مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

الكاتبة همت مصطفى وحوار مع مبدع إنسان مع الشاعر مفيد فهد نبزو

2025-05-23 02:17:08 - 
الكاتبة همت مصطفى  وحوار مع مبدع إنسان مع الشاعر مفيد فهد نبزو
حوار مع مبدع إنسان
منبر

 يُعد الشاعر مفيد نبزو واحدًا من أبرز الأصوات الشعرية في العالم العربي اليوم، يتسم إبداعه بالصدق العميق والجرأة الأدبية التي لا تخشى الكشف عن أبعاد النفس الإنسانية في معاناتها وأفراحها. في كل قصيدة له، تجد نفسك في مواجهة مع معاني الحب، الألم، والصراع، ولكن بروح تجديدية تنبض بالحياة وتدفع بك إلى تأملات جديدة. الحوار الذي سنقرأه اليوم يكشف عن جوانب شخصية شاعر يتنقل بين حالات الإبداع والتأمل والصمت، فلا يكتفي بتقديم الشعر فحسب، بل يقدم رؤية عميقة للحياة من خلال كلماته التي تحمل طاقةً روحيةً لا تنتهي. مفيد نبزو، في إجاباته على أسئلتنا، يقدم لنا شذرات من ذاته، فنتعرف عليه ليس فقط كفنان، بل كإنسان يرتقي بوعيه الفني ليصل إلى أعلى درجات التعبير.

التكوين الإنساني والبدايات

* كيف تُعرّف نفسك للقراء؟ نود أن نسمع منك عن رحلتك وأبرز محطاتك ومؤلفاتك وأعمالك التي تعتز بها.

**أنا شاعرٌ وإنسان، وُلِدتُ من رحم المعاناة، فصقلتني، وأرهفت حواسي، وطهَّرت عاطفتي، وأطلقت خيالي. كانت المعاناة وقودي، والقراءة مطري الأول، أروت ظمئي منذ البدايات، فأثمرت أدبًا، وأزهرت إبداعًا، ووسمتني بالحب والتواضع والصدق والإيثار. لذلك تمنيتُ الخير للجميع، والفرح للجميع، أن يُهزم الشر ويزهق الباطل، لأنني ناسك في محراب البيان، أرنّم للعشق والجمال والوطن، وللحق والعدالة والإنسانية.

ما كنت لأحلّق في سماء الشعر العربي المعاصر، لولا أن حروفي امتلكت جناحين من نور ونار. صار بياني عزاءً للحزانى، ومنارةً للحائرين، وفرحًا للمحرومين، وغناءً للعاشقين. لكل شاعر تكوينه، أما تكويني فقد نشأ في جوّ من الوداعة، والحزن النبيل، تأثرت فيه بأبي العلاء المعري منذ بداياتي. كنت أشعر أنني أحترق، لكنه احتراق الفينيق، الذي يولد دومًا من الرماد.

وجدت نفسي حائرًا في هذا العالم المتناقض: ضيّق واسع، مظلم منير، متجهّم باسِم. فيه امتزجت ألوان الأسى بريشة الوعي، فرسمت أول خيوط وجودي كشاعر. ولدتُ في 12-7-1963 بمدينة محردة السورية، الواقعة على كتف نهر العاصي، والتي تتبع محافظة حماة، مدينة الشعراء وأمّ النواعير. هناك ترعرعتُ بين طبيعةٍ ريفية وأفقٍ حضاري، بين بساطة الضيعة وتقدّم المدينة، حيث العلم والعمل والتنظيم، وحب الحياة.

كانت بداياتي تتشكّل دون أن تتبلور، حتى انتسبتُ إلى كلية الآداب بجامعة حلب – قسم اللغة العربية، وهناك شاركت عام 1986 في الملتقى الأدبي الثاني عشر للأدباء الشباب بقصيدتي "ناقوس الجامع ومئذنة الكنيسة". كانت فرحتي لا توصف حين رأيت كلماتي منشورة لأول مرة في الصحف والمجلات المحلية والعربية، ثم في الفضاء الإلكتروني لاحقًا، لأكون من شعراء المرحلة الانتقالية بين الورق والرقمية.

من أبرز محطاتي دراستي الأكاديمية، فقد نلت إجازة في اللغة العربية من جامعة حلب، وهناك توثّقت صلتي بأدباء وشعراء وفناني المدينة. بدأت رحلتي مع القصة القصيرة، لكن سفينتي رست أخيرًا على شاطئ الشعر، وكان لي أربعة دواوين مطبوعة: كرم الغزل، ناي بلا حنين، مشوار الحلا، والقدس صبّارة الروح. نشرت أيضًا مئات القصائد في "بوابة الشعراء"، و"ديوان العرب"، وفي إصدارات مؤسسة البابطين. وهناك مؤلفات أخرى في الشعر ما تزال تنتظر النور.

أعتز بكل ما كتبت، لأنه ينبع من رؤى ذاتية صادقة، تسعى إلى أن تلامس القلوب وتثير الدهشة بجمالها وصدقها.

* من مدينة "محردة" خرجت تحمل الشعر كزوادتك… هل تتذكر أول لحظة شعرت فيها أن الكلمة قدرك؟ وما الذي ترك أثره الأعمق في ذاكرتك الإبداعية؟

**إن أول لحظة شعرت فيها أن الكلمة قدري كانت يوم كنت في الصف الخامس الابتدائي، حيث كتبت على درج سطح منزلنا أبياتًا عن بلدتي، وأرسلتها إلى إذاعة دمشق، فأذيعت بإلقاء جذاب كان محفزًا لي على الاستمرار برغبة ونشوة لا حدود لها.

