملح قصة طويلة وتفاصيل كثيرة تعتمد على العلم.. كنت مبهورًا وأنا استمع لهذه الطريقة من الفنان روماني حافظ ولغروري ظننت أنني المنبهر الوحيد ولكن حين نظرت حولي وجدت مجموعة من طلبة كلية الفنون بالجامعة الألمانية منبهرين أكثر مني رغم أن انبهاري مبرر لأنني لا أفهم في التحميض بينما هم يدرسون ذلك.. هنا أيقنت أن هناك فرقًا شاسعًا أن تدرس التحميض بالملح نظريًا وبين رؤيتك للنيجاتيف والمواد المستخدمة والشرح علي الطبيعة من فنان قام بتحميض الصورة وأخرجها للنور نفس الطريقة البدائية وبجودة عالية وبتحايل علي إضافة مواد كيميائية أخرى من اكتشافه هو.. لقد أبهرتنا بالفعل ياروماني.
-١٠-
معرض روماني حافظ في جاليري بيكاسو بالزمالك مستمر حتى آخر هذا الشهر «فبراير» جاليري بيكاسو ستجده أشهر جاليري في الزمالك وعنوانه ٣٠ شارع حسن عاصم متفرع من شارع البرازيل في الزمالك.. لماذا أقول لك العنوان؟ لأنك إذا ذهبت ستنسي الدنيا وهمومها وسيتسلل لك الضوء من فوق القباب ومن كوة الحيطان وستستنشق رائحة البخور وستسمع موسيقي روحية وألحان تراثية.. ببساطة إذا ذهبت ستحيا حالة غياب عن كل ما حولك.. إنها مسكرات روحية تجعلك في حالة نشوة قد لا تتكرر كثيرًا في حياتك فلتذهب إلي جاليري بيكاسو وتري ما تقرأه رؤي العين.
-١١-
قبل الختام.. معرض أصداء السكون وفي رواية أخرى أصداء الصفاء ورائة جهد كبير.. بالطبع الفنان روماني حافظ لا نشكره علي جهده ولكن نشكره علي إبداعه وفنه الذي غسلنا من همومنا فما يبذله من جهد وإرهاق وتعب متعة خاصة به ولكن مؤكد أن هناك جنود مجهولين سعدوا كي يخرج المعرض بهذا الجمال والروعة والأناقة ولكن هناك دينامو المعرض إنها الفنانة بالفطرة نجوي إبراهيم مدير جاليري بيكاسو الزمالك..فمنذ أن استلمت الصور من الفنان روماني حافظ وهي تحيا مع اللوحات وتشرف علي كل كبيرة وصغيرة في المعرض وطوال الوقت تجدها تنظر وتراقب كل شيء في المعرض حتي إذا غابت دقائق تشعر أن روحها لم تغادر المكان فشكرًا على تنسيق الصور والاستقبال والتنظيم الفائق الجمال.. والشكر موصول لفريق عمل لم أره ولكن أثره واضح في كل سنتيمتر في المعرض.
-١٢-
رحلة روماني حافظ مع الصورة مؤكد بدأت من الطفولة.. ومؤكد أن اختياره كلية الفنون التطبيقية قسم الإبداع والابتكار والتصميم كان كي يوثق موهبته الفنية فالعلم يصقل الموهبة وينميها وهذا ما فعله روماني حافظ لكن الكلية والدراسة والعلم لم يكن لهم أي تدخل في تدفق موهبته وتوثيقه لكثير من الأمكنة وربطها بالضوء فيعطي للصورة حياة خاصة بها وحين تراها تحيا نوستالجيا الزمن الجميل.. حتى لو كان هذا الزمن من قرون أو من أيام ففي كل الأحوال أنت تتوحد مع الصورة التي أمامك..
شكرًا روماني حافظ الفنان المصرى الذي يسقينا مع كل صورة كأس الإبداع والفن والتفرد.. يمزج روماني حافظ الضوء بالمكان فيسكرنا فننتشي فنًا.


























