مساحة إعلانية
خالد العجيري
باحث بالمعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون
يعرف العلاج الشعبي بأنه مجموعة المهارات والخبرات والممارسات العلاجية التي تكونت لدى العديد من الثقافات المختلفة، فاستقرت في أذهان الشعوب صاحبة تلك الثقافات كأفضل الوسائل والطرق المتعارف عليها للاستشفاء. وربما انتقلت بعض من تلك المعارف والخبرات من شعب لآخر عن طريق انتقال البشر من مكان لمكان لتبادل المنفعة، أو عن طريق السعي خلف المرعى، كما انتقلت داخل الثقافة الواحدة من جيل لجيل عبر الزمن.
يقول ( إدوار وليم لاين ) الذي عاش في مصر ما بين 1833 ـ 1835 م ( لو كنا نصدق بعض القصص والروايات الشائعة في مصر لخلصنا إلى القول إن في مصر الحديثة سحرة يضاهون (( حكماء فرعون وسحرته )) براعة ) . الفترة التاريخية تبين أن الرجل كان قريب العهد بالتعرف على أسرار الحضارة الفرعونية إذ أنها فترة قريبة جدا من فترة فك رموز حجر رشيد والتي قبلها لم يكن يعرف أحد شيئا عن تلك الرسوم التي على جدران المعابد ، وربما الشعب المصري بكل طوائفه لم يكن قد عرف شيئا عن الحضارة المصرية القديمة في تلك الفترة، إلا بعض المثقفين الذين لديهم اتصال باللغات الغربية، ما أود أن نخلص إليه أن الشعب في الفترة التي عاش فيها لاين لم يكن يعرف شيئا عن الطب الفرعوني إنما الموروث الذي أشار إليه لين عند المصرين كان قد انتقل إليهم عبر الأجيال.
يقول لاين ( وأهم التعاويذ التي يؤمن بها المصريون لإبعاد شبح المرض أو الآفات عنهم تدوين مقاطع من القرآن الكريم في آنية من الفخار، ساكبين الماء داخلها فيختفي الكلام المكتوب فيشرب المريض محلول الماء والكلمات الربانية عله يحمل الشفاء للعليل السقيم ) هذا الفعل لم يرد عن الصحابة ولا عن السلف في الإسلام كما أن الطريقة لا تستخدمها أي دول إسلامية أخري في تلك الفترة. فمن أين أتي المسلم المصري بهذا الفعل؟
الإنسان ابن البيئة وأسيرها تشكل وعيه وثقافته كما تشكل ملبسه وتحدد مطعمه ومشربه. وتلك الممارسات العلاجية ارتبطت بالسحر والتنجيم تشكلت في لا وعيه واستخدمها رغم أنها من طرق للاستشفاء ذات أصل فرعوني استعملها المسلمون، فكتبوا كلمات من القرآن بدلا من كلمات التعاويذ السحرية التي استخدمت في مصر القديمة.
كيف بدأ العلاج في مصر القديمة؟
ارتبط العلاج في مصر القديمة بالسحر والتنجيم، فكان على الطبيب الكاهن مراعاة سن المريض ومراعاة أوقات العلاج، فهناك من العلاج ما لا يؤخذ إلا في أوقات معينة، وآخر لا تلائمه إلا ظروف معينة، فالصحة والمرض في قتال دائم كما أنها معركة بين الخير والشر.
وقد ورد في بعض النصوص( أن الأرواح الشريرة تسكن الجسم البشري وتعيش على غذائه وأنها يمكن أن تطرد بتلاوة التعاويذ أو دهن الجسم بزيت العرعر أو المر الذي يدخل إلى الجسم فيحميه من الأوجاع ) كما تشير بردية ( ايبرس ) إلى أن أرواح العقاقير تدخل جسم المريض وتحميه من الأمراض وتطردها.