أما أكثر ما ترك أثره العميق في ذاكرتي الإبداعية فهو رثائي لأقرب المقربين لي فكريًا، ونفسيًا، وعاطفيًا، ممن ودَّعوا هذه الدنيا الفانية فجأة قبل الأوان وهم في ربيع العمر، وزهو الشباب، وأوج العطاء. وكذلك جحود الفضل، ونكران الطيب، وغرور الفارغين، والتملق، والنفاق، وحب الأنا، والتكالب على الانغماس المادي الذي يطعن في صميم القيم الوجدانية. وقد لخصت ذلك في أكثر من قصيدة، كما في قصيدتي "درب الشاعر":

أيامُ عمري - رحى الطاحونِ - سنبلة ٌ

ياليتَ حباتِها نقر ُ العصافيرِ

تدورُ بي سنواتُ العمر مثقلةً

ومن أنينيَ أنَّاتُ النواعيرِ

عمرٌ من الشكِّ، والأشواكُ توخزني

فهل زرعتُ على رملٍ أزاهيري؟!

وكيفَ تاهتْ مع البيداءِ قافلتي

إنْ ما انحرفتُ، ولا اختلَّتْ معاييري

لسوفَ أبقى برغم اليأسِ مُبتهجاً

وللظباءِ ظلالٌ في مشاويري.

* كيف شكّلت البيئة السورية وجدان مفيد نبزو الشاعر والإنسان؟

**البيئة السورية بيئة متنوعة متآلفة، وجمالياتها من تنوعها، فهي قصيدة جميلة مترابطة بتراكيبها، معبرة بغنى معانيها، جزلة بألفاظها، رشيقة بأسلوبها، غنية بمضمونها وفحواها، ومنسجمة مع موسيقاها. إنها الدرة العصماء التي تلهم الشعراء، وقد استلهمت منها أبدع القصائد بأبلغ المعاني. من هذه البيئة التي يتعانق فيها السهل والجبل والوادي، ويتآخى فيها البحر والصحراء، ويتباهى التاريخ بأبجديته، تفاعلت شعريًا معها، ومع أسرتي الكبيرة بكل الأغراض الشعرية المتنوعة ما عدا الهجاء الذي ليس من طبعي وطبيعتي، ولا مفرداته في معجمي.

* ماذا كانت نظرة الأسرة والمحيط لموهبتك في بداياتها؟ وهل شعرت يومًا بأنك تغرد خارج السرب؟ لم يكن للأسرة دور أكبر من تأمين مستلزمات الحياة والدراسة بشكل بسيط، تميزه القناعة التي هي نعمة متوجة بالشكر، ومكللة بالرضا التام. ولكن الاهتمام بالموهبة لم يكن بالشكل المطلوب، ولاسيما أن الفكرة المغروسة في الأذهان - للأسف - هي أن هذه المجالات لا تطعم خبزًا، وأن حرفة الأدب حرفة الفقر. كما أن المحيط لم يكن مشجعًا في مجتمع يبحث عن الثراء المادي، عما يدر أموالًا أكثر، فيحترم أصحاب المكاسب والمناصب، ولا يدرك أنها زائفة زائلة لا تدوم كما زال الحارث بن عوف، وهرم بن سنان. ولم يبقَ ذكرهما، ولا أموالهما، لو لم يدفعا من هذا المال لإيقاف الحرب بين عبس وذبيان، فخلدهم الشاعر زهير بن أبي سلمى بقصيدته الشهيرة:

يمينا ً لنعمَ السيدان وجدتما

على كلِّ حال ٍ من سحيلٍ ومبرمِ

وقد قلتما إن ندركِ السلمَ واسعًا

بمالٍ ومعروفٍ من القولِ نسلمِ.

وللإنصاف، يحق لي أن أعتز بأهمية دور بعض أساتذتي في اللغة العربية، وبعض المهتمين رغم قِلَّتهم آنذاك. ولذا كنت أشعر أنني أغرد خارج السرب، لأن الغرسة الطيبة بحاجة لرعاية وسقاية واهتمام كي تثمر ثمارها الناضجة اليانعة.

* لو قُدّر لك أن تراسل نفسك الأولى، شاعر البدايات، فبماذا تنصحه؟

**أنصحه أن يتسلح بالإرادة، وأن يعزز ثقته بنفسه أكثر فأكثر، ويثابر دون يأس أو إحباط بكل تصميم وإصرار ليحقق ما يصبو إليه. عليه أن يصغي لصوته الداخلي الذي فيه يتصالح مع ذاته أكثر، ويصنع مستقبله من خلال رؤياه كما يشاء، لا كما يشاء له الآخرون. وأوصيه بالتريث في النشر؛ لأن ما هو ملكه سيصبح ملك المتلقي، وإذا لم يكن ناضجًا ومميزًا فلن يثبت حضوره في الساحة الشعرية.

* في زمن يسيل فيه الدم أكثر من الحبر، ما الذي يجعل الشاعر يتمسك بالقصيدة؟

**القصيدة هي العذاب العذب، المخاض الذي يحمل فيه الخلاص. من رحم الأوجاع والآلام يولد الأمل وتشرق شمس الحرية. لا إبداع بدون حرية، فإذا لم يكن الشاعر ثائرًا بالحبر على الدم، فما معنى الشعر؟! وما مغزى الشعر إن لم يكن شمعةً تبدد ولو فسحةً قليلة من ظلام هذا العالم؟

* كتبت للوطن، للحب، للحياة… ما القصيدة التي كتبتك أنت؟ وأيها لا تزال تخشى نشرها؟

**القصيدة التي كتبتني، وتوحدت بي ليست قصيدة واحدة، بل العديد منها تناولت معاناة الطفولة في واقعنا العربي. كما أن قصيدتي "صرخة الوجدان" و"أمنيات شاعر" و"رباعيات نشوة الخلود" و"صنارة الضفادع" و"ظبية الروح" و"عنقاء البيان" هي التي جسدتني. وقد تحقق مقولة "ما يخرج من القلب يلج القلوب". أما القصائد التي أخشى نشرها فهي عديدة، وهي بعيدًا عن الرقيب، احتفظ بها لنفسي لأنها تثير إشكالًا قد يعرضني للمهانة في واقع متصحر. من بينها قصائد مثل: "يتسول بيننا" و"عذرا بني أمي" و"الشاعر المهجور" و"سأهاجر يا صديقي سأهاجر".

