مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

الكاتبة همت مصطفى وحوار مع مبدع إنسان مع الشاعر سعيد الصاوي

2025-05-02 02:04 AM - 
الكاتبة همت مصطفى وحوار مع مبدع إنسان مع الشاعر سعيد الصاوي
حوار مع مبدع إنسان
منبر

المقدمة

الشاعر الكبير سعيد الصاوي، اسمٌ يضيء في سماء الشعر المصري، حيث جمع بين الفصحى والعامية، وصنع بصمته الخاصة عبر إبداعاته التي نُشرت في كبرى الصحف والمجلات، فضلًا عن إسهاماته الثقافية في دعم المواهب الناشئة وتنظيم الفعاليات الأدبية. رحلة طويلة من العطاء، تنوعت بين الشعر، والإشراف الثقافي، والتحكيم في المسابقات، جعلته من الأسماء التي لا تُنسى في المشهد الأدبي. في هذا الحوار، نقترب أكثر من عالمه، نتحدث عن تجربته الإبداعية، وتأثيراته، وأبرز المحطات في مسيرته الأدبية.

*في البداية، كيف تُعرّف نفسك للقراء؟ نود أن نسمع منك عن رحلتك وأبرز محطاتك وأعمالك التي تعتز بها.

**أنا سعيد الصاوي، من مواليد السادس من مايو عام 1954، حي روض الفرج. نشأت وسط أسرة بسيطة، أخت تكبرني وأخوين يصغراني، وكان والدي يعمل في المخابرات العامة. لم أرَ من أجدادي سوى جدتي لأمي، التي كنا نناديها "ماما سكينة"، وكانت الحضن الذي جمعنا بعد وفاة والدتي في صيف 1965، حيث تولّت تربيتنا بكل حب وقوة حتى كبرنا وتزوجنا.

تلقيت تعليمي في مدارس روض الفرج وشبرا، ثم التحقت بالمعهد العالي للتجارة الخارجية، الذي تحول لاحقًا إلى كلية التجارة وإدارة الأعمال بجامعة حلوان.

في عام 1975، قررت السفر إلى فرنسا ضمن موجة الشباب الباحثين عن فرصة وخبرة في أوروبا، رغم أنني لم أكن مُلمًا باللغة الفرنسية، بل كنت قد رسبت فيها سابقًا! لكن اختيار فرنسا لم يكن لغويًا، بل عمليًا، فقد كانت الشرطة هناك تكتفي بمطالبة المخالفين بالمغادرة دون ترحيل قسري، وهو ما شجعني وغيري على المغامرة.

تلك التجارب، بين شوارع باريس وذاكرة الباجور، شكّلت رؤيتي، وأضافت الكثير إلى تكويني الإنساني قبل الأدبي.

* كيف بدأت رحلتك مع الشعر؟ وما الذي جذبك إلى عالم الكتابة؟

**بدأت علاقتي بالشعر في الصف الثاني الثانوي، لكن ربما كانت البذرة أقدم من ذلك. حين فقدت والدتي وكنت في الحادية عشرة، سمعني بعض أقاربي أغني بصوت خافت أغنية "خسارة" لعبد الحليم حافظ، مستبدلًا كلمة "جارة" بـ"ماما"، فشعروا أن فيّ شيئًا مختلفًا.

في الثانوي بدأت أكتب، متأثرًا بتمثيليات الإذاعة، ثم نسخت أغاني عبد الحليم، قبل أن تأتي الدفقة الأولى بالفصحى، تلتها دفقة بالعامية. ومن يومها وأنا أكتب بالشكلين.

لم أنتج كثيرًا أثناء إقامتي في فرنسا، لكن بعد عودتي للقاهرة، ثم انتقالي إلى الأحساء بالسعودية، وجدت وقتًا للقراءة وإعادة دراسة النحو والصرف، بعد ملاحظات أصدقاء على أخطائي.

كنت أكتب في القالب العمودي، ولم أتصور الشعر إلا شطرين وقافية موحدة، حتى قرأت ديوان "مدينة بلا قلب" لأحمد عبد المعطي حجازي، فهزّني. وبعد سنوات، كتبت قصيدة "خايف"، وكانت المحطة الأولى في شعري التفعيلي، وأسميت بها ديواني الأول.