كما اعتقد المصريون أن المرض من صنع الأرواح، لذا فالمريض يلزمه روقية بجانب العلاج، وكما ذكرنا فالكاهن هو الطبيب الذي يباشر العلاج الطبي بالسحر والرقى والتعاويذ إلى جانب ما يأمر به من أدوية. ثم إن الآلهة في مصر القديمة من اختراع الكهنة لذا استطاعوا إقناع الناس بأن أعضاء الجسم تقع تحت تأثير الآلهة، فالإله ( نو ) مثلا للشعر و ( رع ) للوجه و ( حتحور ) للعينين و ( أنوبيس ) للشفتين و ( تحوت ) للأعضاء، كما كانت هناك علاقة وثيقة بين بعض المعبودات والعقاقير فعلى سبيل المثال ( دموع حور ) تتحول إلى صمغ المر . ويؤكد على ذلك يوليوس ليبس إذ يقول: ( أما الشعوب التي تفسر الأمراض بأنها عقوبات فرضتها الآلهة، فتكرس صورة المريض، أو صورة العضو المصاب للآلهة آمله أن توجه الآلهة برمتها ورحمتها إلى الصورة الأصلية ).
مقاربة بين ملاحظات ( وليم لاين ) والعلاج عند قدماء المصريين.
أثناء تحضير العقاقير أو تعاطيها عند قدماء المصريين كانت تتلى الرقى والتعاويذ، وهنا نرى شيئا مشابه لما لاحظه ( وليم لاين ) في علاج المصريين في العصر الحديث، فالمصري القديم كان يكتب على أوراق البردي بنوع من حبر خاص بعض الأقسام والتعاويذ السحرية ثم تزال الكتابة في إناء به ماء، ويشرب المريض السائل طلبا للاستشفاء، وكانت الأرواح التي تسكن جسد الإنسان يمكن طردها بتلاوته بعض الرقى مثل ما ورد في بعض البرديات تحت عنوان الأقسام السحرية للأم والطفل والتي نشرها ماسبيرو ( اختفي أيتها الميتة التي تعيش في الظلام، اختفي قبل أن تشرعي في فعلك الرديء، فإذا جئت لتقبلي هذا الطفل فسوف أمنعك من تقبيله، وإذا أقبلت لتسكني صراخه فسأمنعك من إسكاته، وإذا حضرتي لخطفه فسأمنعك من اختطافه، فلقد نثرت التعاويذ ضدك مستخدمة في ذلك الخس المطعم بالثوم الذي تكرهين رائحته، واعتمدت أيضا على الشهد الذي يبعد الموت عن الإنسان، كما استعنت أيضا ببكرة خيط فاختفي أيتها اللعينة قبل أن تحققي أغراضك ) .
وكما سبق أن أشرنا استطاع الكهنة إقناع الناس بما فعلوه من ربط كل جزء من أجزاء جسم الإنسان بالإله الذي يؤثر على هذا العضو أي أن إصابة بعض أجزاء الجسم أو سلامتها يرجع إلى الآلهة التي تؤثر على هذا العضو، إي أن الإنسان أصبح عندهم يمثل نظاما مصغرا للكون، فالآلهة تمثل في أجرام سماوية، تؤثر على أعضاء الإنسان وهذا ما ورد في بعض البرديات ( الوجه الأول من برج السرطان يؤثر على أمراض الأوردة والشرايين، والثاني يؤثر على الرئتين، والثالث منه يؤثر على أمراض القلب، كما أن الوجه الأول من برج الأسد يؤثر على المعدة، والوجه الثاني على انفجار الشرايين، والوجه الأول من السنبلة يؤثر على أمراض الأمعاء، والثاني يؤثر على الكبد، والثالث يؤثر على الطحال، والوجه الأول من الميزان يؤثر على الكليتين، والثاني يؤثر على انسداد الحالبين وحسر البول، والثالث يؤثر على آلام العضلات، والأول من العقرب يتسبب في السوداء، والثاني منه يتسبب في الأورام الخبيثة وأورام الخراريج، والثالث منه يتسبب في كسر العظام ).