*هل تؤمن أن الشعر قادر على التغيير؟ أم أنه يكتفي بأن يكون مرآة باكية؟

**لا يمكن أن يكون الشعر قادرًا على التغيير تحت سياط الجلاد أو تحت سطوة القمع والطغيان، والإرهاب الإجرامي. في زنزانة مظلمة تخنق الصوت قبل أن يتردد صداه في وديان الخوف. ومع هذا، ما أفقعَ الشعر حين يكون مرآةً باكية، والشاعر مداحًا نواحة. وما أبهج الشعر حين يكون مرآة تنعكس صورتها من الذات الشاعرة في نفوس الآخرين، فتلهبها وتثيرها إيجابيًا. فالشعر القادر على التغيير هو الخالد في ذاكرة الأمم عبر التاريخ.

* في عالم مكتظ بالأصوات، كيف يحافظ الشاعر على صوته الخاص؟

**إذا اعتبرنا أن البضاعة الجيدة تطرد البضاعة الرديئة من السوق، فإن الشعر الجيد هو الذي يخلد مع الزمن. في عالم مكتظ بالأصوات، هنالك أصوات تذهب أدراج الرياح، ويكون صداها في وادٍ. أما الأصوات التي لا تموت، فهي تتجوهر، وتتجدد، وتتحدَّى كل المناخات. فالشاعر الذي يستطيع أن يتفرد ويتميز بخصوصية لا نظير لها، يستطيع المتلقي أن يعرف أنها له دون ذكر اسمه. هذا هو الذي يمتلك مفاتيح الخلود في المستقبل.

* هل تبكي الكلمات إذا بكى شاعرها؟ وما اللحظة التي تمنيت فيها أن تكون القصيدة حضنًا لا ورقة؟

**هنا تكمن مصداقية الكلمات، فالشاعر يعبّر عن نفسه من خلال شعور حقيقي ينبع من قلبه. الكلمات هي مرآة لحالة الشاعر، فهي تذرف الدموع معه إذا غرق بالأسى، وترقص على أنغام الفرح عندما يغني، وتتنفس الصعداء بعد الضيق، وتتلون وفقًا للمشاعر التي يعيشها. القصيدة بالنسبة لي ليست مجرد ورقة، بل هي حضن دافئ يضمني ويمنحني كل ما أفتقر إليه من دفء وحب وحنان وحنين. لذلك، لا أغالي إذا قلت إنني ما عرفت القصيدة ورقة يومًا، بل حضنًا يحتويني.

* كيف تصف تجربتك كأب في ظل ما شهدته سوريا من حروب ومعاناة؟ وما الذي حرصت على أن تغرسه في أبنائك ليواجهوا قسوة العالم دون أن تفقد أرواحهم حساسيتها أو انتماءها؟

*لقد عشت في سوريا أحداثًا تدمى لها القلوب، بدءًا من عام 1963م وحتى اليوم. شهدت الحرب بكل أنواعها، ومررت بتجارب قاسية من الخوف، والضغوط، والعذابات النفسية التي لا تُحتمل. ولكني كنت دائمًا أتألم بصدق وحساسية، فقد كنت أعيش مع مصائب الآخرين، وأشاركهم أحزانهم من خلال قصائدي، لعلها تكون عزاء لهم.

أما بالنسبة لأبنائي، فقد حرصت أنا وزوجتي، المدّرسة للغة العربية، على أن نغرس فيهم الأمل والصبر كأدوات لتحدي الحياة الصعبة. علمناهم أن التحدي والثقة بالنفس هما مفتاح النجاح في مواجهة كل ما يواجهونه من مصاعب. ورغم جميع الظروف القاسية التي مررنا بها، فقد تمكنا بفضل الله من أن نغرس فيهم المبادئ الوطنية والأخلاقية، وأن نزرع فيهم الصدق في الانتماء، ليحققوا التفوق في جامعاتهم واختصاصاتهم.

العلاقات الأدبية والفنية:

* ارتبطت بعلاقات وطيدة مع كبار الأدباء والفنانين، مثل وديع الصافي ومحمد الماغوط وألفة الإدلبي... كيف أثّرت هذه العلاقات على مسيرتك؟ وهل تذكر موقفًا مميزًا مع أحدهم؟

**لقد أضافت العلاقات الأدبية والفنية غنى وإثراء على سيرتي ومساري، وكان لها دور كبير في الانطلاق بثقة أكبر ، وجدية ومواظبة عسى أن أصل إلى ما وصلوا إليه ، وخاصة أنني أؤمن بمقولة قل لي من تعاشر أقل لك من أنت ، وقد لمست منهم اعترافاً بأهمية ما أكتب ، وهذا ما دفعني للارتقاء إلى الأفضل والأسمى ، وعدم الرجوع للوراء أو المراوحة في المكان .