* درستَ إدارة الأعمال واللغة الفرنسية، فكيف أثرت هذه التخصصات على تجربتك الشعرية؟

**علمتني الإدارة استغلال الوقت، فلم تعطلني مشاغل الحياة عن الكتابة والقراءة وحضور الندوات والورش الأدبية، التي أنصح بها كل كاتب شاب.

أما الفرنسية، فقد ساعدتني إقامتي في فرنسا على إتقانها، ومع امتلاكي لأدوات الفصحى، أصبحت أقارن بين اللغتين في التراكيب والتعبير. وعندما درست الترجمة، بدأت ألاحظ عيوبها في ترجمات الأفلام، مما زاد من وعيي اللغوي والدلالي.

* تأثرتَ بعدد من الشعراء الكبار، فمن أبرز الملهمين لك في الفصحى والعامية؟

**في الشكل، تأثرت كثيرًا بأحمد عبد المعطي حجازي، أما من حيث اللغة، فكان نزار قباني الأكثر حضورًا في بداياتي، إذ تسللت مفرداته إلى قصائدي. كذلك كان لـ"حراجي القط" لعبد الرحمن الأبنودي وقعٌ خاص لدي.

شعراء المهجر ومدرسة أبولو تركوا أثرًا نفسيًا كبيرًا، لأنني من عشاق الهدوء والطبيعة، وقد وجدت فيهم هذا النزوع الصوفي الهادئ. ومع ذلك، أستطيع القول بأن كل حرف قرأته في كتاب ترك فيّ أثرًا ما، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا.

أحرص دائمًا على إنهاء أي كتاب أبدأه، حتى إن لم يُعجبني، لأنني أؤمن بأن الرأي العادل لا يُبنى على نصٍ أو اثنين، بل على قراءة واسعة.

الإبداع والتجربة الشعرية

* كتبتَ في الفصحى والعامية، كيف ترى الفرق بينهما من حيث الإبداع والتعبير؟

**سؤال صعب، ولا أعلم إن كنت أستطيع الإجابة عنه بما يرضيني قبل أن يُرضي غيري. الإبداع في الفصحى والعامية يخضع لنفس القواعد الفنية، وكلاهما قادرٌ على التعبير العميق عن المشاعر والقضايا.

لكن الفصحى تستلزم إتقان النحو والصرف، وهو ما جعلني أؤجل نشر دواويني الفصحى لفترة طويلة، خشية الوقوع في أخطاء تُؤخذ عليّ، بينما نشرت خمسة دواوين بالعامية. أول ديوان فصحى نشرته كان عام 2019 بعنوان "لكِ يا مهجة قلبي"، مستلهمًا من أمسية شعرية نظمتها الشاعرة همت مصطفى، جمعت بين أجيال ثلاثة من شعراء الفصحى، وكنت فيها ممثلًا للجيل الأكبر.

في 1984، كنت قد ظننت أن العامية لا تصلح لحمل القضايا الكبرى، فتوقفت عن كتابتها عشر سنوات، حتى عادت إليّ بقصيدة "مرغم بمحض الاختيار" عام 1994، والتي أعتبرها محطة مفصلية في تجربتي. ومنذ ذلك الحين أكتب باللغتين دون تفرقة.

القصيدة، في نظري، كائنٌ مستقل، لا نختار له لغته ولا وزنه ولا توقيته، بل يختار هو. تأتي القصيدة كما هي، لا كما نريد لها أن تكون. لكن تبقى الفصحى أكثر صعوبة في التلقي، بسبب تراجع مستوى التعليم والضعف العام في القراءة.

الشاعر الحقيقي لا يتدخل في نوع القصيدة، إنما الحالة الشعورية هي التي تحدد شكلها ولغتها وبنيتها، وما على الشاعر إلا أن يمسك قلمه ويكتب.

* لديك العديد من الدواوين المنشورة، أيها الأقرب إلى قلبك؟ ولماذا؟

**كل ديوان يحمل في طياته ظروفًا وذكريات تضعه في مكانة خاصة داخل قلبي.

ديوان "خايف" كان أول ديوان نشرته عام 2004، ولم أكن أفكر في خطوة النشر أصلًا، لكني فعلتها بتشجيع من أدباء كبار أكن لهم كل الحب، وقد رحلوا عن عالمنا، مثل د. كمال نشأت، عبد المنعم عواد يوسف، القاص مصطفى عبد الوهاب، والباحث في التراث الشعبي د. لطفي سليم.

ثم جاء ديوان "قلبين من دهب" عام 2007، وكان أول ديوان عاطفي بالكامل، وبعده عدت للتنوع في "مشوار" (2011).

