مساحة إعلانية
نبيل بقطر
حين رأيتها على صفحة موقع التواصل الاجتماعي " فيس بوك " مهداة من الصديق الشاعر والناقد والكاتب الصحفي مصطفى عبادة وشاهدت صورة أمنا الغالية المحفورة داخل قلوبنا أثارت شجوني وأحزاني وحبست أنفاسي وأعادتني للزمن الجميل ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حيث الصديق المبدع والكاتب الصحفي إسحاق روحي يزف لي خبرا مبهجا _ على غير عادته- "يلله بينا حا نزور مصطفى " وبسرعة البرق أراني فوق الدراجة يقلني لمنزله بنجع مدان بقرية الدهسة بفرشوط أشجار تسلمنا لأشجار ومساحات خضراء تسلمنا لمساحات اكثر اخضرارا لنجد مصطفى واخوته في انتظارنا وهذه " المنيرة "التي تقف كشجرة عفية وسط صغارها ترحب بأصدقاء وزملاء ابنها الذين حكى لها عنهما وبمجرد أن تلمحها تعلم على الفور أنك أمام طيبة وحنية أم لا تختلف عن تلك الأم التي تركتها منذ دقائق في منزلكم ...الترحيب والحفاوة وكرم المرأة الصعيدية والفطير المشلتت الغارق في السمن البلدي والجبنة القديمة " المالحة " والعسل الأسود ونهم الصديق إسحاق وعشقه لها والذى لا يضاهيه سوى شرب الشاي وتدخين السجائر تاركا لى العسل الأسود ...ثم السؤال عن أحوال الأهل والأسرة والوعد بأن نأتي إليهم مرة أخرى وتتكرر الزيارات وتزداد روابط المحبة ....هذه القصيدة عن هذه الأم الفاضلة التي رحلت منذ سنوات قليلة خطها - توءمنا الثالث - مصطفى بحروف نابضة بالحياة بقلب مبدع حقيقي شاعر مرهف الحس غزير الثقافة يملك وعيا وحبا وعطاء وكفاحا واخلاقا ومبادئ إنسانية غرستها فيه وفى اخوته هذه الأم الصعيدية التي رحلت بالجسد بينما بقى وسيبقى إلى ما شاء الله ما تركته وعلمته لأبنائها وأحفادها ولنا من قيم وسلوكيات راقية لقنتها لنا فشكلت وجداننا ببساطة وعفوية لم تتعلمها في مدارس وجامعات بل هي عادات وتقاليد من موروثنا الثقافي الذي تركه لنا آباؤنا وأجدادنا القدماء بناة أعظم الحضارات الإنسانية الضاربة في جذور التاريخ نشأت عليها بالفطرة ...التواضع والتسامح والعطاء ومحبة الآخرين وقبولهم واكرامهم ومعاملتهم معاملة طيبة ومشاركتهم افراحهم واحزانهم...رحمها الله وادخلها فسيح جناته وأدام التواصل والحميمية والمحبة الصافية بين التوائم الثلاثة وأولادهم وأحفادهم.
اسمها منيرة
بجفون ثقيلةٍ حمراء
على عتبة البيت تجلس
بالإبرة والخيط
ومع كل "غرزة" ترعى روحًا
وتحنُ على أخرى
أو تُحي ثالثةً
لا تشغلها الأحلام
ولا تعرف عن الغدِ
إلاَّ ساعة صحو العفاريت
يهيِّجون التراب في الدَّرب
وهي خلفهم ترتق الجوع
وتخيط الأيام
وحين تشكها الإبرة في إصبعها
ويظهر خيط الدّم
تنام
ونفرح لأن ظلها يغنى وهي نائمة
***
لم أبكها ميتةً
وقفت أحصي أعمارها الآتية
ألضم جرحها السِّري
وحزنها السري وسعادتها
وروحها الناعسة
تجمع الأطفال والجيران
تقاوم الضجر
بالإبرة والخيط
ثم تطل على وحدتي
أعمل لك شاي؟
***
التي عندما ماتت
أخذت معها منازلها
وكل ما رعته من جروح
وفرح الناس لها
وأنا كصخر صامت
يتفجر منه الماء والأسى
***
لم أبكها ميتة
بكيتها حية
تقطع المسافة بين البيت القديم
والبيت الجديد كلمح البصر
لأن "مصطفى" الصغير يبكي
وتخشى على "بشار" من عقارب الصيف
تغطى "نسمة" أو تتحسس
رأس "خديجة"
ثم تطل على وحدتي:
اعمل لك شاي؟
***
صدِّق أو لا تصدّق
سوف تتزين الأيام
بقصة أمي
التي لا تعرف الشعر
ولا يناسبها وصف الملاك
مَنْ ربىّ سرب ملائكة
ولا وصف له
التي ستقف أمام الله
قبل الملائكة
وسوف تسميهم له
هذا ملاك الحزن
وذلك لميزان الدموع
وذاك للأسى ومصمصة الشفاه
***
اسمها خيمة
وظلها حديقة من السماء
خطاها على التراب
تحية للتراب
اسمها تحيةٌ
اسمها "الرياح بشرى
بين يدي رحمته"
تتجوّل الطيور حولها والقصائد
أسير خلفها
كأنني طفل مرة أخرى
كلّما شعرت بالنقص أو الخسارة
تتبعها اللغةُ مثلي
حين تشعر بالعطش
أو يغادرها المجاز
إذا سلمتُ عليها تبكي
وإذا ودّعتُها تبكي
كما لو أنني ذاهب إلى الحرب
لا تنظر في ظهري أبداً
تَجمُد عيناها على شيءٍ بعيد
وتدمعُ
الدموع بلاغتها المقدسة
اسمها منيرة.