أما الموقف المميز ، فقد كان مع الكبير الشامخ المتواضع الأستاذ وديع الصافي رحمه الله يوم زرته مع عائلتي في لبنان عام   2010 م ، وجلست أسمعه قصيدتي صدى الروح ، وهو في حالة إصغاء تام بكل حواسه ، ومداركه حين قلت :

* صدى الروح  *

هاجتِ الريحُ بنفسي يا حبيبي                 

عصفتْ في ذكرياتي

غربة ُالروح ِالتي كانتْ نصيبي                

 أظلمتْ منها حياتي

طيفُ مَنْ أهوى تجلَّى

زارني ليلاً ، وغابْ

بعده ُالعمرُ تولَّى

وانقضى عهدُ الشبابْ

نزحتْ بيض ُالأماني

وأنا وحدي أعاني

كمْ شربتُ الكأسَ مرَّاً

دونَ أن أشكو زماني

وبعدئذ  قلت  :

يا بحارَ الوهم  ضاعَ العمرُ ضاع ْ

غابتِ الشمسُ ومالتْ عن ظلالي

كنتُ إنْ غنيتُ ألحانَ الوداعْ 

لوَّحت للشمسِ ِ ربَّاتُ الخيال ِ

وانتشتْ من خمرتي بنتُ الدوالي .

فأوقفني رحمه الله ، وقال  : يابحار العمر ضاع العمر ضاع ، وبعد أن وافقته بأن النداء لبحار العمر  أجمل من بحار الوهم أردف قائلا ً  : لو لم أكن مطربا ً لكنت شاعرا ً لا يقلُّ عن شعراء لبنان أمثال : إيليا أبو ماضي ، و الأخطل الصغير ، والقروي ، وسعيد عقل ، وغيرهم من الشعراء الكبار  ، فاكتشفت أنه كبير في كلمته كما هو كبير بألحانه ، و أغانيه ، وتابعت قصيدتي  :

كمْ سألتُ الموجَ عنِّي

آه ِ لو يدري سؤالي

لم يجاوبْ خابَ ظنِّي

أينَ مَنْ يدري بحالي ؟!

قدْ نأتْ عن روضتي الأطيارُ أطيارُ الخميلة ..

ورستْ في الشاطئ ِالمهجور ِأحلامي الجميلة ..

فأنا وجهي الغروبْ ،وأنا روحي العليلة في متاهات حياتي

يا حياتي .

يا حبيبي من يناجي الروحَ راحْ    

 كانَ أنسي في الليالي ..

أدمنَ القلب ُ عذاباتِ الجراحْ          

 وغزا الحزنُ خيالي .

كلَّما علَّلتُ نفسي بالوعودْ                

 كلَّما ناجيتُ ذاتي ..

عادَ صوتُ الحبِّ من وادي الخلودْ ، وصدى الروحِ ِ صلاتي ،

 وقد كتب عليها  (( مستعجل للتلحين )) ، ولكن واأسفاه لقد نضب أوكسجين الحياة قبل أن تسافر من حبرها الأسود بموسيقا الروح ، وعبر الصوت الصافي إلى سماء  الضوء ، و مجرة النور .

*غنّى لك وديع الصافي "غاب عني" و"يا طائر الروح"... كيف كانت تلك اللحظة؟ وهل اختلفت نظرتك للنص بعد أن صار صوتًا؟

**كانت تلك اللحظة بالنسبة لي لحظة انتصار كبير، لحظة حصاد تُكرّم تعب الشاعر الذي يظل يعمل بصمت، دون أن يلتفت لشيء سوى لكتابة قصيدته. كانت بمثابة التتويج لشعري، حيث شعر الشاعر بأن تعب السنين وألم الكتابة قد نال حظه من التقدير على يد هذا الفنان الكبير. فماذا يمكن أن يتمنى الشاعر أكثر من أن يُغنى له وديع الصافي، الصوت الذي تتردد أصداؤه في وجدان الأجيال؟!

لا شك أن نظرتي للنص تغيرت بعد أن أصبح صوتًا، فقد دخلت فيه جميع الحواس، بل تجاوزه إلى الحاسة السادسة. النغمات والمقامات التي أضافها وديع الصافي أعطت الكلمات حياة جديدة، جعلتها تتجاوز حدود الورقة إلى فضاءات جديدة لا يمكن تحديدها. لم يعد النص مجرد كلمات على ورق، بل أصبح صوتًا يرافقه الإحساس ويعيش في الذاكرة الجماعية، يتردد عبر الزمن ويصل إلى قلوب أناس لم يتعرفوا على كلماتي إلا عبر صوته.

* هل التلحين يُقيد النص أم يمنحه جناحين جديدين؟

**بالتأكيد، التلحين يمنح النص جناحين جديدين. هو لا يقيده بل يُحرره من كل الحدود. النص بعد التلحين يتحول إلى تجربة حية تتجاوز ما كان عليه في الورقة. يصبح الصوت هو الوعاء الذي يحمل المشاعر بشكل أشمل، وأعمق، وأوسع. التلحين يضيف للنص بعدًا آخر، بعدًا موسيقيًا يفتح أفقًا جديدًا يطير فيه النص بعيدًا، ليحلق في آفاق كانت مستحيلة الوصول إليها بغير ذلك.

الجوائز والنقد

*من اللافت أن الجوائز التي حصدتها مؤخرًا، سواء "جائزة عماد قطري – دورة فلسطين"، أو "جائزة عبد الستار سليم – دورة أرض الأقصى"، كانت مرتبطة بالقضية الفلسطينية... هل تراها مصادفة، أم أن لفلسطين حضورًا خاصًا في وجدانك الشعري؟

**ليست مصادفة أبدًا، بل هي نتيجة حتمية لحضور فلسطين العميق في وجداني الشعري والإنساني. فهي ليست مجرد أرض محتلة، بل هي وجع الأمة ونبضها، هي الأرض التي مرَّ عليها الأنبياء، وارتفعت منها الدعوات، وارتوت بدماء الطهر والصبر. كتبت عنها كما يُكتب عن الأم، عن النور، عن الجرح المفتوح الذي لا يلتئم إلا بالعدالة. كانت قصائدي مرآة لهذا الحضور، ثورة على القهر، صرخة في وجه الخراب، وتمنٍّ أن يعود الزيتون أخضر، وأن تضحك الطفولة في الأزقة دون خوف.