عدت مرة أخرى للعاطفة في "كنت فاكر بيكِ حققت الأماني" (2014)، ثم "خلص الرصيد" (2017)، حتى أصدرت بعدها أول ديوان فصحى.

أما عن الديوان الأقرب إلى قلبي، فهو سؤال صعب، لأنني في المراحل الأولى كنت أركض وراء الشعر وأبني القصائد على أي جملة مستساغة. أما اليوم، فقد صرت أعيش التجربة، سواء واقعية أو متخيلة، وأتركها تكتب نفسها.

لذلك، كل قصيدة هي جزء من مشاعري، من فرحي أو حزني، وهذا ما يجعل لكل ديوان خصوصية لا يمكن ترتيبها بالقلب.

* في قصائدك نجد مزيجًا بين العاطفة والتأملات الاجتماعية، كيف توظف الشعر في معالجة القضايا الاجتماعية؟

**أظن أنني أجبت ضمنًا عن هذا في إجابات سابقة، لكن لأضيف هنا:

الشاعر يجب أن يكون يقظًا، منتبهًا لمفردات الحياة التي يعيشها، وله رأي فيما يدور حوله، لأنه لسان الناس، وصوتهم حين يصمتون.

ليس لدى الشاعر من سلاح سوى الكلمة، وتوظيف الشعر في خدمة المجتمع لا يتم بتكلف أو قصد، بل يأتي من معايشة الواقع وتفاعله الصادق معه.

ولا أنسى المقال الذي كتبه عني الشاعر الكبير د. كمال نشأت في جريدة وطني بتاريخ 2 يوليو 2006، بعنوان: "ديوان خايف لسعيد الصاوي... هذا نموذج للشعر التنويري الذي نريده".

هذا المقال كان له أثر بالغ في تأكيدي على تبني القضايا الاجتماعية والسياسية في شعري، لعل القصيدة تكون وسيلة إيقاظ لمن نام، أو إنارة لقلب أطفأه اليأس.

* هل هناك قصيدة كتبتها وكان لها تأثير خاص في حياتك أو حياة جمهورك؟

**نعم، بالتأكيد. ولا أظن أنني أنفرد بهذه الميزة، فلكل شاعرٍ قصائد تسكن قلوب المتلقين، ويطالبون بها دائمًا. خذ مثلًا "تائية عبد المنعم عواد يوسف"، و"نامت نهاد" للدكتور كمال نشأت، و"ويحصل" ليسري العزب، و"المرأة الاستثناء" للشهاوي، و"بور سعيد" لمحمد يونس... وغيرهم كثير.

أما عني، فأظن أن قصيدتي العامية "مرغم بمحض الاختيار" و"صحي النوم"، وكلاهما من ديوان خايف، يمكن اعتبارهما من القصائد المؤثرة.

ففي الأولى، رصدت ما حدث في المجتمع من تغيرات اقتصادية دفعت الناس للهجرة إلى بلاد النفط، بكل ما تحمله من معاناة. أشرتُ إلى البناء على الأراضي الزراعية في عام 1994، قبل أن تتشدد الدولة بثلاثين عامًا، وتطرقتُ إلى أثر المسلسلات على سلوك الناس، وتلوث مياه النيل، وغير ذلك من مظاهر الانحدار التي جعلت السفر خيارًا ظاهريًا، لكنه في الحقيقة إجبار.

أما "صحي النوم"، فقد كتبتها بعد عودتي من الغربة، وجاءت مقارنة بين بلدٍ صحراوي حقق الاكتفاء الذاتي وتفوق رياضيًا، وبين حالنا الذي تراجع رغم كوننا الأصل، ختمت كل مقطع بنداء يوجع القلب: "إنتو ليه يا ولاد بلادي / قلبكم بارد و فاضي".

كما أن هناك قصيدة "استثناء" بالفصحى، والتي رأى فيها كثيرون مرآة دقيقة لشاعرنا الكبير محمد الشهاوي، واقتبست عنوانها من قصيدته الشهيرة "المرأة الاستثناء"، لأنني رأيت فيه هو نفسه شاعرًا استثناء.

وقد يكون للجمهور اختيارات، وللنقاد آراء أخرى، لكن هذه القصائد ظلت تطلب مرارًا، وربما لأنها تلامس شيئًا حقيقيًا في القلوب.

