مساحة إعلانية
بقلم: الإعلامية أمل مسعود*
تُعد مصر واحدة من أهم القوى الناعمة في المنطقة العربية والعالم، حيث استطاعت عبر تاريخها الطويل أن تصدر ثقافتها وفنونها إلى العالم من خلال السينما والمسرح والشعر والغناء. هذه القوى الناعمة، التي شكلت هوية مصر الثقافية لعقود طويلة، تواجه اليوم تحديات جديدة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، مما يستدعي وقفة تأملية لفهم هذا التحول وتأثيره على الصورة الذهنية لمصر.
السينما المصرية: هوليوود الشرق
لطالما حملت السينما المصرية لقب "هوليوود الشرق" بجدارة، فمنذ بداياتها في عشرينيات القرن الماضي، استطاعت أن تصبح المصدر الرئيسي للإنتاج السينمائي في العالم العربي. أفلام عمالقة مثل يوسف وهبي وفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وفريد شوقي، لم تكن مجرد أعمال ترفيهية، بل كانت سفراء ثقافيين نقلوا صورة مصر الحضارية إلى كل بيت عربي.
السينما المصرية نجحت في تصدير القيم الاجتماعية المصرية، واللهجة المصرية التي أصبحت مفهومة في كل أنحاء الوطن العربي، والتقاليد والعادات التي عكست عمق الشخصية المصرية. من "الأسود يليق بك" إلى "شفيقة ومتولي" و"خليك في حالك"، كانت كل هذه الأعمال تحمل رسائل حضارية عميقة عن التسامح والكرم والدفء الإنساني الذي يميز الشعب المصري.
المسرح: منبر الوعي والإبداع
لم يكن المسرح المصري أقل شأناً من السينما في تأثيره الثقافي. من يوسف وهبي إلى سعد أردش، ومن نجيب الريحاني إلى محمد صبحي، استطاع المسرح المصري أن يكون منبراً للتنوير والنقد الاجتماعي. مسرحيات مثل "أهلاً وسهلاً" و"الزعيم" و"العيال كبرت" لم تكن مجرد عروض مسرحية، بل كانت مرايا تعكس المجتمع المصري بكل تعقيداته وتناقضاته.
المسرح المصري نجح في خلق تقاليد مسرحية عربية أصيلة، تجمع بين التراث والحداثة، وبين النقد والترفيه. هذا التراث المسرحي العريق ساهم في ترسيخ صورة مصر كمنارة ثقافية في المنطقة.
الشعر: لسان الأمة وضميرها
الشعر المصري، من أحمد شوقي أمير الشعراء إلى صلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم، كان دائماً لسان حال الشعب المصري وضميره الحي. قصائد تتغنى بالنيل والأهرامات، وأخرى تنادي بالعدالة الاجتماعية والحرية، وثالثة تعبر عن الحب والجمال بلغة شاعرية رفيعة.
الشعر المصري لم يكن محلياً فحسب، بل كان عربياً بامتياز. قصائد أحمد شوقي في مدح الرسول، وأشعار حافظ إبراهيم في وصف أحوال الأمة، كانت تتردد في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، مما جعل مصر مركزاً للإبداع الشعري العربي.
الغناء: سفير العواطف والأحلام
لا يمكن الحديث عن القوى الناعمة المصرية دون التطرق إلى الغناء والموسيقى. من أم كلثوم "كوكب الشرق" إلى محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، استطاع الغناء المصري أن يصل إلى قلوب الملايين في العالم العربي وخارجه.
الأغنية المصرية حملت في طياتها فلسفة الحياة المصرية، من التفاؤل رغم المصاعب إلى الحب العذري والغزل الرقيق، ومن الأغاني الوطنية التي تحرك المشاعر القومية إلى الأغاني الشعبية التي تعبر عن هموم الناس البسطاء.
التحدي الرقمي: وسائل التواصل الاجتماعي
في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، واجهت القوى الناعمة المصرية تحديات جديدة ومعقدة. هذه المنصات الرقمية، رغم إيجابياتها في نشر المحتوى وإيصاله لجمهور أوسع، إلا أنها أدت إلى تأثيرات سلبية متعددة على الصورة الثقافية لمصر.
تشويه المحتوى الثقافي
لعل أبرز التحديات التي تواجهها مصر في العصر الرقمي هو تشويه المحتوى الثقافي. فبدلاً من الأعمال الفنية الراقية التي كانت تميز الإنتاج المصري، انتشرت مقاطع فيديو سطحية ومحتوى هابط يسيء إلى الذوق العام والقيم الثقافية المصرية.
مقاطع الفيديو القصيرة على منصات مثل تيك توك وإنستجرام، والتي تهدف في الغالب إلى جذب المشاهدات السريعة، أدت إلى انتشار صورة مشوهة عن الشخصية المصرية، تركز على الجوانب الكوميديية السطحية أو السلوكيات المنحرفة، بدلاً من إبراز الجوانب الحضارية والثقافية العميقة.