* كيف ترى دور الجوائز الأدبية التي تُخصص دورتها لفلسطين أو لقضايا الأمة؟ وهل تظن أن مثل هذا الدعم الرمزي يملك القدرة فعليًا على إبقاء الذاكرة حيّة في وجدان المبدعين والجمهور؟

**الجوائز ذات الطابع القومي والإنساني تلعب دورًا رمزيًا نبيلًا في إبقاء القضايا حيّة، فهي بمثابة جرس تذكير دائم بأن هناك من ينزف، وأن على الكلمة أن تواصل النبض. لكن هذا الدور لا يجب أن يظل وحيدًا، بل يجب أن تواكبه مسارات موازية: إعلام حرّ، ومؤسسات ثقافية مستقلة، ودعم مادي يحفظ للمبدع كرامته في حياته، لا بعد رحيله. فالذاكرة لا تحيا بالكلمات وحدها، بل تحيا حين نُكرم من يكتبونها وهم على قيد الحياة، حين يشعر المبدع أن صوته لا يُلقى في فراغ، بل يُسمع ويُقدّر ويُحتضن. نعم، الجائزة تضيء لحظة... لكننا نحتاج نورًا لا ينطفئ.

النقد والتعليم... بين التجربة والرؤية

* هل ترى أن النقد العربي الحالي يُنصف التجارب الحية، أم أنه ما زال غارقًا في التنظير؟

**للأسف، لا يزال النقد العربي في معظمه غارقًا في التنظير، وكأننا نعيد اجترار مفاهيم قديمة على حساب قراءة النص في لحظته الإبداعية الطازجة. نحن بحاجة ماسة إلى نقد بنّاء، نقد يفصل القمح عن الزؤان، ويقف على النص ذاته لا على صاحبه. في هذا الفضاء الإلكتروني المفتوح للجميع، لم تعد المجاملات تنفع، ولا التعالي الأكاديمي يُقنع. النقد اليوم إن لم يكن صادقًا، متعمقًا، مستقلًا، فلا فائدة منه سوى مزيد من الضباب.

* بعد ثلاثين عامًا من تدريس اللغة العربية، كيف انعكس هذا المشوار على تجربتك الشعرية؟

**تدريس اللغة العربية لم يكن مجرد مهنة، بل رحلة غوص عميقة في بحر اللفظ والمعنى. منحني هذا المسار تمكنًا لغويًا، ومتانة في البناء، وغِنى في القاموس الشعري، حتى صار الشعر عندي ليس مجرد موهبة، بل احترافًا ممهورًا بالعلم، ومصقولًا بالتجربة. لقد انعكس التدريس على شعري في كل شيء: في الدقة، في الانسياب، في الإلقاء الذي يحترم القصيدة ويُبرز روحها دون أن يُثقلها أو يُفرّط فيها.

* هل هناك موقف خلال عملك في التعليم لا يزال حاضرًا في ذاكرتك؟

نعم، موقف لن أنساه ما حييت. كان لطالب كتب موضوعًا إنشائيًا عن والده في درس وصف الشخصية. تحدث عنه بكل الحب، وصفه نفسيًا وجسديًا، ثم حكى كيف فقده فجأة حين صدمته رافعة حديد "ونش" وهو ذاهب إلى عمله. ختم الطالب موضوعه بجملة مزلزلة: "لعنة الله عليك أيها الونش، كيف حرمت ابناً من حضن أبيه؟" ثم ذكر أنه كان يوم امتحانه المدرسي الأول، وأعلن أنه كتب رسالة سيرسلها لوالده إلى الجنة، لأنه واثق أن الله سيكافئه بالرحمة والمغفرة. أخذت الموضوع وصورته، ونشرته في جريدة "الاعتدال" التي كنت أدير مكتبها، وكنت حريصًا أن أعطيه نسخة منها. ابتسم يومها بفرح، والفرح في وجهه كان أعظم تكريم لي. هذه الحادثة حفرت في قلبي لأنها كانت عزاءً ومواساةً، لكنها أيضًا كانت وقودًا أشعل في زملائه الرغبة في التعبير والكتابة والإبداع.

وداع الطباشير واستقبال الطفولة

* بعد إحالتك إلى التقاعد، كيف عشت لحظة الوداع للفصل الدراسي الأخير؟

هل شعرت أنك تركت جزءًا من قلبك بين طلابك وسبورتك الطباشيرية، أم تنفّست الصعداء أخيرًا لتتفرغ بكامل طاقتك لمشوارك الأدبي؟

**كل وداع يحمل شجنًا، إلا وداع الفصل الدراسي الأخير... فقد كان مزيجًا نادرًا من الفرح والامتنان، شعرت فيه أنني سلّمت الأمانة بعد أن أديتها بكل حب، وشرف، وإخلاص.

ورغم أنني أحببت طلابي بصدق، وهم بادلونني المحبة ذاتها، ورغم عشقي للسبورة والطباشير وحصة اللغة العربية، فإنني كنت أعلم في قرارة قلبي أن الوقت قد حان لأمنح تجربتي الأدبية المساحة التي تستحقها. فالقلم يناديني منذ زمن، والوعد الذي قطعته لنفسي أن أظل أمينًا للكلمة حتى الرمق الأخير... لا تراجع فيه.

* اعتمدت وزارة التربية السورية عددًا من قصائدك في مناهج التعليم الأساسي. كيف استقبلت هذا القرار؟ وماذا يعني لك أن تُزرع كلماتك في وجدان الأطفال داخل الصفوف المدرسية؟

**استقبلت هذا القرار بفرح يشبه فرح الأم حين ترى اسم ابنها يتصدر قائمة المتفوقين. قصائدي دخلت كل بيت، وكل مدرسة، وهذا وحده كفيل بأن يسكب في القلب سعادة لا توصف.