* في قصيدتك "سحابة صيف"، يبدو أن الحبيب يتظاهر بالقوة بعد الفراق، لكنه غارق في الحسرة والحنين. هل ترى أن هذا الصراع بين التماسك والانكسار سمة من سمات الحب الصادق؟ وكيف تؤثر هذه المشاعر على تجربتك الشعرية؟

**أستطيع أن أجيب باطمئنان: نعم. بالنسبة لي على الأقل، أرى أن الحب الصادق لا يُزيف، بل يترك في القلب ندبة لا تندمل. الحاضر والتاريخ مليئان بقصص محبين انتهت بالفقد أو الجنون أو الموت.

أما أنا، كمحب لا يتخذ الحب وسيلة لملء فراغ، ولا يتسلى به، فالفراق عندي موجع، خاصة حين لا أكون سببًا فيه. لكن، ككبير عائلة، وصاحب مكانة بين الناس، كان لابد من التماسك، أو على الأقل التظاهر به، حتى يتحول التظاهر تدريجيًا إلى صلابة حقيقية، تُمكنني من أن أكون سندًا لمن تهده الحياة.

وأذكر كم من مرة لجأ إليّ من أثقلته الحياة، يشكو ويئن، بينما أنا مثله... مجروح.

هذا التناقض يتسلل إلى القصيدة، فتبدو الكلمات كمن تمسك الجمر وتبتسم، كما في "بحاول، يجوز"، حيث يفضح الحرف ما يحاول القلب ستره.

وهذا التناقض حاضر في كثير من الشعر، خذ مثلًا قصيدة "أيظن" على لسان الأنثى:

"أيظن أني لعبة بيديه؟ / أنا لا أفكر في الرجوع إليه"

ثم تقول في النهاية:

"و رجعت... ما أحلى الرجوع إليه!"

الشاعر الحقيقي كائنٌ متناقض، متمرد، تغمره مشاعر لا تسعها اللغة، لكنها تتسرب على هيئة شعر يوجع ويضيء.

*في العديد من قصائدك ذكرت أنها كتبت في "الإسكندرية"، ما الذي تمثله لك هذه المدينة في كتاباتك؟ وهل تشكل الإسكندرية مصدر إلهام خاص لك في تجربتك الشعرية؟

**الإسكندرية لم تكن تمثل لي خصوصية في البداية، فأنا قبل استقراري النهائي بمصر لم أعرف من جغرافيتها إلا القاهرة، وتحديدًا روض الفرج وشبرا، ثم مدينة الباجور في المنوفية. فرنسا كانت استثناءً، ولكنها لم تكن وطنًا شعريًا، بل محطة من العمر.

كل ذلك تغيّر بعد أن امتلكنا شقة في العجمي، بيطاش، تطل على البحر مباشرة. كانت ثالث عمارة في خط عمودي على الموج. اعتدت منذ أن أصبحت ضمن فريق إعداد الأمسيات الكبرى في معرض القاهرة الدولي للكتاب – بداية كمساعد، ثم كمشرف مسؤول – أن أختار يوم انتهاء المعرض، غالبًا الخامس من فبراير، لأهرب إلى الإسكندرية أسبوعًا. أستريح من عناء التنسيق والتواصل مع الشعراء، وأستسلم لهدوء البحر الذي تفرغت له أخيرًا. البحر في الشتاء ساحر، والمكان ساكن، والسماء تميل إلى الحزن الرائق. في هذا المشهد الهادئ، كانت القصائد تختار أن تولد، حاملة رائحة الملح، وضوء الرماد.

لكن يؤسفني أن هذه العلاقة لم تستمر كما توقعت بعد التقاعد، فالفعاليات الثقافية بالقاهرة شغلتني، ورغم ذلك، ما زلت أحنّ إلى تلك اللحظات المنعزلة، إلى هذا البراح الذي أفتقده بشدة وسط صخب المدينة.

المشهد الأدبي ودورك في التأسيس

*كنت من المؤسسين لنادي أدب قصر ثقافة عمال شبرا الخيمة، كيف ترى دور الأندية الأدبية في دعم المواهب الشابة؟

**إيماني العميق بأندية الأدب ينبع من تجربتي الشخصية. لسنوات طويلة كنت خارج مصر، فعُزلت عن تفاصيل الوسط الثقافي، وما أن عدت، حتى بدأت رحلة استكشافه من جديد: أماكن الإلقاء، الورش الأدبية، المنتديات... وهناك أدركت قيمتها الحقيقية، وتأثيرها في تشكيل الوعي الإبداعي.

