مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

البالون الأزرق ... بقلم أحمد أبو تليح

2025-05-27 19:12:45 - 
البالون الأزرق ... بقلم  أحمد أبو تليح
أحمد أبو تليح

"أعرف تاريخك جيدًا، فهو ما تبقّى لدينا، ولن يستطيع أحد سلبه، مهما حدث."

هكذا أخبرني جدي في آخر مرة جلستُ فيها معه، قبل أن يختفي من حياتي، كما اختفى من هذا العالم أجمع، بعدما اختطفه الموت كطيرٍ جارح لا يرحم.

كنت في الثامنة عشرة من عمري، بينما كنتُ أحمل هاتفًا يلمع بين يدي، كما لو كان مصباح علاء الدين؛ فهو يُلبّي طلباتي، ويُحقق أحلامي، أو هكذا كنتُ أظن. وكان جدي يحمل كتابًا قديمًا، بورقٍ أصفر متهالك، كورق البردي، وغلافٍ من جلد جفرٍ معتّق، وعينين لا تزالان تلمعان بحكمة الزمن.

لم أستوعب حينها ما أراد جدي أن يوصله لي؛ فقد كنت أظنه مجرد عجوزٍ يتحدث عن الماضي، لأنه لا يعرف كيف يواكب الحاضر، ويتأقلم مع التكنولوجيا الحديثة، التي تسابق الزمن في تطورها يومًا بعد يوم.

لكنّي الآن، بعد مرور خمس سنوات، وكل شيء قد تغيّر من حولي كما يغيّر الثعبان جلده كلّ فترة من حياته، أعود إلى تلك الجملة، كمن يعثر على رسالةٍ مشفّرة، داخل قنينة قذفتها الأمواج، وسافرت عبر الزمن من الماضي إلى المستقبل.

لم تكن "المدينة الزرقاء" مجرد اسمٍ جغرافي، بل أصبحت رمزًا لثورة رقمية اجتاحت عقول الشباب بلا هوادة، أو رحمة، كفيروسٍ احتل أدمغتنا، وتحكّم في جميع تصرفاتنا، وأصبحنا مسلوبي الإرادة والحرية.

في كلّ ركنٍ من شوارعها، كانت هناك شاشات زرقاء معلّقة، وإعلانات تملأ العالم الافتراضي من خلال تطبيقات تبيع الوهم، وتسرق عمر الشباب، وشباب يطاردون أحلامًا افتراضية بعيونٍ شبه مفتوحة، وقلوب قاسية، بل ميتة.

ظهر التطبيق الجديد: "البالون الأزرق"، وهو مجرد لعبة في تطبيق يبيع الوهم؛ جعل الشباب مجرد شخصياتٍ افتراضية، تصعد بها في عنان السماء، وكلما كثر متابعوك، زادت نقودك الوهمية، فينتفخ البالون، ويصعد بك إلى أعلى نقطة، حيث لا يراك الناس سوى نقطة في سماء زرقاء، وأنت تراهم مجرد حبات رمال على شاطئ الأوهام.

لكن السقوط حتمي، وحين يحدث ذلك، يكون سقوطًا مدويًا؛ إمّا في مصحةٍ نفسية، أو خلف القضبان، بسبب قضايا تخالف الأعراف الدينية والمجتمعية.

كان البالون الأزرق مشروعًا أكثر من مجرد لعبة.

كان طموحًا، وهروبًا، ومرآةً لكلّ ما هو ضد تقاليدنا وأعرافنا.

في البداية، قاومت. كنتُ أريد أن أدرس وأتعلّم. أحلم بأن أصبح عالم آثار، لأكمل خطى جدي، أستخرج من باطن الأرض ما يثبت أننا كُنّا يومًا حضارةً عظيمة، بينما الآخرون يعيشون في كهوف، ويحاربون الظلام بالشعلات.

لكن الجميع من حولي كانوا هناك، في الفضاء الأزرق، يقهقهون، يصنعون محتوى سطحيًا تافهًا، يتلقّون الهدايا، ويتحدثون عن "الترند" و"الأموال السريعة الكسب".

كنت أراقب من بعيد، برهبةٍ وخيفة. أدرس كتب التاريخ، بينما أصدقائي يعدّون المشاهدات، ويحفّزون متابعيهم على الإعجابات والمشاركات.

ثم، في لحظة ضعف، حملتُ التطبيق.

في البداية، كنت أمزج بين العلم واللعب. أنشأت قناة أشرح فيها الحروب القديمة، والعلوم الغريبة، والممالك المنسية، وأحفر في جذور الأساطير. لم يتابعني أحد، ولم أتلقَّ دعمًا.

غيّرت الخطة.

بدأت بتقليد الآخرين: أصنع مقالب، أرقص، أعمل تحدّيات الطعام.

ارتفعت الأرقام.

أصبح بالوني ينتفخ.

تركتُ الدراسة. أصبحتُ أقضي الليل والنهار أمام الكاميرا. المال بدأ يأتي. شهرةٌ خادعة، رسائل إعجاب، عروض سفر. كنتُ أحلق في الفضاء الافتراضي.

جدي رحل في تلك الفترة.

لم أذهب إلى جنازته.

كنت "مشغولًا ببثٍّ مباشر" حصل على أعلى تفاعل.

لكن شيئًا بداخلي ظل يؤلمني، كأنه شوكةٌ في جنبي تؤرق نومي.

بعد عام، كان كل شيء في قمته.

وفي اليوم الذي قررتُ فيه أن أحتفل بوصولي مليون متابع، تلقيت رسالةً صوتية قديمة من جدي، سجلها قبل موته، على شريط كاسيت وجده أبي في خزانته.

كان صوته واهنًا، لكنه صادق:

"يا يوسف... حين تضيع الحقيقة في بحر الضجيج، سيأتي الوقت الذي تبحث فيه عن جذورك فلا تجدها. لا تفرّط فيما بُني قبلك، فالمال يجيء ويذهب، لكن التاريخ... التاريخ لا يكذب. لا تخن التاريخ."

أوقفت البث.

نظرتُ في المرآة.

من أنا؟ ماذا فعلت؟ ماذا قدّمت؟

كلّ ما بنيناه لم يكن سوى وهم... بالونٌ معلّق في الهواء.

قررتُ الهبوط إلى أرض الواقع.

أغلقت الحسابات، مسحت الفيديوهات، وتقدّمت من جديد إلى الجامعة.

في قاعة المحاضرات، كنت الأكبر سنًا، لكنّني كنت الأكثر صمتًا.

عدت إلى بيت جدي. وجدت مكتبته كما هي، والغبار يغلف الكتب التي كان يتلوها عليّ في الطفولة.

هناك، وجدت كتابًا بعنوان: "الزمن حين كان لنا".

وعلى الصفحة الأولى، كتب بخطّ يده:

"إلى يوسف، حين تفهم أن التاريخ ليس للماضي فقط، بل هو مستقبلك أيضًا."

اليوم، حققتُ ذاتي، حلمي، وحلم جدي.

أعمل في المتحف الوطني.

أشرح للزائرين كيف كانت حضارتنا تُبنى على الحجر والعِلم، لا على البالونات الزرقاء.

يمرّ أمامي طلاب، يمسكون هواتفهم، تائهين بين المقاطع. أبتسم بحزن.

لكن بين الحين والآخر، يقترب أحدهم ويسأل:

"ما الذي جعلك تترك كل تلك الشهرة؟"

فأجيبه بجملة واحدة:

"لأن التاريخ، هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يسلبه منّا، مهما حدث."

 

مساحة إعلانية