انتشار المحتوى العشوائي
وسائل التواصل الاجتماعي فتحت المجال أمام أي شخص لإنتاج المحتوى ونشره، دون رقابة أو معايير جودة. هذا أدى إلى انتشار محتوى عشوائي يفتقر للمهنية والرؤية الفنية، مما أثر سلباً على الصورة الذهنية لمصر كمنارة ثقافية.
بدلاً من الاستوديوهات المهنية والمخرجين المحترفين والممثلين المدربين، أصبح بإمكان أي شخص إنتاج محتوى "مصري" ونشره للعالم، مما أدى إلى تدني مستوى المحتوى المرتبط بمصر.
تغيير أنماط الاستهلاك الثقافي
وسائل التواصل الاجتماعي غيرت جذرياً من أنماط استهلاك المحتوى الثقافي. الجمهور، خاصة الشباب، أصبح يفضل المحتوى السريع والمختصر، مما أثر على الاهتمام بالأعمال الفنية الطويلة والمعمقة مثل الأفلام الطويلة أو المسرحيات أو الأغاني الطويلة التي كانت تميز الإنتاج المصري الكلاسيكي.
الإساءة إلى الصورة الذهنية لمصر
نتيجة لهذه التطورات، تأثرت الصورة الذهنية لمصر سلبياً في عدة جوانب:
أولاً: تسطيح الثقافة المصرية
بدلاً من الصورة الحضارية العميقة التي كانت تنقلها السينما والمسرح والشعر المصري، أصبحت الصورة السائدة عن مصر في وسائل التواصل الاجتماعي مسطحة وتفتقر للعمق الثقافي.
ثانياً: التركيز على الجوانب السلبية
المحتوى الذي يحصل على انتشار واسع في وسائل التواصل الاجتماعي غالباً ما يركز على الجوانب السلبية أو المثيرة للجدل، مما يعطي انطباعاً خاطئاً عن المجتمع المصري وقيمه.
ثالثاً: ضعف الجودة الفنية
المقارنة بين الإنتاج الفني المصري الكلاسيكي والمحتوى المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر تراجعاً واضحاً في الجودة الفنية والتقنية، مما يؤثر على سمعة مصر كمركز للإبداع الفني.
الطريق إلى الأمام: استعادة القوة الناعمة
رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها القوى الناعمة المصرية في العصر الرقمي، إلا أن هناك فرصاً حقيقية لاستعادة دور مصر الثقافي المؤثر، وذلك من خلال:
الاستثمار في المحتوى الرقمي الجيد
يجب على المؤسسات الثقافية المصرية الاستثمار في إنتاج محتوى رقمي عالي الجودة يحافظ على القيم الثقافية المصرية الأصيلة، مع استخدام التقنيات الحديثة لإيصال هذا المحتوى للجمهور الشاب.
تطوير استراتيجيات تسويق ثقافي
تحتاج مصر إلى استراتيجيات تسويق ثقافي متطورة تستغل إيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي في نشر المحتوى الثقافي الراقي، دون التنازل عن الجودة والقيم.
التعاون بين الأجيال
من المهم خلق جسور تعاون بين جيل الرواد في الفن والثقافة المصرية والجيل الجديد من المبدعين الرقميين، لضمان نقل الخبرة والحفاظ على التراث مع مواكبة التطورات التكنولوجية.
الرقابة الإيجابية
بدلاً من الرقابة السلبية التي تمنع وتحظر، تحتاج مصر إلى رقابة إيجابية تشجع وتدعم المحتوى الثقافي الجيد وتكافئ المبدعين الذين يساهمون في تحسين الصورة الثقافية لمصر.
خاتمة
القوى الناعمة المصرية تمتلك تاريخاً عريقاً وإرثاً ثقافياً ثرياً يمكن أن يكون أساساً قوياً لاستعادة دور مصر المؤثر في المشهد الثقافي العالمي. التحدي الحقيقي يكمن في كيفية التعامل مع تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة ذكية تستفيد من إيجابياتها وتتجنب سلبياتها.
المطلوب اليوم ليس رفض التكنولوجيا أو وسائل التواصل الاجتماعي، بل تطويعها لخدمة الثقافة المصرية الأصيلة. مصر التي أعطت العالم أم كلثوم ونجيب محفوظ ويوسف شاهين وأحمد زكي، قادرة على أن تعطي العالم في العصر الرقمي مبدعين جدد يحملون نفس الروح والعمق الثقافي، لكن بأدوات العصر ولغته.
الحفاظ على القوى الناعمة المصرية واستعادة تأثيرها الإيجابي مسؤولية جماعية تتطلب تضافر جهود المؤسسات الرسمية والمبدعين والجمهور، لضمان أن تستمر مصر في أداء دورها كمنارة ثقافية تشع بالحضارة والإبداع على العالم.
****
الإعلامية أمل مسعود - كاتبة ومحللة ثقافية متخصصة في دراسة تأثير وسائل الإعلام على الثقافة العربية