مساحة إعلانية
لم يكن ملف الإيجار القديم يومًا مجرّد قضية قانونية، بل ظلّ واحدًا من أكثر الملفات تشابكًا في مصر، إذ يتقاطع داخله الاجتماعي بالاقتصادي، وتتداخل فيه حقوق الملاك مع استقرار ملايين المستأجرين، بينما تحاول الدولة الحفاظ على توازن دقيق بين العدالة والواقع. واليوم يدخل هذا الملف مرحلة جديدة، بعد تطور قضائي غير مسبوق قد يعيد رسم المشهد السكني بأكمله.
بدأت التحولات الأخيرة مع الطعن الذي تقدّم به شريف الجعار، رئيس اتحاد المستأجرين، على قرار رئيس الوزراء المنظّم لقواعد لجان حصر المناطق وتحديد الأجرة في وحدات الإيجار القديم. ونظرت اليوم محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة هذا الطعن، وقد قررت تأجيله إلى 22 فبراير 2026 لتقديم المذكرات وبحث الدفوع وطلبات الإحالة إلى المحكمة الدستورية العليا.
ورغم أن الطعن يبدو في ظاهره إداريًا، إلا أنّه يطرق أبواب قانون ممتد منذ أكثر من سبعين عامًا.
الجعار أوضح أن القرار محل الطعن يستند إلى نصوص قانونية مطعون على دستوريتها بالفعل أمام المحكمة الدستورية العليا عبر إحالات من دوائر قضائية مختلفة، ما يجعل الطعن خطوة جدية نحو إعادة تقييم المنظومة برمّتها، وربما إعادة صياغتها إذا انتهت المحكمة الدستورية إلى عدم دستورية بعض المواد. ومن هنا، تبدو جلسة اليوم الإجرائية مجرد بداية لمسار طويل قد يكون الأكثر تأثيرًا في هذا الملف الشائك.
ويطالب الجعار بوقف تنفيذ قرار رئيس الوزراء إلى حين حسم الدعاوى الدستورية، معتبرًا أن تشكيل لجان الحصر بناءً على قانون قد يتبيّن لاحقًا عدم دستوريته أمر يفتقد للاستقرار القانوني، ويستلزم التجميد. وقد شكّل اتحادًا يضم محامين متخصصين لإعداد المذكرات والمستندات الداعمة، في إشارة واضحة إلى استعداد المستأجرين لخوض المواجهة القضائية حتى نهايتها.
هذه التطورات لا يمكن فصلها عن المشهد الاقتصادي الأوسع. فالإيجار القديم يجمد كتلة ضخمة من الأصول العقارية خارج حركة السوق، بوحدات تُؤجَّر بقيم ثابتة لا تمت بصلة إلى قيمة العقار، أو تكلفة الصيانة، أو الأسعار الحالية. وهو ما خلق تشوهًا ممتدًا أثّر في التطوير العمراني، وفي توازن العرض والطلب، وفي قدرة الملاك على صيانة عقاراتهم.
وفي المقابل، يقيم داخل هذه الوحدات ملايين الأسر التي بنت استقرارها على عقود ممتدة لعقود طويلة، ولا يمكن زعزعة مصيرها بقرارات مفاجئة تُهدد أمنها السكني.
لهذا تمضي الدولة بمنطق التدرّج المحسوب؛ فالتغيير المفاجئ قد يسبب اضطرابًا اجتماعيًا واسعًا، بينما استمرار الوضع الحالي بات عبئًا اقتصاديًا لا يمكن تجاهله. وهنا يبدو المسار القضائي، وتحديدًا حكم المحكمة الدستورية، هو الأكثر أمانًا وقدرة على صياغة إطار جديد بلا صدامات.
نحن أمام فصل جديد في قانون عمره أطول من أعمار معظم قاطنيه. فصل تتقاطع فيه رغبة الدولة في تحقيق العدالة، وتمسّك المستأجرين باستقرارهم، وسعي الملاك لاسترداد حقوق اقتصادية مجمّدة منذ عقود، بينما يمسك القضاء بالمفتاح الذي قد يعيد ترتيب المشهد بأكمله.
المعركة ليست جديدة، لكن ملامحها اليوم أصبحت أوضح وأكثر حساسية. وما ستشهده الشهور المقبلة قد لا يغيّر قانونًا فقط، بل يعيد صياغة العلاقة بين المواطن والعقار، وبين السوق والسعر، وبين الحق القانوني والحق الاقتصادي.
واليوم لم يعد السؤال: هل سيتغيّر قانون الإيجار القديم؟
بل أصبح: إلى أي مدى سيحدث التغيير… وكيف سيوفّق بين العدالة والواقع؟