بدأنا نواة نادي الأدب في قصر ثقافة العمال بشبرا الخيمة باجتماعات بسيطة داخل المكتبة، جمعتني بالشاعر محمد رمضان أبو عبية، والمخرج محمد شحاتة، والشاعر عبد الناصر أحمد. لكن سرعان ما توقفت هذه اللقاءات بأمر إداري. ومع تغير الإدارة، عاد الأمل مجددًا بفضل دعم الراحل محمد فهمي درويش، إلى أن اكتمل النصاب القانوني للنادي في 2008، وانتُخبت رئيسًا لمجلس الإدارة بإصرار من الزملاء. وقتها أعلنتها صريحة: لن أترشح مرة أخرى، لا رئيسًا ولا عضوًا. إيمانًا مني بضرورة تداول المسؤوليات، ورفضًا لأي تشبث بالموقع.

أسّسنا النادي ليكون حضنًا حقيقيًا لكل موهبة تتفتح، وحرصت أن أجعل من الورش الأدبية مساحة للتكوين، ومن الأمسيات منصة لاستضافة كبار الشعراء، ليكونوا قدوة حقيقية لجيل يتلمس خطاه. وكم كانت شهادات الحضور من خارج النادي تؤكد أننا نصنع ما لا يصنعه غيرنا!

رغم انسحابي من العمل الإداري، لم أتخلّ يومًا عن دعم النادي، لكنني أقرّ أنني قلق عليه الآن، فالإهمال بدأ يتسلل إليه، خاصة من بعض الأعضاء الكبار الذين خفت حماسهم، وأخشى أن تضيع تلك التجربة الفريدة إن استمر هذا التراجع.

* لك تجربة طويلة في تحكيم المسابقات الأدبية، ما المعايير التي تركز عليها عند تقييم الأعمال؟

**مسئولية المُحكِّم تتقاطع تمامًا مع مسئولية القاضي، فكلاهما يتوخى الإنصاف والعدل. أما عن المعايير التي أرتكز عليها، سواء في المسابقات، أو إجازة النشر، أو عضوية اتحاد الكُتاب، فهي المعايير الفنية للكتابة: الانضباط الموسيقي، التمكن من قواعد اللغة، جودة الصورة الشعرية، والصياغة الجيدة للجملة الشعرية، والتحكم في وحدة الموضوع.

كما أُشدد على عدم الانسياق وراء طول القصيدة باعتباره دليل "فحولة شعرية"؛ فالمهم أن تكون القصيدة رسولًا صادقًا ومكثفًا لتوصيل الرسالة، دون إطالة مملة أو تقصير مُخِل. كل ذلك دون السماح لذوقي الخاص بالتدخل في الحُكم.

* بصفتك شاعرًا وموجهًا للأجيال الجديدة، ما النصيحة التي تقدمها للشباب الذين يريدون الدخول إلى عالم الشعر؟

**بدايةً، الدخول في عالم الشعر لا يخضع للإرادة، فالشعر منحة ربانية على الشاعر أن يُنمّيها. وهنا يأتي دور النصح والإرشاد، وهي في الحقيقة نصائح وُجّهت إلينا في بداياتنا الأدبية.

النصيحة الأولى والأكثر أهمية هي القراءة: في الشعر أولًا، ثم في شتى مناحي المعرفة، إلى جانب دراسة النحو والصرف لمن يكتب الفصحى.

ثم يأتي دور حضور الندوات والأمسيات مستمعًا، والورش الأدبية مشاركًا، مع عدم الغضب من التعليقات أو التوجيهات القاسية؛ فالموهوب الحقيقي يتخذ من القسوة دافعًا ونقطة انطلاق.

وأشهد أن كل توجيه وُجِّه لي في الورش الأدبية التي حرصت على حضورها، كان في صالح النص.

كذلك، على الشاعر الحقيقي – ناشئًا أو مخضرمًا – ألا يصل إلى نقطة "الرضى عن النفس"، لأنها ببساطة... نقطة التجمُّد.

ولو لاحظتم، لم أوصِ بدراسة بحور الشعر، لإيماني أن الانضباط الموسيقي يجب أن ينبع من الداخل، لا من دليل استرشادي.

كما أن بحور الشعر – تاريخيًا – خرجت من القصائد، لا العكس. وهذا لا يعني رفض دراستها، بل التأكيد على أنها شرط أساسي لمن يريد أن يكون شاعرًا بحق.

