مساحة إعلانية
قبل أيام، تواصل معي أحد مندوبي التسويق العقاري ليعرض عليّ شراء شاليه في الساحل الشمالي. وبالطبع، لم أرفض المكالمة، فأنا – لسبب لا أدركه تماماً – أصبحت أستمتع كثيراً بالإنصات إلي مثل هذه العروض، رغم يقيني التام بأنني لن أشتري، لا غداً، ولا بعد مئة عام
أُصغي باهتمام، لا بدافع الفضول وحده، بل لأن من حقّنا – كمواطنين نعيش علي هامش تلك الحياة الفارهة – أن نعرف ما يدور في “العالم الآخر”. نريد أن نطّلع علي كيف يتفنن البعض في صناعة الرفاهية، وكيف تحوّل البحر إلي شرفةٍ خاصة لا تطأها أقدام الجميع، بل تُشاهد فقط علي لوحات الإعلانات المعلّقة فوق الكباري
أعترف أنني أصبحت ملمّاً بتفاصيل معظم الكومباوندات في القاهرة، والساحل، والإسكندرية. أعرف أسعار المتر، ومواعيد التسليم، وأنظمة الدفع، والخدمات الترفيهية التي تتراوح بين شواطئ خاصة، وأندية صحية، ومطاعم يُستقدم لها الطهاة من باريس خصيصاً
لكن ما قيمة كل تلك المعلومات، وأنا أعلم أن أقصي ما أملكه هو “فكرة” عن الحلم، دون أدني فرصة لبلوغه؟
ليست المشكلة في التسويق، ولا في من يشتري، فلكلٍّ حريته وقدرته. إنما المشكلة الحقيقية أن هذه المشروعات تُقدَّم علي أنها “وجه مصر الحقيقي”، بينما الوجه الآخر – وجه المواطن العادي الذي يستقل الأتوبيس المزدحم ويتقاسم الساندويتش مع زميله – يُخفي بعناية خلف جدران الإعلانات اللامعة
الساحل الشمالي، بما آل إليه، أضحي رمزاً فجّاً لفجوة طبقية تتسع يوماً بعد يوم. هناك “مصر الفوق”، حيث الحياة مترفة، والسكن علي الشاطئ، والوقت يُقاس بعدد حفلات الدي جي في نهاية الأسبوع. وهنا “مصر التحت”، حيث المواطن يُقسّط فاتورة الكهرباء، ويحلم برحلة إلي رأس البر كل ثلاث سنوات إن حالفه الحظ
ومع ذلك، سأواصل تلقي هذه المكالمات، وسأصغي حتي النهاية. لن أشتري بالطبع، ولكنني سأظل حريصاً علي أن “آخذ فكرة”... فربما، فقط ربما، تتبدّل الأقدار، أو تظل الأحلام علي حالها: مؤجلة... إلي أجلٍ غير مسمّى