مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د.أيمن الداكر يكتب: هوامش على دفتر المحروسة

2023-11-13 07:43 PM - 
د.أيمن الداكر يكتب: هوامش على دفتر المحروسة
د.ايمن الداكر
منبر

يا فتاح يا عليم


كلمة تتردد على لسان كل عامل أو حرفي مصري وهو يفرك يديه صباحًا قبل أن يشرع في عمله، وكثيرًا ما يردفها بقوله (يا رزاق يا كريم)، طقس ديني صباحي يتميز به عُمال مصر عن غيرهم من سائر البلدان، استهلال جميل بطلب العون من (الفتاح) الذي يعلم حالهم فيوفقهم في أعمالهم ويبارك لهم في أرزاقهم. موروث ثقافي قديم توارثناه عن الأجداد ونردده بعفوية دون أن ندرك أن أصله موغل في تاريخ مصر القديم، مثل الكثير من عاداتنا التي تتغير صبغتها بتغير الحقبة الزمنية فتأخذ الصبغة الفرعونية تارة، وصبغة قبطية أو إسلامية تارة أخرى، لكنها تبقى مصرية خالصة.والفتاح هو اسم من أسماء الله الحسنى، على صيغة المبالغة وقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) سبإ 26، ومرة أخرى بصيغة الجمع (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) الأعراف 89. ومعنى اسم الفتاح أنه سبحانه وتعالى بيده مفاتيح الغيب، يفتح لمن يشاء من عباده أبواب الرحمة والرزق، وهو قاضي الحوائج ومفرج الكربات. وفي الثقافة المصرية القديمة، الفتاح هو الإله بتاح المُوجِد نفسه بنفسه والذي عاش قبل وجود جميع الموجودات، وهو الذي خلق الكون بكلمة منه (نادى على الدنيا إلى الوجود بعدما رأى الخليقة في قلبه أثناء منامه، فتكلمها فكانت) –بمعنى كن فكانت- ولذلك لُقّب بالفتاح (كفاتح فاه) لأنه فتح فاه وتكلم فوجدت الدنيا بكلمة منه، وإليه يُنسَب الطقس الجنائزي (فتح الفم) الذي تؤديه الكهنة عند تجهيز الميت للدفن ليطلقوا الروح من الجسد. ولأن (بتاح) هو الروح المقدسة والصانع الأول وهو خالق ورب كل الصناعات والفنون فقد أتخذه المصريون القدماء إله للحرفيين، خاصة الحِرف الحجرية المرتبطة بتشييد المعابد والمقابر الملكية، واعتقد الحرفيون أنه يحكم مصائرهم وحياتهم، وكان الكاهن الأكبر للإله بتاح يُلقّب بــــ (أعظم أسياد الحرفيين)، لذلك ليس متعجبًا أن يطلب العمال منه العون والمساعدة قبل الشروع في أعمالهم كل صباح، لتتوارث الأحفاد كلمة الأجداد مع اختلاف مقاصدها حسب المعتقد الديني والنظام الاجتماعي السائد في كل عصر. جسّد الفن المصري القديم الإله بتاح في صورة رجل مكفّن وملتحي، يقبض بيديه على (عنخ وآس ودجد) وهي ترمز إلى الحياة والقوة والاتزان على الترتيب، وقد انتشرت عبادته في منف (ممفيس) –ميت رهينة حاليا بالجيزة- عاصمة الدولة المصرية القديمة، ثم وحّد المصريون القدماء بين بتاح والإله (سوكر) إله الأرض وحامي عمال التعدين على هيئة تمثال بتاح برأس صقر ليصبح (بتاح – سوكر)، وفي عهد الدولة الوسطي أصبح الثالوث المقدس (بتاح – سوكر – أوزوريس) رمزًا للبعث والحياة الأخرى.
بالنظر إلى تمثال جائزة أكاديمية الفنون الأمريكية (الأوسكار) نجده على هيئة فارس قوي يقبض على سيف ويرتكز على أسطوانة عرض الأفلام وبها خمس دوائر تمثل الأقسام الرئيسية لفن صناعة السينما (الكتابة والتمثيل والإخراج والإنتاج والمؤثرات)، ونجده يشبه إلى حد كبير تمثال الإله (بتاح) رب الصناعات والفنون في مصر القديمة، والذي رأى الكون في قلبه (الفكر) وخلقه (بالكلمة) فتجسد حياة تنبض بالحركة والنشاط، ويرمز تمثاله إلى (الحياة والقوة والاتزان) وتلك هي مقومات نهضة وازدهار الفنون في أي مكان، وربما كان ذلك ملهمًا للمصمم الأيرلندي (سيدريك جيبونز) والنحات الأمريكي (جورج ستانلي) لتصميم تمثال الأوسكار. ونجد كذلك تقارب بين لفظ (بتاح – سوكر)، (سوكر)، أوسكار! 
وكانت مصر قديما تسمي (ها-اك-بتاح) وتنطق (هيكوبتاح) ومعناها أرض الإله بتاح، أو الأرض المحصنة بروح وقوة الإله الفتاح بتاح.
الأسبوع القادم نلتقي مع هامش جديد من هوامش دفتر المحروسة.

مساحة إعلانية