وخِتامًا، على الشاعر أن يتدرج في قراءاته صعودًا، لِيُواكب مراحل نضجه الأدبي.

* خلال مسيرتك، تبنيتَ ودعمتَ العديد من المواهب الأدبية الواعدة، هل هناك أسماء معينة رأيت أنها تحمل مستقبلًا مشرقًا في عالم الأدب؟ وما المعايير التي تجعلك تؤمن بموهبة كاتب شاب؟

**طبعًا هناك الكثير. وأولهم تلك الموهبة التي أخذتها دروب الحياة العملية فابتعدت، وأعني أشرقت راضي، التي كانت متميزة جدًا رغم صغر سنها.

كذلك الشاعر محمد البسيوني الذي انتبه لموهبته ، فأصبح لاحقًا من كبار الزجالين، وله معارضة قوية لقصيدة بيرم "هاتجن يا ريت يا اخونا ما رحتش لندن ولا باريز".

هناك أيضًا محمود خاطر، الذي بدأت مشواري معه منذ أن كان زميلًا لابني في مدرسة مبارك الثانوية بميت نما.

وكذلك عادل محمد علي وزوجته رشا ناجح، ومحمد أحمد أبو عمر، ومحمد عصمت، وعبد الرحمن محمد... وغيرهم.

جميعهم أصبحوا أسماءً لامعة، ولهم مكانة مشرفة في عالم الأدب، بل إن بعضهم صار يتمتع بحاسة نقدية متعمقة وذات قيمة.

أما عن المعايير، فيكفيني في البداية توافر الرغبة الحقيقية، والعمل عليها، والحضور المستمر.

ثم يأتي بعد ذلك دور الرعاية المتواصلة. لكني أُنبّه إلى أن رعايتي – أو رعاية أي من الكبار – لن تُؤتي ثمارها إلا إذا اجتهد الشاعر نفسه بجدية.

 *كيف ترى حال النشر الأدبي اليوم مقارنة بالماضي؟

 ** هذا موضوع يطول فيه الحديث ، فانتشار دور النشر الخاصة جعلت من النشر أسهل كثيرًا من ذي قبل ، و لكنه نشرٌ يسير بمبدأ "اطبخي يا جارية ، كلف يا سيدي" ، فلا مراجعة لما تم تقديمه ، و لا معايير للقبول ، و لذا نرى الكثير من الأشياء التي لا تساوي ما طبعت عليه من ورق ، و هو الأمر الذي ينتقل بنا بالضرورة إلى النشر على صفحات الفيس ، أو مجموعات الواتس ، ففيها من الأخطاء ما يدل على عدم حرص كاتبها على اكتساب مهارات الكتاب ، خاصة و أن كل المعلقين يستحسنون ما كتب و يشيدون بالكاتب ، بل و في معرض الكتاب نجد حفلات التوقيع لكتب هؤلاء ، مزدحمة بأصدقاء الشاعر ، ليفوق عددهم عدد من يحضر لحفل توقيع شاعرٍ أو أديبٍ كبير .

*لاحظنا أن لكم إصدارًا جديدًا عن هيئة الكتاب كل ثلاث سنوات تقريبًا. هل هذا النمط في النشر كان مقصودًا من قبلكم، أم أنه جاء وفق ظروف النشر و التخطيط الإبداعي؟ و كيف ترون تجربة النشر من خلال هيئة الكتاب مقارنة بجهات أخرى؟ ** بالنسبة لتجربة النشر في هيئة الكتاب ، فأنا بعد انخراطي في الوسط الأدبي ، وجدت فيه من النقائص ما يوجد في الأوساط العادية ، و أنهم يتسلون في جلساتهم بالحديث عن بعضهم ، و كيف أن فلان كان يرجوه و يلح عليه أن يوافق على طباعة ديوانه ، و أشياء من هذا القبيل ، و لأني من الذين يحرصون دائمًا على أن يظل مرفوع الرأس ، حرصت على أن أقدم ديواني و أنساه ، حتى لا أكون في يومٍ من الأيام ، موضوعًا للتسلية بين أعضاء الوسط ، و هذا ما جعل كل ديوان يخرج من الهيئة بعد ثلاثة أعوام أو أكثر ، مثلي مثل كل شخص عادي ليس له واسطة .