كنت أزور المدارس، وأرى الأطفال يلقون قصائدي بفرح، يصفقون، يلتقطون الصور التذكارية معي وكأنني بطل من زمن القصيدة، لا من زمنهم. كثير منهم يُفاجأ أنني حي بينهم، فقد كانت ذاكرتهم المدرسية تقول لهم إن الشعراء لا يعيشون في حاضرنا... بل في كتب قديمة ومتاحف لغوية بعيدة.

يا لها من لحظات ثمينة، أن ترى القصيدة تُولد من جديد في أعين الأطفال، أن تُمسك الطفولة بيدك وتعود بها، لا لتُدرّسها، بل لتعيش معها، وتتعلم منها الدهشة من جديد.

قصيدة تُزرع في قلب طفل

* برأيك، ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الشعر في تشكيل وعي الطفل وجماليات روحه؟ وهل تختلف مسؤولية الشاعر حين يكتب للطفل عن تلك التي يحملها حين يكتب للكبار؟

**الشعر، حين يُكتَب للطفل بقلبٍ نقيّ، يصبح مرآةً تُضيء روحه، ونغمةً تُهدهده بالحياة وتُعلمه الحب والجمال.

إنه يربي في الطفل ذائقةً رفيعة، ويمنحه الأمل كما تمنحه الزهرة لونها والعصافير زقزقتها. حين يردد الطفل القصيدة كأغنية مرنّمة، تتمايل حروفها معه، فيكبر فيه الإحساس بالجمال، وينمو إدراكه للقيم النبيلة: التعاون، الفرح، الحلم، والانطلاق من أسر الخوف والانطواء إلى رحابة الثقة والحرية.

نعم، تختلف المسؤولية... فالكتابة للطفل ليست ترفًا لغويًا، بل مهمة تربوية وفنية دقيقة.

يجب أن تكون الكلمات سهلة، الصور مشرقة، والرسائل مغروسة في تربة الطفولة بلطف. لا مكان فيها للموت، ولا للحرب، ولا لظلال الحزن، ففلسفة الطفل هي البراءة والعفوية، والكتابة له يجب أن تكون امتدادًا لهذه الفلسفة: صدق، حب، وفرح.

أما حين نكتب للكبار، فثمة عوالم أخرى. هم بحاجة لمن يضيء تعقيدات الحياة، من يطرح الأسئلة، لا بالضرورة أن يجيب، فالشعر ليس طبيبًا، ولا قاضيًا، بل هو مرآة ومجهر... يلتقط اللحظة، ويمنحها بُعدًا إنسانيًا يتجاوز الواقعة نحو جوهرها. فلكل مقام شعره، ولكل قارئ لغته التي تليق بحلمه أو ألمه.

الصوت العربي الموجوع

* أين تضع سوريا على خارطة الثقافة العربية الحالية؟ وهل هناك خصوصية ثقافية سورية تميزها عن غيرها في هذا الوقت العصيب؟

**أضع سوريا في طليعة المشهد الثقافي العربي، رغم ما أُثقل به كاهلها من ويلات الحروب، والدمار، والنكبات البيئية، والزلازل، والشتات. لم يُطفئ كل هذا نار الإبداع، ولم يعق نبض الحرف.

فقد بقيت الصحف والمجلات تصدر، واستمر الأدباء، والشعراء، والنقاد، والمثقفون في حمل مشعل الثقافة، يكتبون، ويبدعون، ويشاركون في الحراك العربي، يحصدون الجوائز، ويطبعون الكتب، ويملؤون الأمسيات والمنتديات حضورًا لا يمكن تجاهله.

الخصوصية الثقافية السورية اليوم تكمن في هذا التحدي الصامت: أن ينهض المثقف من بين الأنقاض، وأن يكتب للحياة وهو محاط بالخذلان. إنهم يتطلعون إلى الأرحب، والأعمق، رغم أن الضباب لا يزال كثيفًا.

* كيف تقرأ حال الثقافة العربية في زمن الأزمات؟ وما هي المناطق العربية التي تراها تزدهر ثقافيًا حاليًا؟ وكيف يمكن قياس هذا الازدهار؟

**الأزمات ليست لعنة دائمًا، بل كثيرًا ما تكون شرارة الوعي. إنها تصقل الثقافة، وتُخرجها من قوقعة الترف، وتدفعها نحو العمق والصدق.

فمن رحم الألم وُلد أدب الأزمات، وهو أدب لا يشكو فقط، بل يضيء، يتأمل، ويقاوم، حتى وإن رآه البعض مرضًا، فهو عندي علامة شفاء من خدر السطحية.

انظر إلى ما مرّت به سوريا، لبنان، العراق، مصر، فلسطين، تونس، واليمن... كلهم تنفسوا من رئة الثقافة حين ضاقت صدور السياسة والمعيشة.

أما معيار الازدهار، فليس عدد الكتب ولا كثرة الندوات، بل ما يُنتج من فكر ناضج، وإبداع نوعي، قادر على ملامسة الإنسان في جوهره.

وبرأيي، فإن أكثر المناطق العربية ازدهارًا ثقافيًا الآن: الخليج العربي بما يتيحه من دعم للمشروعات الثقافية، ثم مصر، وسوريا، والعراق، واليمن، وتونس، حيث لا يزال الحرف يقاوم الخذلان.

* ما الذي يقلقك أكثر اليوم: انحدار الذائقة؟ أم تصحّر الإحساس؟ أم تفكك القيم؟

**كلها تقلقني... لأنها ليست ظواهر منفصلة، بل مترابطة، متسلسلة. حين تنحدر الذائقة، يصبح القبح مقبولًا، ويَتَصحَّر الإحساس، فتَصمُت المشاعر، ومع هذا الصمت، يبدأ تفكك القيم... كأننا نُسلِم أرواحنا تدريجيًا للفراغ، دون مقاومة.

