مساحة إعلانية
لقد قرأت مؤخرا كتاب كلام ابن عم حديت للكاتبة المثقفة المبدعة أليس جابر, والصادر عن دار يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع, ورغم العنوان الصادم للكتاب الذى يوحي بأن ما سوف تقدمه لنا الكاتبة مجرد حديث لا يغني عن جوع فالعنوان مرادف للثرثرة التي لا طائل منها فقد وقر هذا المعني في ذهن الناس من استخدامه كمثل من الأمثال الشعبية, ولكن في الحقيقة قدمت لنا الكاتبة خلطة فريدة من الموضوعات الإنسانية والتي تناقش جوهر الوجود الإنساني والإيمان بالقيم العليا ليس في مجتمعنا الحالي فقط بل وعبر فترات التاريخ المختلفة، وفي سبيل ذلك لم تختر الشكل الأكاديمي البحت لطرح رؤيتها، ولكنها صاغتها عبر تقديم العديد من القصص والمواقف الحياتية وبعض الأحداث التاريخية التي تؤكد فكرتها ، فقد استطاعت أن تجمع قصص مختلفة لأدباء عظماء عبر التاريخ مع قصص من الواقع، وأثرت كل هذا بآراء العديد من المفكرين، لتأخذنا في رحلة شائقة نتجول فيها بين الواقع والخيال بمنتهى السلاسة حتى أنك قد تفقد القدرة للحظات علي التمييز بين ما هو خيالي وما هو حدث تاريخي ، ففي موضوع واحد تقص عليك حكاية لتشيكوف ورأيا للعقاد وحدثا تداولته نشرات الأخبار العالمية، لتصل بنا في نهاية كل موضوع لعدد من الأسئلة، والتي أعتقد أنها تمثل هاجسا شخصيا للكاتبة نفسها، وهي بهذه الأسئلة أرادت أن تتحدي عقل القارئ ليبحث معها عن الأجوبة الصحيحة، وأن كنت أعتقد أن الكاتبة من خلال سردها الممتع للموضوعات المختلفة كانت تستدرج عقل القارئ ليصل لأجوبة معينة والتي تمثل في رأيي قناعتها الشخصية ورؤيتها الخاصة. ويمكنك أن تدرك ذلك الهاجس عند الكاتبة من المقدمة, والتي تراهن فيها على الوعي وعلى تهيئة القارئ للخوض في قضايا عميقة المعني من النوع الذى يجلب الغم, فالتساؤلات التي سوف تطرحها ربما تتضمن ثوابت عاش عليها الناس قرون من الزمن, والثوابت هي التي تبث الطمأنينة ومجرد التفكير فيها يوقعنا في الحيرة والعلة كما تقول: كلما كبرنا, يزداد الوعي, والوعي علة وفي طريقها ومن خلال رؤيتها الخاصة لمفهوم الوعي تقدم لنا حكايات من التاريخ والأحداث وكتب الأدباء الغربيين والعرب, وتخرج من تلك الحكايات بأفكارها الخاصة التي تحارب بعض الظواهر التي تراها سلبية مثل الخوف الذي يمنعنا من الاختيار أحيانا حيث كتبت تحت عنوان اختيارات الحمار:أحيانا الإرادة الحرة عند الكائن الحي تختار ألا تختار أو يدفعنا للانتحار أحيانا كما أوردت ذلك في حكايات لماذا نمتنع عن الانتحار, كذلك اعتبرت أن الصمت قد يكون سببا في استمرار مشكلة ما أو نتيجة لها كما بينت في قصص احذر الصمت. ولم تقتصر في سردها علي الإشارة للمفاهيم المغلوطة والظواهر السلبية, ولكن ركزت في معظم حكاياتها علي الوعي ومحاربة التدين الظاهري واستخدام العقل والحرية الشخصية وحقوق المرأة وغيرها الكثير من القصص التي تعتمد علي بناء عقل جمعي طبقا لرؤيتها يرفض الدجل والدروشة ويقوم على الجدل والنقاش لخدمة الإنسانية. ويمكنك أن تدرك من خلال طريقة السرد وتنوع المصادر التي استخدمتها أن الكاتبة تمتلك ثقافة واسعة، ورغم أنها تناقش موضوعات فلسفية ووجودية مهمة نجد أن أسلوبها المتبع في ذلك سهل وبسيط، وقد ذكرتني في الواقع بكتابات أنيس منصور في أدب الرحلات الذي قدمه لنا في العديد من الكتب، لأنها كانت تأخذنا في جولات عبر كتب وشعوب وثقافات مختلفة, وهذا النوع من الكتابات رغم كونه يمتاز ببساطة الأسلوب وسهولته، فهو يحتاج لكاتب متمكن من أدواته، وهذا بالتأكيد ما نجحت فيه الكاتبة بامتياز.