مساحة إعلانية
استضافت أستانا عاصمة كازاخستان في 17 يونيو 2025، القمة الثانية لرؤساء دول آسيا الوسطى والصين، والتي تأتي بعد القمة الأولى التي عقدت في مايو 2023 في مدينة شيآن التاريخية بالصين. حيث تم وضع أسس الشراكة الاستراتيجية الشاملة للتعاون بين الجانبين، والتي تتطور بشكل متسارع يومًا بعد يوم بفضل الرغبة والعزيمة على تكون نموذج يحتذى به في شكل التعاون بين الدول على امتداد مبادرة الحزام والطريق.
شكلت قمة شيآن 2023 في أول اجتماع لرؤساء الدول في إطار آلية تعاون آسيا الوسطى مع الصين أساس قوي لصياغة نمط جديد للعلاقات بين الجانبين، في ظل التوجه الجديد للطرفين، فآسيا الوسطى تعمل تحت شعار "آسيا الوسطى الموحدة أقوى"، بينما الصين تعمل من اجل تعزيز الروابط والعلاقات على امتداد طريق الحرير القديم باعتباره مصدر إلهام لمبادرة الحزام والطريق. ففي رحاب المدينة العريقة التي تعد أقدم عاصمة في التاريخ الصيني، اتفق الزعماء على عقد هذا التجمع عالي المستوى مرة كل عامين بالتناوب بين الصين ودول آسيا الوسطى. وذلك للعمل على نسج روابط أوثق في مجالات التجارة والاستثمار والأمن والسياحة واستعادة أمجاد طريق الحرير القديم عبر قلب أوراسيا.
في عام 2024، جرى إضفاء الطابع المؤسسي على آلية التعاون بين آسيا الوسطى والصين بشكل أكبر من خلال إنشاء أمانة عامة في مدينة شيآن، حاضرة مقاطعة شنشي، ومسقط رأس الرئيس شي جين بينج، الذي يولي أهمية كبيرة لتطوير علاقات التعاون بين الصين ودول آسيا الوسطى. حيث تمثل آسيا الوسطى ملتقى استراتيجي يربط بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب. وهذه الأهمية راسخة في فكر الرئيس الصيني منذ زمن طويل، فقد قال خلال أول زيارة له إلى آسيا الوسطى بعد توليه منصب الرئاسة عام 2013 "تُعد تنمية علاقات التعاون الودي مع دول آسيا الوسطى أولوية في السياسة الخارجية للصين". وذلك فقد زار الرئيس شي جين بينج المنطقة ثماني مرات، وهو ما عمّق الشراكات على الصعيد الثنائي، وكذلك من خلال منصات مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا.
تُعد آسيا الوسطى اليوم المنطقة الوحيدة في العالم التي يُقيم فيها جميع دولها شراكات استراتيجية مع الصين. وقد أرست تلك الشراكات أسسًا جديدة لحسن الجوار والتعاون القائم على المصالح المتبادلة للجميع، وهو ما أوجد نمطًا جديدًا في العلاقات الدولية. وقد عمل على ترسيخ تلك الأسس توقيع "إعلان شيآن"، الذي تعهد فيه ورؤساء دول آسيا الوسطى الخمس والرئيس الصيني بالعمل معًا لبناء مجتمع مصير مشترك أوثق بين الصين وآسيا الوسطى. وهو ما يتسق مع مبدأ "بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية" الذي نادى به الرئيس الصيني. فالإرادة السياسية المشتركة بين الرئيس الصيني وزعماء آسيا الوسطى هي المفتاح لتنمية مستدامة للتعاون بين الجانبين. وهذا التعاون لا يعزز العلاقات الثنائية فحسب، بل يُرسي أيضًا أساسًا لنموذج جديد من التعاون متعدد الأطراف في منطقة أوراسيا.
تُسهم العلاقة الشخصية القوية التي يتمتع بها الرئيس الصيني ورؤساء آسيا الوسطى في توطيد أواصر علاقات التعاون بين الجانبين، فخلال قمة شيآن عام 2023، رحب الرئيس الصيني شي جين بينج بالرئيس التاجيكي إمام علي رحمان بقوله: "يا صديقي القديم". واستخدم رئيس أوزبكستان شوكت ميرضيائيف جملة "أخي العزيز" خلال محادثاته مع الرئيس الصيني. أما رئيس كازاخستان قاسم-جومارت توقايف، فهو خبير بارز في الشئون الصينية، فقد بدأ حياته السياسية كدبلوماسي في سفارة الاتحاد السوفيتي في الصين، وهو يتقن اللغة الصينية.
تسير الصين ودول آسيا الوسطى بخطوات متسارعة لتطبيق ما تم الاتفاق عليه خلال القمة الأولي في مدينة شيآن، وهو ما يؤكد على أن القمة الثانية التي عقدت في أستانا هي في 17 يونيو 2025، تشكل خطوة جديدة على طريق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الجانبين القائمة على المصالح والمنافع المتبادلة. فقد دشن رئيس كازاخستان قاسم-جومارت توقايف والرئيس الصيني شي جين بينج في يوليو 2024 "طريق الصين-أوروبا السريع عبر بحر قزوين"، خلال مراسم أقيمت في أستانا. وقد شكّل ذلك الطريق التدشين الرسمي لشبكة ارتباطية متعددة الأبعاد، تدمج بين الطرق السريعة والسكك الحديد وخطوط الطيران وأنابيب النقل، بهدف ربط آسيا بأوروبا عبر بحر قزوين. والتي من المتوقع لها أن تصبح شريانًا نابضًا لمبادرة الحزام والطريق. وإذا كان طريق الحرير القديم قد شهد تبادلات تجارية وثقافية قوية بين الصين وآسيا الوسطى، فإن الصين ترى في المنطقة شريكًا مهمًا لها في تعاون الحزام والطريق في العصر الحديث.