أما الفارق بين النشر في هيئة الكتاب و غيرها من الجهات الأخرى ، فبداية أنا لم أنشر في جهة أخرى إلا ديوان "لكِ يا مهجة قلبي" ، الذي خرج من هيئة قصور الثقافة ، و لكن من خلال الاحتكاك بزملائي الشعراء ، و الاشتراك في مراجعة دواوينهم ، ومتابعة خط سيره حتى خروجه إلى النور أقول : -

  1. إن الهيئة تعطي مقابل مادي للمؤلف ، أما الجهات الخاصة فهي تأخذ من المؤلف .
  2. إن للهيئة منافذ توزيع عبر محافظات مصر المختلفة ، مما يسمح بفرصة جيدة للشاعر بالانتشار عبر اقتناء كتبه ، أما الجهات الأخرى ، فإما أن يعطوك كمية النسخ التي تم الاتفاق عليها ، ليقوم المؤلف بالتصرف فيها بمعرفته ، أو يدعون أن لك نسبة من المبيعات ، و لم أسمع عن شخصٍ نال من هذه الجهات أي مقابل ، و لا يعرف أصلًا كم باعوا من نسخ ديوانه .
  3. ما يقدم للهيئة يتم فحصه و إجازته أو رفضه ، أما الجهات الأخرى فهي تقبل كل ما يقدم لها ، لأنها تتعامل مع الموضوع بمنطق الصفقات ، و ليس بمنطق الثقافة .

الطموحات والمستقبل

* لديك أعمال تحت الطبع، هل يمكن أن تخبرنا عن مشاريعك القادمة؟

**لدي عدة دواوين جاهزة، منها ديوان أطفال بالعامية بعنوان "وطن بيقوم"، وآخر بالفصحى بعنوان "اللحن المفقود"، وكلاهما بانتظار دورهما في هيئة قصور الثقافة. وبالإضافة إليهما، تحتفظ ملفاتي بما يكفي لإصدار خمسة دواوين أخرى على الأقل، عامية وفصحى، لكن إصراري على النشر في المؤسسات الحكومية يجعل وتيرة النشر أبطأ بسبب كثرة المتقدمين.

* كيف ترى مستقبل الشعر في ظل التطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي؟

**الشعر سيبقى الواحة التي يلوذ بها الناس هربًا من صخب الحياة، أما الكتاب الورقي فمصيره إلى التراجع، ليحل محله الملف الرقمي، وهذا سيسرّع انتشار النصوص. وقد تناولت هذه الفكرة في قصيدتي "السر"، التي تصور دهشة الأحفاد وهم يرون كتابًا ورقيًا لأول مرة، ويتساءلون عن حقيقته.

* قصيدة "السر" تحمل أبعادًا فلسفية وتأملات عميقة، ما الدافع وراء كتابتها؟ وهل كان "السر" انعكاسًا لتجربة شخصية أم رؤية عامة؟

**لم يكن الدافع واقعيًا تمامًا ولا خياليًا خالصًا. خطر لي سؤال: كيف ستقرأ من أحببت قصائدي بعد رحيلي؟ وكيف سيكون وقعها عليها؟ هو تساؤل وجودي، نابع من تجربة عاطفية حقيقية، لكنه أيضًا رؤية متخيلة لما بعد الغياب.

التجربة الباريسية وتأثيرها

* قضيتَ فترة في باريس، وهي مدينة لها تأثيرها الثقافي والفكري العميق، كيف أثرت هذه التجربة على تكوينك الشخصي ورؤيتك الإبداعية؟ وهل انعكس هذا التأثير في أعمالك الأدبية؟

**الإقامة في فرنسا كانت تجربة مفصلية. هناك أدركت أن الإنسان قادر على بلوغ مستويات من الجودة والإتقان لم يكن يتصورها، فقط لأن المجتمع هناك لا يعرف التراخي. تعلمت التعايش مع المختلف: في الدين، أو اللون، أو الهوية؛ هناك، كل فرد حر ما لم يفرض قناعاته على الآخرين، والعلاقات تُبنى على الزمالة والاحترام الإنساني.

كما انفتحت على أشكال من الجمال كنت أجهلها: الموسيقى، الفنون التشكيلية، التمثيل الصامت، العمارة... بقيت مفتونًا بها حتى اليوم، وإن كنت الآن أقل تحمّلًا للموسيقى الصاخبة التي كنت أستمتع بها في شبابي. أما عن انعكاس هذه التجربة في شعري، فهو مؤكد، لكن الحكم الدقيق يبقى في يد النقاد.