ما ورد في هذه البردية لا يختلف كثيرا عما ورد في كتب التنجيم بل الكثير منه يتطابق من حيث تأثير الأبراج على بعض الأمراض التي يصاب بها الإنسان، وهناك قصة عاصرها وليم لاين وهي واقعة سرقة حدثت في بيت القنصل العام الإنجليزي في مصر في تلك الحقبة، فأحضر المستر ( سولت ) ساحر مغربي ليفتح له المندل، فطلب الساحر من المستر أن يحضر له صبيا غير بالغ، فرسم الساحر جدولا على كف الصبي اليمنى، ثم صب قليلا من الحبر وسط الجدول وطلب من الولد أن ينظر في الرسم، ثم وضع على البخور قصاصات ورق مكتوب عليها أقسام، وطلب في الوقت نفسه ظهور عدة أغراض في الحبر، فأعلن الولد أنه رأى كل ما طلبه الساحر، وبانت عليه صورة الخادم المتهم بالسرقة بوصفه وصفا دقيقا من سمات وجهه ولباسه وقال أنه يعرفه، وهرول إلى الحديقة وقبض على إحدى العاملين فيها الذي لما مثل أمام سيده اعترف فورا بأمر السرقة.
وفتح المندل السابق في مصر الحديثة لا يختلف كثيرا عما ورد في المخطوط الديموطيقي بلندن ( حيث أن الساحر في مصر القديمة كان يستعين بصبي لم يبلغ فترة المراهقة، فيعطيه حرز أثناء مناجاة الأرواح ثم يشعل مشكاة في غرفة مظلمة، والصبي جالس أمام النار وعيناه مغمضتان، ثم يسأله الساحر هل يرى النور أو لا يراه، فإذا أجاب الصبي بنعم، سأله الساحر عما يريد السؤال عنه، وعند انتهاء الأسئلة والأجوبة يردد الساحر الأقسام سبع مرات لينتبه الصبي من غيبوبته) كان المصري القديم يستخدم هذه الأغراض للبحث عن وسائل للشفاء من الأمراض وغيرها، أما المندل في مصر الحديثة كان يستخدم للبحث عن اللصوص وعن الأشياء المفقودة نفسها، لكن ما نريد الوقوف عليه مهما اختلفت طريقة الأداء بحسب اختلاف الأهداف إلا أن الأصل واحد .
لاحظ لاين أيضا طريقة الاستشفاء من أمراض العيون فيقول ( تكثر في مصر الإصابات بالرمد ويلجأ الشعب المصري البسيط إلى شتى الوسائل السخيفة ذات الطبيعة الخرافية لمداواته، فلا يتردد المصري مثلا للشفاء من التقاط قطعة وحل جافة من ضفة نهر النيل بالقرب من بولاق فيعبر النهر ويرمي قطعة الوحل الجافة هذه على الجانب المقابل للنيل عند ( إمبابة ) فهذه حسب اعتقاهم الوسيلة الفضلى لتأكيد العلاج ) تعجب وليم لاين من طريقة الاستشفاء، دليل على أن وليم لين حتى تلك اللحظة لم يكن قد قرأ الكثير عن الحضارة المصرية أو على الأقل لم يكن قد قرأ عن طرق الاستشفاء بحابي، وهذا جميل جدا، إذ يؤكد لنا أن كتابات لين كانت بالفعل عن طريق الملاحظة المباشرة، كما يؤكد شيئا آخر أن المصريين أنفسهم كانوا يفعلون تلك الطرق المتوارثة دون علم بأصولها.