* في ظل ما تعانيه منطقتنا من نزوح وفقد وشتات، كيف تكتب للوطن دون أن تكتب مرثيته؟

**لم أكتب، ولن أكتب مرثية للوطن، لأن في داخلي إيمان راسخ بأن هذا النزوح والفقد والشتات لن يدوم. من يعيش غربته اليوم، يتمنى أن تهدأ عواصف الوطن ليعود إليه، فالوطن ليس مجرد خريطة جغرافية، بل هو نبض وجداني يسكن الأرواح. الغريب، مهما طالت غربته، سيظل غريبًا جسدًا وروحًا، مهما حاول التأقلم. يلازمه الشوق كظله، ويؤلمه شعور الاقتلاع من الجذور، والانفصال عن الذات، وفقدان ما لا تعوّضه كنوز الأرض.

 الشعر في مواجهة العالم

* في زمن السرعة، ما مصير الشعر الطويل؟ وهل القصيدة الموزونة في خطر؟

**زمن السرعة لا يُقصي الشعر الطويل، فمَن يحب الشعر يقرؤه ويغوص في أعماقه، مهما امتدّت أبياته. أما مَن يطلب قصيدة سريعة تُناسب إيقاعه، فهو عابرٌ على عتبة الشعر لا غير.

القصيدة الموزونة ليست في خطر، مادام هناك شعراء يجيدون العزف على أوتارها بإبداع. كما نجد في التفعيلة قصائد رفيعة، نجد في الوزن قصائد لا تقل عنها سموًّا. القصيدة الموزونة باقية، ما بقيت هذه الأمة تنجب شعراء، وما دام الشعر ديوانها ومرايا وجدانها.

 مفيد نبزو الإنسان

* من هو مفيد بعيدًا عن الشعر؟ كيف يقضي يومه؟ ما هواياته؟ وما الذي يضحكه رغم كل شيء؟

**إنسانٌ يعشق الحياة، يحب الخير والفرح لكل من حوله.

أقضي يومي برفقة الأصدقاء، أقرأ، وأستمع إلى الموسيقى، تلك اللغة التي يتحدث بها العالم، وأغاني الطرب الأصيل التي تحنو على الروح.

يضحكني أمرٌ بسيط: موقف عفوي، تعليق غير متوقع، أو نكتة يطلقها طفل لا يعرف من العالم إلا براءته.

* هل هناك حزن لا تكتبه؟ وفرح لا تبوح به؟ ومتى ينهار الشاعر ولا تُسعفه اللغة؟

**بلى، هناك أحزان لا تُكتب، تتشعب في القلب وتبقى هناك. أكتب جزءًا منها، وأحتفظ بالباقي لنفسي، لا أريد أن أُثقل بها أحدًا.

والفرح أيضًا لا يُقال كله، خاصة في زمن امتصّت فيه الأعوام فرحتنا، حتى صار الفرح ظاهرة بصرية لا تتجاوز حدود العين.

أما الشاعر، فلا ينهار حتى في أقسى لحظاته، لأن اللغة لا تخذله. على العكس، الأزمات تُوقد شرارات اللغة في داخله، فتخرج كحروف مشتعلة، تشحذ القريحة، وتجعله أكثر ثباتًا. إنه يستمد من الخيبة والقلق والتغرب الروحي، مفرداته، ويُحوّلها إلى نصٍ راسخ يشهد على صموده.

* من تحب أن تقرأ له اليوم؟ ومَن مِن الشعراء الشباب يستوقفك صدقهم؟

**لا يستوقفني أحد الآن من الشعراء الشباب، فلا يوجد في ذاكرتي من أثار دهشتي، لا شعرًا، ولا إلقاءً.

* يبدو أن الحب، بجوانبه المختلفة، يشكل محورًا رئيسيًا في إبداعك. كيف ترى تأثير مشاعر الحب على الإبداع الأدبي؟ وهل ترى أنه يمكن أن يكون مصدرًا لا ينضب للإلهام في الشعر رغم الألم؟

**إن الحب، بجوانبه المختلفة، هو المحور الرئيسي للإبداع، لأنه كيف يمكن أن يبدع من لا يحب، ؟!، فمن يمتلك مشاعر الحب، بمفهومه الشامل، ويستطيع أن يعبِّر عنها، فلا شكَّ أنه سيبدع، ويتألق، وهو مصدر للوحي والإلهام رغم الألم، لأنه برأيي العلاج الشافي لكثير من العلل.

* تعكس العديد من كتاباتك مشاعر صادقة وعميقة دون الخوف من البوح بها. كيف ترى دور الشاعر في تقديم مشاعره بصراحة؟ وهل تعتقد أن الشجاعة الأدبية هي التي تميز الشاعر الحقيقي؟

**إن دور الشاعر الذي يقدم مشاعره بصراحة، يستطيع أن يؤثر في المتلقي، ولكن ليست الصراحة التي تعتمد على المباشرة، والتقرير، بل من خلال مقومات الجمال الشعري الذي تتكامل فيه البنية الفنية لفظًا وتركيبًا مع المعنى والمضمون، والموسيقا مع الخيال من خلال الصور المبتكرة، وبتآلف القرائن لا اختلافها، ودون تشويه، وتحطيم جدار اللغة، فيثير الدهشة والإعجاب لدى المتفاعل، وهو بهذا خير ممن يغرق في الرموز المبهمة التي تحتاج لإعمال العقل من أجل أن يفك غموضها، فيعجز عن تفسير مبهمها، ومعرفة قصد الشاعر الذي يمكن أن يتم تأويله بأكثر من وجه، فيضع المتلقي في زورق تتلاعب بشراعه الأمواج دون أن يعرف كيف، وفي أي اتجاهٍ يهتدي إلى شاطئ القصيدة.

