مساحة إعلانية
ليس أبهى من ساعات السهر حين تلامس نسمات الليل وجهي برقة وحنان, فبينما أنا جالسة على مكتبي, وروحي هائمةً بين صفحات كتاب في الإرشاد الأسري. تلك الكتب هي ما تؤنس قلبي, وتروي روحي بسكون الطمانينة. حقًا, ما أروع من العيش في أسرة متكاملة الأركان! تسودها محبة صادقة وتألف نقي بين الزوجين والأبناء، ولكن التساؤل الذي يراودني دومًا كيف السبيل لتأسيس أسرة مترابطة تنجح في مواجهة تحديات الحياة المعاصرة, وتزدهر بالحب والوئام؟ وبينما أستغرق في تأملي, تَجلّى وجه جدتي الملكة حتشبسوت على صفحات الكتاب الذي بين يديّ، تكسوه ملامح الحزن العميق.
بدأت حديثها معي بنبرةٍ تحمل في طياتها العتاب، قائلةً:
كيف حال حفيدتنا؟ هل ما زالت غارقة في هموم بنات الشرق؟
نظرت إليها متفاجئة من ثقل الحزن الذي يكسو ملامحها، فأجابتها: "نعم، أرغب في الاستكمال بالكتابة عن الصورة النمطية للمرأة المطلقة."
لكن ظلت عينيها المفعمتين بالعتاب والأسى, تُمعِن بالنظر في وجهي، وبصوت يحمل لحن الانكسار والأسى:
لماذا أغفلتِ رغم نصائح الكثيرين الاهتمام بمأساة الرجل المطلق؟ هل نسيته؟ أم تناسيته؟ أم أن التحيز لبنات جنسك هو ما دفعك إلى ذلك؟
فأجبتها بهدوء وصدق: ليس هذا ولا ذاك يا جدتي بل شغلتني دوامات الحياة وأعبائها.
مدت جدتي, الملكة حتشبسوت يدها إليّ بلطف قائلةً: هيا، نتجول سويًا برحلة هادئة على بساط الأفكار بين تجارب ومواقف الحياة التي تحيط بنا هذه الليلة، في كل بيت من البيوت التي نصادفها على الطرقات تختبي قصة تحمل في طياتها عبرةً, زخرت بمشاعر الفرح أو وجع الألم, في صراع أزلي بين القدر واختيارات الإنسان . ثم عضت جدتي على يدى برفق, ووجهت نظرها نحو إحدى شرفات البيوت القديمة, حيث يتوهج منها نور خافت يجلس بها شاب في عقده الثالث, بجانب نافذة يغمرها الصمت الباكي، مختبئًا في عتمته ووحدته المؤلمة.
سألتها بنبرة متثاقلة: من هذا الشاب يا جدتي؟ وما سر الحزن العميق واليأس المستشري في روحه؟
فأجابتني جدتي الملكة حتشبسوت: ذاك هو حفيد أوزوريس, وائل شاب في ريعان شبابه, منحه الله القبول وحسن الخلق, وكان يأمل أن ترافقه في رحلة الحياة زوجة تعينه على مواجهة الصعاب، تكن له موطن الأمن والأمان. ولكن، أسفاه فقد ارتبط بامرأة لا تعلم عن الإنسانية شيئًا، بل لا تستحق أن تكون رفيقته، امرأة جحدت مشاعره بكلماتها الجارحة وإهاناتها التي لا تتحملها كرامة الرجال، بجانب تدخل أهلها الدائم في خلافاتهما التي بدأت منذ خطبتهما . رغم محاولاته المستميتة لإقتناع نفسه بأن الأحوال ستتبدل بعد الزواج، لم تكن الحياة رحيمة، فإذا به يغرق في جحيم لا مفر منه لكنه مازال يقنع نفسه بأن التغيير للأفضل آتٍ، خاصة عندما علم بأنه سيصير أبا عما قريب. ومرت الأيام والحال يزداد سوءًا والمشاكل تتفاقم. حتى إنهما وصلا لمفترق طرق؛ بناءً عليه لم تستمر هذه الزيجة سوى أقل من عام، خلفت وراءها أثقالًا من الألم النفسي، وطفلته الوحيدة بسمة. انظري إلى الوحدة التي تسكن قلبه، فمثلما تنهار المرأة من وطأة الانفصال، هناك رجال أيضًا يعانون مرارة الطلاق، أن الطلاق لم يمزق حياة وائل الزوجية فحسب، بل هز كيانه المهني والاجتماعي والمالي، حتي أصبحت روحه الهشة تترقب الغد بعين مفعمة بالخوف، حتى في لقائه مع طفلته الوحيدة يشعر أنه قد يُحرم رؤيتها في يوم من الأيام. لا يفارق ذهنه ذاك السؤال هل هذا قدرٌ أم سوءُ اختيار؟
واصلت جدتي حديثها بنبرة يغمرها الحنان والرحمة، قائلة:
"لقد تكاثفت فوق صدر وائل سحبٌ من الغربة والوحدة والقسوة، حتى تحول ما كان ينبض حبًا ودفئًا إلى جرحٍ غائر يعصف بروحه. أين قلمك ليكتب عن قصته، وعن مأساة نماذج كثيرة من الرجال المطلقين؟ فليس دومًا المطلق هو الجاني، إذ توجد حالات عديدة يكون فيها هو المجني عليه. للأسف الشديد، تعود أسباب ذلك إلى سوء اختيار شريك الحياة، أو تدخل أهل الزوجة المستمر في تفاصيل حياتهما، أو تقصير الزوجة في أداء حقوق زوجها، أو قلّة التزامها الديني، أو عدم قدرتها على تحمل المسؤولية. أحيانًا يكون الزواج قائمًا على مصلحة مادية بحتة، أو على تفاخر الزوجة بنفسها وتقليلها من قدر زوجها، أو على السخرية والأنانية والتعجرف والجدل المستمر. كما أن عدم التوافق الفكري والقيمي قد يدفعه للهروب من مثل هذه الزيجة، وينطبق هذا الأمر أيضًا على الزوجة.