يذكر أيضا لاين قصة استشفاء لطفل عجيبة بعض الشيء إذ يقول ( يستنبط المصريون طريقة خاصة للطفل العاجز عن السير بعد أن يبلغ السن المناسب، فتوثق الأم قدمي طفلها بورقة نخيل تجعل فيها عقدات ثلاث وتحمله وهو مربوط إلى باب أحد الجوامع وقت صلاة الجمعة، حيث يحتشد جمع المؤمنين، فلما تنتهي الصلاة تبادر إلى الطلب من أول ثلاثة خارجين من الجامع أن يفك كل واحد منهم عقدة من العقدات، بعدها تحمل الأم طفلها إلى المنزل وهي واثقة تمام الثقة بأن ما فعلته سوف يؤثر قريبا على طفلها فيمشي ) في حقيقة الأمر لم تكن تلك المرأة تفعل هذا اتباعا لنص قرآني ولا اتباعا لحديث نبوي، إنما فعلت هذا عن طريق العادة المتبعة في القطر المصري آنذاك، وهذا لا يختلف كثيرا عن بعض ما ورد في إحدى المخطوطات مع الاختلاف في سن المعالج، حيث إن ما فعلته تلك المرأة كان مع طفل، أما ما ورد بالمخطوط كان لعلاج المفاصل عند شخص كبير وإن كانت المرأة قد استخدمت ورق النخيل إلا أن الحرز عند القدماء من جلد الغزال، وكما نعرف أن جلد الغزال يدخل في كثير من طرق العلاج عند المنجمين والمعالجين بالرقى والتعاويذ في العصر الحديث، وما ورد في المخطوطة يقول ( لعلاج آلام المفاصل، يأخذ حرز كتب على رق غزال يربط برجل المصاب فتزول عنه الأوجاع ).
بعض الاكتشافات العلمية تطورا طبيعيا لخرافات وعقائد قديمة.
نستنتج في النهاية أن بعض الطرق العلمية الحديثة تعتبر تطورا طبيعيا لخرافات وعقائد قديمة، حيث في مصر القديمة ظهر الطب أول ما ظهر متمشيا مع السحر، ورغم عدم جدوى السحر إلا أنه يعتبر لون من ألوان الشفاء بالإيحاء، فالساحر يملك من المهارة والذكاء ما يمكنه من الادعاء بالإصابة بنوبات صرع أثناء إقامة الطقس فيتخيل المريض أن الطبيب مسته روح تستطيع شفاءه، كما أن الساحر يستطيع قراءة الرقى والتعاويذ، ذلك بخلاف درايته بعلم التنجيم الذي يعتبر وجه آخر من وجوه الآلهة وتأثيرها على أعضاء الإنسان، كما كان ( أوزير ) العشاب الأول الذي علم الناس خواص النبات ، وهو المدرك لخواص العقاقير وأثرها الطبي، من هنا ندرك أن بعض أنواع العلاج الشعبي لم تكن وليدة الصدفة ولا من اختراع الشعبيين أنفسهم، أنما نوع من أنواع التواصل والانتقال غير المباشر بين الأجيال، فكان العلاج الشعبي في أساسه سواء عن طريق السحر أو الدجل أو التداوي بالأعشاب هو الأصل أو الأساس الذي بدأت منه مراحل تطور العلوم الطبية في مصر القديمة حتى وصلت إلينا في العصر الحديث على الصورة التي عليها كاكتشافات علمية.
المصادر
1 ـ إدوار وليم لين، عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم، ترجمة سهير دسوم، مكتبة مدبولي القاهرة1999.
2 ـ نجيب ميخائيل إبراهيم، مصر والشرق الأدنى القديم، دار المعارف، 1966.
3 ـ سعد الخادم، الفن الشعبي والمعتقدات السحرية، سلسلة الالف كتاب ( 488 ) مكتبة النهضة المصرية.
4 ـ يوليوس ليبس، أصل الأشياء، ترجمة كامل أسماعيل، دار المدى للثقافة والنشر،2006.
5 ـ اسامة عدنان يحيى، السحر والطب في الحضارات القديمة، دراسة تاريخية مقارنة، اشورنانيبال للكتاب، العراق بغداد2015، طبعة الكترونية.