وفي أواخر عام 2024، تم تدشين مشروع خط سكة حديد الصين- قيرغيزستان- أوزبكستان في مدينة جلال آباد القيرغيزية الحدودية، حيث شكل ذلك الخط الحديدي مشروعًا نموذجيًا جديدًا في إطار تعاون الحزام والطريق. حيث ينطلق هذا الخط من مدينة كاشغر، إحدى المحطات المحورية لطريق الحرير القديم في منطقة شينجيانج ذاتية الحكم لقومية الويغور في الصين، ليعبر ممر توروجارت إلى داخل قيرغيزستان، ويتجه غربًا عبر جلال آباد وصولا إلى مدينة أنديجان شرقي أوزبكستان. ولذلك يعد هذا الخط ليس مجرد ممر للنقل، بل جسرًا استراتيجيًا مهمًا يربط بين الشرق والغرب.
وقد أسهم تعاون الحزام والطريق بشكل فعّال في تعزيز التجارة والسفر والتبادلات في المنطقة. ففي عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وآسيا الوسطى مستوى قياسي بلغ 94.8 مليار دولار، مدفوعًا بنمو قطاع التجارة الإلكترونية العابرة للحدود. إلى جانب تدفق الاستثمارات الصينية إلى دول آسيا الوسطى، شمل مختلف قطاعات البنية التحتية والصناعة والتدريب، حيث تحتضن تاجيكستان أول "ورشة لوبان" في آسيا الوسطى، والتي تعد مركز صيني للتدريب المهني، والذي قام بتأهيل أكثر من 1500 طالب بمهارات عملية في مجالات الهندسة والعمارة وإدارة المياه وحماية البيئة، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في إعداد الكوادر في مختلف قطاعات التنمية.
في خريف عام 2022، وخلال زيارته لمدينة سمرقند العريقة الواقعة على طريق الحرير، قدّم شي هدية خاصة إلى الرئيس الأوزبكي شوكت ميرضيائيف، عبارة عن مجسّم مصغر لمدينة خيوة، التي شكلت محطة تاريخية مهمة على طريق الحرير القديم. وقد شهدت المدينة أول مشروع صيني لحماية التراث الثقافي في آسيا الوسطى. حيث قام فريق كبير من الخبراء الصينيون على مدار عدة سنوات بأعمال ترميم للتراث الحضاري والثقافي بالمدينة، وهو ما يؤكد على أن العلاقات بين الصين وآسيا الوسطى لا تقوم على التعاون الاقتصادي وحسب بل يشمل الجوانب الثقافية والحضارية. وامتد التعاون ليشمل مدينة راحت القديمة في كازاخستان، ومعبد بوذي قديم في كراسنايا ريشكا في قيرغيزستان. وهذا التعاون الثقافي يأتي امتدادًا لإرث تشانغ تشيان، مبعوث أسرة هان، الذي سافر غربًا إلى آسيا الوسطى قبل أكثر من 2100 عام، وفتح الباب أمام صداقة وتبادلات دائمة بين الصين والمنطقة. وامتد التعاون بين الصين وآسيا الوسطى ليشمل قطاع التعليم، فقد تم افتتاح فرع لجامعة بكين للغة والثقافة في كازاخستان عام 2024، وهي الجامعة التي درس فيها رئيس كازاخستان اللغة الصينية في ثمانينيات القرن الماضي.
وخلال القمة الثانية لقادة دول آسيا الوسطى والصين في أستانا، وقع رؤساء دول آسيا الوسطى الخمس، رئيس كازاخستان قاسم-جومارت توقايف، ورئيس أوزبكستان شوكت ميرضيائيف، ورئيس تاجيكستان إمام علي رحمان، ورئيس تركمانستان سيردار بيردي محمدوف، ورئيس قيرغيزستان صدير جاباروف، والرئيس الصيني شي جين بينج، معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي الدائمين. والتي تشكل مرحلة متقدمة من الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين. حيث تقرر ضمن هذه الشراكة إنشاء ثلاثة مراكز تعاون ومنصة لتيسير التجارة في إطار آلية تعاون الصين- آسيا الوسطى. وهذه المؤسسات تتمثل في مركز تعاون الصين- آسيا الوسطى للحد من الفقر، ومركز تعاون الصين- آسيا الوسطى للتبادلات التعليمية، ومركز تعاون الصين- آسيا الوسطى لمكافحة التصحر، ومنصة تعاون الصين- آسيا الوسطى لتيسير التجارة. حيث يتم التأكيد على استكشاف وصياغة روح الصين- آسيا الوسطى التي تتسم بالاحترام المتبادل والثقة والمنفعة والمساعدة المتبادلة والسعي إلى تحقيق التحديث المشترك عبر التنمية عالية الجودة.