مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

مغرم صبابة يكتبها : محمد فيض خالد

2024-01-26 19:57:08 - 
مغرم صبابة يكتبها : محمد فيض خالد
محمد فيض خالد - قاص وأديب مصري
منبر

عاش زمنا يمني نفسه الاقتران بامرأة تعوض قلبه سنينه العجاف ،عاش " مفتاح " حياة ملؤها كآبة، قلقا غير راض عنها ، يرى في ابنة خاله التي فرضت عليه فرضا، عقابا سماويا قاسيا ، قدم له شبابه قربانا يرد به الجميل لخاله " عباس" الذي آواه وأخوته بعد موت والدهم ، لم يحبها يوما، ولم يكن بينهما ما بين الأزواج من أفة وصلة، كل شيء تم من باب آخر لا يعرف للحب ، لا يقوى على إخفاء سخريته، يطلق في عفوية نكاته اللاذعة يصرح متبجحا :" لا أعرف كيف جئنا بأولاد الكلب ، فهذا استلزم غياب عقلي في برميل من العرقي كي أقبل الست محاسن!" ، أما "محاسن" فلم يكن لها من أسمها حظ ولا نصيب ، فهي نحيفة ضامرة عجفاء كبقرة عجوز ، امتدت أسنانها مخترقة الشفاه العريضة ،ومن فوقهما أنف ركب فه منخارين واسعين ، وجبهة بارزة في استفزاز ، كل هذا ركب في وجه يقطر صفرة كصفرة الموتى ،وجسد ممسوح من كل مشتملات الأنثى ،لا تكترث كثيرا بنكاته البذيئة ، لم يدخل بخاطرها شيء من الأسف، فهي تدرك من نفسها وتعلم كيف زفت لهذا الوغد المجاهر الذي لا يحسب للعشرة حساب
بيد أنها تبالغ في عقوبته أحيانا ، بل وتتمادى في إذلاله فتتعمد الدخول على جلبابه،  وتستلقي إلى جواره جسدا هامدا ،يفوح منها مزيج مقزز من روائح البيت التي خالطتها منذ أشرق الصباح ،لم تعد تنظر في شكواه وتأففه المفرط ، في السابق كان يغيظها تنمر نساء الدرب قبل ان تنجب وليدها الأكبر " حمدي " ، ومع الأيام أصبحت أكثر جرأة وتعود ، تدفعه بيدها في ضجر ، وأحيانا تقذفه بأعواد البرسيم ونوى البلح ، هي تعرف ما ينتوي من غدر، لكنه لا يستطيع الإعلان صراحة ، يخشى بطش أخوتها الذين كرهوا فيه نكرانه المعروف ، وشططه في النيل من المسكينة يسومها سوء العذاب ، تربصوا به الدوائر أكثر من مرة لطرده من البيت ، لكنها كانت تنهرهم بشدة ما إن يخرجوا ، حتى ترتمي بين أحضانه في تهدم باكية شاكية لوعتها ، تتذلل في حرقة :" اموت لو بعدت عنك ساعة!" ، تمادى في طيشه حتى انحرف عن رزانته ، لم يعد في القوس منزع فهو يغترف بنهم لا يشبع من أجساد النساء كمراهق غرير، يغيب عن جلسائه في شبق معلن ، يتتبع كلص المارات من أمامه ، يبتلع ريقه المتحجر في افتعال ، يعلن إعجابه دون خشية بعبارات لا تخلو من بذاءة ، ينمى يأتيه اليوم الذي يكسر فيه هذا الطوق ، وينفك من سجن زوجته ، يصرح في زهق :" المرأة لا تكون امرأة ما لم تملأ الأيدي ، ما لم يكن جسدها لدن كالعجين أبيض كالقطن " ، لا يردعه رادع حتى نظرات أبنائه الخجلى ولا رأسه التي تبدو بيضاء ككرة الثلج ، دائما ما يشعر بفراغ يتسع من حوله يبتلعه ، فراغ أنساه الريف وتقاليده ، فراغ أسلمه لأن يهجر البيت ويعلن العصيان ، في قرية قريبة احتواه السهر وتلذذ عربيدا، هناك وجد مالم يجده مع صاحبته ، كؤوس الشراب الرخيصة ولفائف البانجو ، كل هذا زاد الدنيا اتساعا في عينيه، فترك لنفسه الحبل على الغارب ، الآن تطربه ضحكات السكارى، اتخذ لنفسه غرفة مهجورة آخر الدار، ألقى عليها حصيره وفرش قديم.
في هاته الأثناء اعتلت صحة " محاسن " وذبلت تماما بعدما تمشى الداء في بدنها كالنار في الهشيم فأتى على كبدها ، تقضي وقتها بين الآهات تصب الدم من فمها صبا، نصحها أخوتها أن تبيع الأرض وتسافر مصر للعلاج ،لكنها أبت ،تقول مستسلمة :" إن علتي لا ينفع معها دواء ، إن الدواء بيد مفتاح " ، أما صاحبها فأصبح أشد شوقا للخلاص ، لم يدم الأمر طويلا اكتفى الموت بهذا القدر من أسطر مأساتها ،خلصها أخيرا من آلامها فارقت دناياها ،انحلت عنها تعاستها في صمت ، لم يستطع أن يخفي ارتياحه، سريعا وضع يده على تركتها ،طلب الزواج من تلك اللعوب البيضاء البضة " سماسم "، كانت تدير بيتها لرواد المزاج، أغرته أنها ستصبح له دون سواه ،وهبها عن طيب خاطر نصف فدان ،لكن المرأة راوغت وتمادت في تسويف مزعج ، تحججت بمهلة كي تقنع ابنها الوحيد ،تبخرت من القرية بعد أن باعت الأرض طالت غيبتها ،توالى سؤاله عن بلدها لكن أحدا لم يجيبه لا يعرف لها بلد ، هي ابنة ليل تتواجد حيث تواجدت سحب الدخان وعبق السطل وجلسات الصهللة ، اما البيت فمستأجر أخلته لصاحبه ، لم يترك في إثرها بلد ، عاد بجر أذيال الخيبة وبقايا من نزوات الأمس ،مكانه فوق المصطبة يدق قلبه في اجتراء منفلت كصبي منفلت ، لا يرى من متع الدنيا غير الأجساد البضة ، تطربه ضحكات الطيش تتراقص من حوله ممزوجة بالفتنة ، مكتفيا من دنياه بهذه الأماني، ينتظر الفرصة كي يجتمع بحظيته الموعودة

مساحة إعلانية