وبالنسبة للشجاعة، إذا كانت من أجل قول كلمة الحق، فهي تميز الشاعر الحقيقي، وإن كان هذا ليس بالضرورة، فقد يكون الشاعر شجاعًا، فيسقط في مستنقع الإسفاف، والابتذال، وينطق بما يخرج عن نطاق المعاني الأخلاقية،

و الغايات النبيلة، فيهبط بالذوق بدلاً من أن يرتقي به.

* غالبًا ما يظهر في نصوصك الشعور بالعاطفة المكثفة، وكذلك الرغبة في الشفاء والتجديد. هل يعتبر الشعر بالنسبة لك وسيلة للتعامل مع الجروح العاطفية، أم هو أكثر من مجرد وسيلة للتعبير عن الألم؟

**هو أكثر من مجرد وسيلة للتعبير عن الألم، فهو تعبير عن أبعاد متعددة بمشاعر متنوعة، واكتشاف لمساحات مجهولة بالحدس والإدراك الذي يسبق التفكير، ومع كل هذا، فهو متنفس في حالات الضيق، وظل وارف حين يشتد لهيب الشمس الحارقة، وقد سُئلَ الشاعر اللبناني الكبير الأخطل الصغير بشارة الخوري رحمه الله: كيف تكتب؟!، فأجاب: بشرارات من روحي تتصل بأصابعي.

* ولمن يقول مفيد نبزو اليوم: "أنا مدين لك بقلبي وشعري وعمري"؟

**للذي قلتُ:

أنا ذاتُ الكلِّ، والكلُّ بذاتي

فأنا أفنى، ولا تفنى حياتي

وسِماتي إنْ أمتْ لا تنطوي

ما انطوى منها غريبٌ عن سِماتي

جُلُّ ما أخشاهُ أن أخشى الرؤى

إن هيَ انحلَّتْ بذرَّاتِ نواتي

لا تقلْ لي نَمْ، فإني يقظةٌ

غفوتي صحوٌ، وصحوي من سُباتي

لا تقلْ لي سُدْ، لأني سيِّدٌ

وأنا عبدٌ لأوهى نزواتي

أنا روحٌ من حصانينِ ونارٍ

فوقَ سَطحِ النجمِ حطَّتْ عرباتي

لم أكنْ إلا ظهورًا غائبًا

كُلَّما غبتُ تجلّتْ كلماتي.

بدون مونتاج

* كيف كان شعورك عند نشر أول عمل لك؟

**شعور فرحة أبٍ بمولوده الأول.

* لحظة في مسيرتك لا تُنسى أبدًا؟

**لحظة فوزي بالمركز الأول في جائزة محمود درويش العالمية للشعر الحر في الأردن، من بين ألفي شاعر وشاعرة في الوطن العربي، وكذلك لحظة فوزي بالمركز الأول في جائزة عبد الستار سليم للشعر والنقد في جمهورية مصر العربية.

* حلم لم يتحقق بعد؟

**حلمي هو أن يعم السلام في العالم أجمع، وأن ينعم الجميع بالاستقرار والازدهار.

تلغراف

* في لحظة تأمل صامتة... لو سنحت لك الفرصة لإرسال "تلغراف" لمن ترك فيك أثرًا طيبًا لا يُنسى – شعريًا أو إنسانيًا – فلمن ستوجهه؟ وماذا ستكتب؟

**أوجههُ إلى صديق الطفولة الذي لم تغيّره السنون، وكان وما زال أخًا حميمًا، ومثالًا يُحتذى في مواقفه الوطنية، والإنسانية، والشعرية منذ بداياتي الأولى.

إنه طبيب الأسنان الدكتور أيمن إبراهيم درويش المحترم.

شكرًا جزيلًا يا أبا ساهر، لأنك ابنٌ بارٌّ لوطنٍ فخورٍ بأمثالكم النادرين، المتفانين بالعمل والعطاء من أجله، ومن أجل الصالح العام.

( بعد هذه المكاشفة التي أضاءت العديد من الجوانب المهمة في تجربتي الشعرية لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لجميع الإخوة الأعزاء  المحترمين من صاحبي الامتياز  ، ورئيس التحرير ، ونائبه إلى جميع المسؤولين ، والأعضاء العاملين في هيئة تحرير منبر التحرير المتميزة إعلاميا ً في المشهد الإعلامي العربي الحديث  ، كما أخص بالشكر الجزيل ، والعرفان بالفضل الجميل  للشاعرة البليغة ، والأديبة  الإعلامية القديرة   الأستاذة همت مصطفى المحترمة حفظها الله ، وحفظكم سالمين ).

الشاعر مفيد فهد نبزو

في ختام هذا الحوار، نجد أن الشاعر مفيد نبزو هو أكثر من مجرد كاتب لقصائد فنية؛ هو مرآة حية تعكس قضايا الإنسان بكل عمق وتفاصيلها. تتجسد في كلماته الأبعاد المختلفة للحياة والوجود، فنجده يضع الحب والصدق في صدارة إبداعه، ويؤمن بأن الشعر هو وسيلة للشفاء والتعبير عن الألم، بل عن كل ما هو غير مرئي داخلنا. يبقى مفيد نبزو، في كل قصيدة، صاحب رسالة تتخطى حدود الزمان والمكان، ليظل أحد أبرز شعراء هذا العصر، يزرع فينا الأمل والجمال، كما يزرع فينا الشعور بالمسؤولية تجاه أنفسنا والمجتمع.

أُجري هذا الحوار ضمن سلسلة "حوار مع مبدع إنسان" التي تُعدّها وتُقدّمها الكاتبة همت مصطفى، حيث تسعى من خلالها إلى تسليط الضوء على الجوانب الإنسانية للمبدعين الذين يترجمون الجمال في أقلامهم وقلوبهم، بعيدًا عن ضجيج الأضواء وقوالب الإعلام التقليدية، ليكونوا مثالًا للفكر الراقي والمشاعر النبيلة

.

مساحة إعلانية