 بدون مونتاج

* كتاب أو كاتب كان له تأثير عميق في مسيرتك؟

**أنيس منصور بكل ما كتب، ديوان مدينة بلا قلب لحجازي، أشعار نزار قباني، محمد الشهاوي بموهبته وحضوره، كمال نشأت الذي علّمني أن أقول رأيي دون مواربة، والمسرح الذهني لتوفيق الحكيم.

* قصيدة أو عمل أدبي تفتخر به أكثر من غيره؟

**قصيدة براءة، لأنها ترسم ملامح الإنسان كما يجب أن يكون.

* لو لم تكن شاعرًا، ما المجال الذي كنت ستختاره؟

**ناشط في مجال البيئة، لأحول القمامة إلى كنز: نظافة، فرص عمل، سلع مفيدة، وترشيد للموارد الطبيعية.

*هل تؤمن بأن الشعر ما زال قادرًا على إحداث تغيير في المجتمع؟

** بالتأكيد. ثورة 25 يناير خير شاهد، حين ردّد المتظاهرون أبيات الشابي: إذا الشعب يومًا أراد الحياة، وأشعار أحمد فؤاد نجم، ومحمد بهجت، وأغنية صورة لصلاح جاهين.

* كلمة تقولها للشباب الذين يحلمون بأن يصبحوا شعراء؟

**آمنوا بأنفسكم... ثم انطلقوا.

* لو طُلب منك أن تختم هذا الحوار ببيتٍ من شعرك يلخص رحلتك، فماذا تختار؟

** من الصعب أن أختزل الرحلة في بيت، لذا أُحيلكم إلى قصيدتي "كراسة أشعاري"، وفيها أقول:

"هذي كراسةُ أشعاري، فيها ما دارَ بأفكاري

تحكي عن حلمٍ لا يُطفأ، عن قلبٍ يسكنُ أسفاري

وعن نفسٍ لا تخشى يومًا أن تبحرَ ضدَّ التيارِ

تكتبُ للخير، وترحل دومًا نحو حدودِ الإبصارِ"

– من قصيدة "كراسة أشعاري"، القاهرة 1976 / السعودية 1993

تلغراف

لو أُتيح لك إرسال "تلغراف" إلى من ترك فيك أثرًا، وساهم في تشكيل رحلتك الإبداعية أو الإنسانية، فلمن توجهه، وماذا تقول؟

** إلى أبي: ورثتُ منك الجدية والالتزام، فصرتُ ما أنا عليه.

إلى ماما سكينة: منكِ تعلّمتُ الطيبة والتسامح، وما زالا يحكمان قلبي.

إلى د. كمال نشأت: حين استحسنتَ قصيدتي، ظننتك تجامل، وحين رأيتك تنتقد بشجاعة، عرفت أنك صادق. شكراً لتوجيهاتك التي ظلت ترشدني حتى اليوم.

إلى كريستيان، مديري الفرنسي: علمتني أن نخفي ألمنا لنُتمم واجبنا، وأن الرقص أحيانًا قد يكون قناعًا للوجع.

إلى د. سعيد اللاوندي: سأظل أحكي كيف جعلتَ المستحيل ممكنًا، والحلم واقعًا.

الخاتمة:

حين يتحدث شاعرٌ عن غربته، يُصبح الصمت لغة، وتتحوّل الكلمات إلى نوافذ نطلّ منها على وجعٍ جميل.

في هذا الحوار، لم نكن نبحث فقط عن إجابات، بل كنا نلملم شتات مبدعٍ عاش ما كتب، وكتب ما عاش، فجاءت كلماته تذكارًا لصغاره، ووعدًا لقارئٍ سيأتي.

نختم هذا اللقاء بامتنانٍ عميق، لصوتٍ لم يخشَ التيار، ولقلبٍ لم يتخلَّ يومًا عن حلمٍ أخضر.

شكرًا لك، شاعرنا، على عبورك بنا إلى ضفافك.

أُجري هذا الحوار ضمن سلسلة "حوار مع مبدع إنسان" التي تُعدّها وتُقدّمها الكاتبة والشاعرة همت مصطفى، والتي تسعى من خلالها إلى تسليط الضوء على الوجوه الإنسانية للمبدعين الذين يحملون الجمال في أقلامهم وقلوبهم، بعيدًا عن ضجيج الأضواء وقوالب الإعلام التقليدية.

مساحة إعلانية