استَكملت جدتي حديثها بصوتٍ رقيق:
"تذكري، يا ابنة الشرق، أن المفكر الحقيقي يتحلّى بالحيادية والموضوعية في كتابته، فلا تسمحي لقلمك أن يميل إلى المبالغة. وفجأة، بدأ وجه جدتي يتلاشى بين صفحات الكتاب، تاركًا لي إدراكًا عميقًا بأنّ عليّ الغوص في أعماق مأساة الرجل المطلق، بحثًا عن الحقيقة المهملة. نظرت حولي، خاصة مع ازدياد نسب الطلاق في السنوات الأولى من الزواج، ولاحظت أن معظم الرجال المطلقين لا يعبرون عادةً عن معاناتهم التي تشمل:
- الآثار النفسية : يترك الطلاق أثرًا على نفسية الرجال بدرجات متفاوتة وفقًا لشخصيتهم، فقد يعاني البعض من اضطرابات نفسية شديدة، تتمثل في الخوف من الارتباط مجددًا, فقدان الثقة بالنفس لنظرة المجتمع له أنه المسئول عن الطلاق , بالإضافة إلى الشعور بالإحباط، والقلق، واضطرابات التفكير وعدم الرغبة في القيام بأي شئ .
- نظرة المجتمع للرجل المطلق : يرفض المجتمع زواج الرجل الأعزب من المرأة المطلقة، وينطبق الأمر نفسه على زواج الفتاة العزباء من الرجل المطلق، تتفاقم هذه المعضلة إذا كانت ظروف الرجل المادية غير مستقرة، أو إذا كانت الفتاة المتقدم للزواج منها صغيرة السن وذات مميزات متعددة، وهذا يرجع إلى اعتقاد الأهل بأن الرجل المطلق لا يستطيع تجاوز مشاكله، حتى لو كانت زوجته الأولى هي سبب الطلاق.
- من الناحية الاجتماعية: يواجه الرجل المطلق صعوبة في الاندماج بالمجتمع, يشعر بوحدة قاسية داخل منزله. إلى جانب تغيير نمط حياته بعد أن أصبح وحيدًا دون زوجة.
- من الناحية الاقتصادية : يترك الطلاق أعباء اقتصادية بالغة على الرجل، إذ تتزايد أعباؤه المالية بسبب تكاليف مؤخر الصداق والنفقة وحضانة الأبناء. كما يؤثر الطلاق سلبًا على أدائه الوظيفي, مما يجعله يعاني من عدم الاستقرار المالي والمهني.
- التعلق بالماضي : للأسف الشديد، تعاني الزوجة الثانية أحيانًا من عدم قدرة الرجل المطلق على تجاوز تأثير زوجته الأولى، حيث قد يستمر في متابعة أخبارها، بل ويقارن بينها وبين زوجته الحالية، مما يشعل نار الغيرة. لذا، يتطلب الأمر من الزوجة الحالية حكمة ووعيًا للتعامل مع هذا التحدي.
"التعلق بالماضي: للأسف، تعاني الزوجة الثانية أحيانًا من عدم قدرة الرجل المطلق على تجاوز أثر زوجته الأولى، حيث قد يستمر في متابعة أخبارها، بل ويقارن بينها وبين زوجته الحالية، مما يثير الغيرة ويشعل الصراعات. لذلك، تحتاج الزوجة الحالية إلى الحكمة والوعي لمواجهة هذا التحدي والتعامل معه بفاعلية."
إنّ رحلة الرجل المطلق، من الحزن والوحدة والغضب والإحباط في مرحلة الانفصال، إلى التكيف مع واقعه الجديد، تتطلب منه وقفة صادقة مع الذات لمراجعة الماضي والتعلم من إيجابياته وسلبياته، ليصبح نسخة أفضل من نفسه في المستقبل. وعليه ألّا يتسرع في اختيار شريكة الحياة قبل أن يتعافى تمامًا من آلام الماضي، ويدرك بوضوح ما يطمح إليه في شريكته، فالحياة تسير بين القدر والاختيار.
ولأن الأسرة هي المأوى الدافئ الذي يحتضن الروح، حيث يجد الإنسان أمانه وسعادته فيها، ينبضُ القلب فرحًا وتشرق الحياة بألوانها الزاهية. فباستقرارها يتناغم الزوجان وتزدهر في كنفها الأبناء، وتتفتح أبواب الخير لكل فرد منها، ويُنعكس ذلك إشراقة تنير المجتمع بأسره؛ ولأن بناء بيت سعيد يبدأ بخطوة اختيار شريك الحياة، يصبح لزامًا علينا أن نوجه المقبولين على الزواج إلى كيفية اختيار شريك الحياة و كيفية تأسيس حياة أسرية ناجحة تسودها المودة والرحمة في ظل تعقيدات الحياة المعاصرة.
د/ آمال طرزان (نسوية شرقية نسعى للتكامل بين الرجل والمرأة)